صناعة السّفن.. التاريخ والأنواع

حواس محمود


اقتضت ضرورات ومستلزمات الحياة عند الإنسان القديم في الظروف والأحوال الأولى واللاحقة من التاريخ، وكذلك الحاجة إلى الانتقال أن يلجأ الإنسان إلى استخدام طرق بدائية مختلفة، مثل استخدام جذوع الأشجار الخفيفة العائمة، وحزم القصب ولحاء الأشجار.

في هذا المقال سنتحدث عن صناعة السفن والمواد المستخدمة فيها، كما سيتم التطرق إلى النموذج الخليجي من هذه الصناعة.
 

السفن في قديم الزمان: يشير المهندس ناصر ناصر إلى ثبوت استخدام المصريين في الألف الرابعة قبل الميلاد سفناً كبيرة لركوب النيل - إذا صدقت الوثائق والرسوم التي وصلت إلينا من بقايا الآثار – فقد وصل طول بعضها حوالي – 3000- ق. م حتى (30) قدماً، كانت تنقل الحجارة والتماثيل إلى المعابد والمقابر المقدسة من الصعيد الأعلى لمصر إلى الدلتا، واستعملت تلك السفن الشراع المربع الوسطي، بالإضافة إلى المقاديف، والسفن المصرية البحرية كانت مشابهة إلى حد بعيد سفن النيل النهرية، وكان طولها يصل إلى 60 قدماً.

أما سفن جزيرة كريت واليونان والفينيقيين والرومان؛ فكانت تشابه سفن المصريين، لكن السفن الرومانية واليونانية كانت تمتاز بسمات رئيسة عن المصرية:
1- كان لها عيدان داخلية.
2- اختلاف شكل المقدمة عن المؤخرة.
3- المؤخرة منخفضة أكثر من المقدمة.
4- كانت السفن تلوح بألواح ثخينة وتجمع نهاياتها بقوة، والبدن كان عادة من الأعلى مفتوحاً أو معلقاً جزئياً على السطح والمشيدات العلوية، كانت نسبياً محدودة تقع في المقدمة أو المؤخرة من الجسم مباشرة أو على السطح.
5- أغلب السفن كانت ذات شراع مربع واحد، وبعضها لاحقاً كان له شراعان مربعان: واحد في المقدمة والثاني في المؤخرة.

عصر السفن الشراعية:

باختراع الشراع برز النمط الأساسي للسفن، واكتمل بروزه باختراع السفن المصنوعة من الكتل الخشبية السميكة، وخلال الـ 5000 سنة التالية لتلك الفترة، ركّز بنّاؤو السفن على تصميم سفن ذات أحجام أكبر، كما ركزوا على تطوير أدوات السفن، الأشرعة بصواريها وحبالها، ونجح بنّاؤو السفن في الأزمان الغابرة في بناء سفن كبيرة الأحجام، ولكنهم نجحوا بقدر أقل في تطوير أدوات السفينة. إن التطويرات المهمة في جهاز السفن بدأت في القرن الخامس عشر الميلادي، ووصلت إلى درجة عالية مع بروز السفن الشراعية الكبيرة في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي.


صناعة السفن في الخليج العربي:

إن تاريخ صناعة السفن في منطقة الخليج العربي تاريخ قديم حافل بالمعلومات، وقد تطرق إليه الكثير ممن كتب عنه بدقة، وعن شخوصه الذين عاشوا في تلك الحقبة من التاريخ منذ زمن في هذه المنطقة العربية.

ولقد اعتمدت صناعة السفن في الخليج على أيدي مهرة توارثوا هذه الصناعة عن آبائهم، وتمكنوا من صناعة أجمل وأروع السفن على مدى العصور، وهنا يتبين أن لهؤلاء -صناع السفن- لهجةً خاصةً بهم، وبعض المصطلحات التي توارثوها أيضاً، والتي امتزجت بثقافات بعض الشعوب التي كانت لها علاقة بالتجارة بين بلدانهم منذ ما يقارب ألفين وخمسمائة سنة حتى يومنا الحاضر. لقد مرت هذه المنطقة بتطورات كثيرة في صناعة هذه السفن. وقد ذكر الأوائل من النواخذة والبحارة مسميات لهذه السفن، ومن هذه الأسماء التي تطلق على السفن حتى يومنا هذا مثل اسم: الخشب والمحامل واللنجات. وأما اسم اللنجات فهو اسم حديث أطلق على السفن التي تعمل بالمحركات، وأما التي تعمل بواسطة الشراع فتسمى بالدومي.

لقد مرت صناعة السفن على مر السنين بمراحل عديدة، حيث قام سكان هذه المنطقة في بداية الأمر بعمل طوافات من جذوع النخيل، والتي تسمى محلياً بـ«الجزم» -ومفردها جزمة– ويتم ربطها ببعض بالحبال وتحميلها بعض البضائع خفيفة الوزن، والتنقل بها على طول ساحل الخليج، وأكثر ما كان ينقل على تلك الجذوع هو المعدن الأصفر المسمى بالصفر من عمان إلى جزيرة البحرين، والتي كانت قبل ذلك تنقل على ظهور الجمال لتتم عملية صهره في جزيرة البحرين، وذلك قبل أن تتحول عملية الصهر إلى عمان.

إن عملية نقل صفائح المعدن على ظهور الجمال والتي كانت تسمى بالمحامل صعبة للغاية، ولا تتحمل الدواب عناء هذه الأحمال والسفر بها على طول الساحل، ففكر سكان هذه المنطقة بابتكار وصنع طوافات، وتمت صناعتها واستخدامها للنقل وأخذت مسمى المحامل، كما كان يطلق على الجمال التي تحمل المعدن الأصفر سابقاً، وبعد فترة من استعمال هذه المحامل وصعوبة الوصول بها إلى جزيرة البحرين، وما تمر به من مراحل وفي وقت معين؛ لتجتاز هذه الطوافات المسافة من شبه جزيرة قطر إلى جزيرة البحرين اعتماداً على التيارات المائية، وعلى موسم الهواء المسمى برياح: «لكوس»؛ لكي تساعد هذه المحامل على العبور بواسطة المجاديف. ولأن هذه العملية صعبة للغاية فكر صناع هذه الطوافات بتخفيف هذه الجذوع، وإضافة الشراع عليها مع المجاديف، فقاموا بتفريق هذه الجزم وإبعادها عن بعضها البعض بعد أن كانت متراصة. وقاموا بتشريح الأشجار المحلية وتركيبها فوق الجزم حتى يخف وزنها، وتزيد من سرعتها، وبعد أن تمت هذه العملية بنجاح أطلق عليها اسم الخشب، وهذا الاسم مرتبط بالسفن المحلية حتى يومنا هذا.
لقد تم شحن هذه الطوافات من عمان والمرور بها على ساحل الخليج حتى الوصول بها إلى البحرين بعد معاناة طويلة، بسبب توقف هبوب الرياح الموسمية أو لهبوب العواصف الشديدة أحياناً، وبعد مرور كثير من الوقت قام صناع السفن وهم الذين أطلق عليهم اسم القلاليف بإدخال التعديلات على هذه الطوافات، حتى صنعت أول سفينة خليجية التي أطلق عليها اسم السنبوق «السنبوك المخيط»، والتي ما زالت تخاط وتربط أجزاؤها بالحبال المجدول المسمى محلياً بـ«الاستعمالة» قبل عملية إدخال المسامير في صناعة هذه السفن، وفي حوالي القرن السادس عشر، عندما غزا البرتغاليون جزر البحرين، اكتشف القلاليف في هذه المنطقة كيفية تركيب وتثبيت المسامير في تلك السفن، فاقتبسوا فكرة ربط المسامير في أضلاع هذه السفن بعد ما كانت تثبت وتربط بالحبال.

المواد المستخدمة في صناعة السفن قديماً:

الأخشاب: بما أن السفن الشراعية تبنى من الأخشاب، فمن البديهي أنها عنصر هام في عملية صناعتها.. وتاريخياً؛ فإن أول من جلب الأخشاب الضخمة للبناء في الكويت قديماً هو المرحوم أحمد بن رزق الأسعدي، ثم تبعه الكثير من التجار فيما بعد، حيث قاموا بجلب الأخشاب والمواد الأخرى اللازمة لصناعة السفن قديماً، ومن أشهرهم حمد الصقر - عبدالعزيز العثمان - أحمد الخرافي - فلاح الخرافي عبدالعزيز حمد الصقر - خالد الدواود المرزوق وإخوانه - شاهين الغانم محمد العصفور - عبدالوهاب بن عبدالعزيز القطامي - محمد ثينان الغانم راشد بورسلي وغيرهم، وفي حال الانتهاء من عملية البناء يتم بيع الزائد عن الحاجة من تلك الأخشاب لتجار الأخشاب في الكويت قديماً، وتعتمد السفن الشراعية على نوعية من الأخشاب في صناعتها، حيث يتم جلب تلك الأخشاب المختلفة من غابات الهند وإفريقيا وهي كالتالي:
الساج: أهم تلك الأخشاب المستخدمة في علمية البناء على وجه الإطلاق، وذلك لمرونتها وقدرتها الفائقة على التحمل.
النيبار: خشب يجلب من الهند، ويستخدم في صنع أجناب السفنية وسطحها.
سبيط: خشب يجلب من إقريقيا ومن الصومال، ويستخدم "للشلامين" أضلاع السفينة.
الجنكري: خشب يتميز بأصلابه ومتانته ويجلب من النيبار، ويستخدم في صنع

"بيص السفنية" والصدر والسلبيس والصور. وفي الغالب تستهلك عملية بناء السفن من الأخشاب ما يقارب 20 "بدنة"؛ أي مائتي لوح من الأخشاب الطويلة الضخمة المشقوقة على هيئة ألواح من خشب الساج، كما تستهلك عشرين "كورية"، و400 قطعة خشبية لعمل أضلاع السفنية "لشلامين"، هذا غير الأخشاب المستخدمة في سطح السفينة.

المسامير: بجانب الأخشاب التي تستخدم في صناعة السفن قديماً، وتستخدم المسامير الحديدية التي يصعنها الحدادون في الكويت، كما تجلب المسامير من عبدان والهند والبحرين، وتعتبر المسامير البحرينية مفضلة لدى الكثير من العاملين بهذه المهنة، أما بالنسبة لحجم المسامير فهي من مختلف الأحجام، كل حسب استخدامه، ويتراوح طولها ما بين ذراع أو أكثر ووصولًا إلى المسمار الصغير العادي، وتستهلك عملية بناء السفن ما بين 10،0000 ولغاية 25،000 من المسامير الحديدية، وتختلف الكمية حسب حجم السفينة ومواصفاتها.
الفتايل: هي خيوط قطنية تستخدم لسد الفجوات ما بين الألواح في السفينة عند طريق وضعها في "الصل" لكي تكون ملتصقة، حيث توضع ما بين الأخشاب لمنع تسرب المياه داخل السفينة، ويتم جلب خيوط الفتايل من دبي ومن الهند.
الصل والشونة: "الصل" مادة تستخرج من أسماك القرش، وهي مادة ذات رائحة قوية يتم جلبها للكويت من جنوب الجزيرة العربية ومن النيبار بالهند، حيث يتم دهن أخشاب السفينة بعد الانتهاء من صنعها، وقبل التدشين لحماية الأخشاب وإطالة عمرها، أما "الشونة" أو ما يعرف بالودك، فهو مزيج من الدهن والجير يستخدم لطلي الجزء الأسفل للسفينة المتأثر بالمياه بتلك المادة، لحمايتها من المياه المالحة، وذلك لمقاومة تلك المادة لملوحة مياه البحر، هذا بالإضافة إلى أنها مادة عازلة أما النصف المتبقي فيدهن بمادة "النحاس" الأصفر، التي تحد وتمنع من تآكل الأخشاب.
نسيج الشراع (الغزل): نسيج الشراع أو مايعرف "بالغزل"، يجلب عادة من البحرين ومن الهند، وكراتشي وبراوة على شكل "دريات" لفات أو أثواب يتراوح طول "الدرية" ما بين 40 إلى 50 متراً بعرض 70 سم، يتم تقطيعها إلى قطع مستطيلة الشكل تعرف "بالشق" التي تشكل الشراع بعد خياطته، وذلك حسب النوع والحجم المراد، وحسب نوع السفينة وفق قياسات معينة متعارف عليها.
حبال السفينة: الحبال المستخدمة في السفينة مصنوعة من الليف المستخرج من شجرة جوز الهند "عساوة" (عراجين) النخيل، وتكون على شكل أحزمة أو "بيطات" مختلفة الحجم ما بين صغيرة وكبيرة، وتجلب من مدينة "كلكتا"، وتربط الحبال بطرق مختلفة منها "النشفة"، و"التربيعة"، و"الغرفة"، و"الهندية"، وتعرف الحبال حسب الطول والسمك والاستعمال فالحبل السميك يسمى "العّمار"، و"الصغير" استعمالة"، والحبال المستخدمة لدى الغواصة تعرف بـ"ابريدون"، ومن أجود أنواع الحبال حبل يعرف باسم "الصركالي"، وهناك غيرها مصنوعة من القطن... وتستخدم الحبال في صاري السفينة المعروف بـ"الدقل"، حيث يتصل به عدد من الحبال مثل "لزيار"، وهو الحبل الذي يربط الدقل و"العمارين" في الجهتين اليمنى واليسرى من الدقل في المنتصف، و"البياوير" يقع في الجهة الأمامية من الدقل و"الخماري" في أعلاه، كذلك توجد حبال "الدامن" و"الدرور"، و"المحْ"، وتستخدم في ربط وتقوية الشراع، ولكل ما تم ذكره من الحبال وظيفة الخاصة به لغرض معين.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها