السيرة الذاتية وأَسطَرة الذات المتشظية

قراءة في إبداع "المجولي الأخير" إيهاب الورداني

د. أحمد علي منصور


القاص والروائي "إيهاب الورداني" (1957-2020م)، الأمين الأسبق لصندوق اتحاد الكتاب بمصر، رحل وهو في أوج عطائه النقابي والإبداعي متأثرًا بإصابته بوباء كورونا، الذي أودى بحياة العشرات وربما المئات من الكتاب في الوطن العربي، فضلاً عن الملايين من سكان الكوكب. كان الراحل قد أنجز في السنوات الأخيرة مجموعة من الأعمال التي كشفت عن مشروع إبداعي كبير، كان يخطط لإتمامه في قادم السنوات، لكن القدر لم يمهله، ليسدل الستار على تجربة حياتية مفعمة بالمرارات والأحلام الموءودة المسرودة كشفًا أو تأويلاً في أعماله، التي آثر أن تسير في منحى السيرة الذاتية في المرحلة المهيضة من مشوراه الإبداعي.

ومع تخطيطه لمُنحنى جديد وفارق في تجربته الإبداعية، كان الورداني مسكونًا بهاجس الموت، أشبه بمن يسابق الزمن ليدلو بسيرته الزمكانية المؤرخة لشاهد وإنسانٍ مبدع مرّ في هذا الزمان من هنا، مؤمنًا بدور المثقف وشهادته الضرورية على قومه وزمنه. وقد أعلن عن تلك الهواجس في عنوان وأحشاء مجموعته القصصية الأخيرة "ثمة حارس يفزعه الوقت"، كاشفًا عن محنته بهاجس الوقت والموت، بنفس القدر الذي كان مهمومًا فيه لتأكيد تشظي الذات والوطن، سواء عبر تقنيات الكتابة السردية المتشظية دائمًا، أو عبر مشاهده ومناجياته مع الذات، أو مع الآخر، أو مع الزمان، أو مع المكان المخصوص حقيقة كان أم رمزًا. من هنا فقد أخذت كتاباته طابعًا وجوديًّا في كثير من الأحيان، غذّته لغة شعرية موظفة تأخذ القارئ لأعماق النص ومراميه الظاهرة أو الخفية. ولعل الورداني، وهو شاعر أيضًا، كان يتمثل مقولة الشاعر عذاب الركابي، التي كتبها في دراسة له عن قصص الورداني ذاته: (السّردُ مِن دُون أن تَمُرّ تقنياتُه مِن بوّابة الشِّعر، لا يُعوّل عليه).

وهذه الهواجس، وتلك القضايا، الذاتية والجمعية، نجدها ممتدة في أعمال الورداني القصصية: "على باب ناعسة" (1993م)، و"الإرث" (1999م)، و"ثمة حارس يفزعه الوقت" (2018م)، وكان يسمي كل منها (ديوان قصص)، ليربط السَّردَ بالشِّعر، وليعبّر أيضًا عن الوحدة العضوية والموضوعية بين قصصه، سواء في المجموعة الواحدة، أو عبر مُجمل سردِيّاته. كما صدرت له كتابات شعرية أسماها "نصوصًا"، وهي: "الرجفة والجمر"، و"أحمل وطنًا يشبهني". وله روايتان مخطوطتان: "فصول البراري"، و"إلى حيث أنا"، والرواية الأخيرة التي صدرت بعد رحيله، وهي "نخلة الهيش"، بالإضافة لعدد من الكتب النقدية.

وبهذه الأعمال إجمالاً، تتمظهر هواجسُه وقضاياهُ وشواغلُه في البِنَى السّطحية والعميقة للنصوص، وبخاصة شخصياته التي كانت ذاته مركزًا لعوالِمها، والتي تبدو في الظاهر سيرة ذاتية خاصة، بينما هي في بعد آخر سير جمعية، لا لمجتمع القرية المصرية وحسب، بل للوطن، وللأمة أيضًا.

كما تكشف تلك الكتابات بوضوح أنه –برغم هاجس الموت- كان يمضي دؤوبًا لمستقبل مكتنز بالمشروعات الروائية الجديدة، لكن الأجل عاجله وقضى على أسطورته المخطط لها لتخليد سيرة "مجول"، الرمز المختار لتمثيل وطنه، من بين مئات القرى المنسية مثل قريته. و"مجول" هذه قرية تابعة لمركز "سمنود" بمحافظة الغربية بأعماق ريف دلتا مصر، عاش بها "الورداني" طيلة حياته، لم يبرحها، بل وعندما انتقل لمباشرة مسؤولياته النقابية بالقاهرة، لم يبرح ناسه وأهل قريته، وتلك البيئة الريفية التي مثلت المرتكز المكاني الأساس في إبداعه، وبخاصة روايته الأخيرة "نخلة الهيش". وربما يصح تصوري أن هذه الرواية لم تتم، بالنظر إلى أن فصولها لم تسدل الستار على الشخصيات والحوادث على النحو الذي يتسق بالفصول المعمقة المكتنزة، والتي لا بد وأنها ترمي لمزيد من الآفاق والأعماق. لكن الشاعر "محمد الدش"، من أقرب أصدقائه، يعتقد أنه أتمها هكذا، وإنما كان يريدها جزءًا أوَّلَ من سلسلة أو متوالية روائية تتوزع على عدة روايات، كثلاثية نجيب محفوظ مثلاً. ولعل هذا التفسير يتسق فعليًّا مع طريقة الورداني السردية، التي تتصل من خلالها أعماله المتفرقة كوحدة واحدة، تتحد وتلتحم أحيانًا (لوحدة الهَمّ والمَرْمَى)، وتتشظّى أحايين وفقًا لتقنياته المعهودة التي تجمع النصوص في أعماق التأويل بين المساحات المتفتحة في السّرد، دون أن تصيب النصوص بخرق أو اختلال فني.

ففي "نخلة الهيش"، يستكمل الورداني سرديته الخاصة حول ذاته المُجولِيّة، أي ذاته المتجذّرة في تراب قريته الأثيرة، المسرح الزمكاني الذي حاول أن يُؤسْطِرهُ في هذا العمل بالذات من بين أعماله، وإليها يهدي الرواية قائلاً وهو يناجيها بنبرات شعرية موقعة كومضة من شعر التفعيلة:
(يا مُجُول
ما علِمتُ لَكِ مِن مُحِبٍّ غيرِي
فَأوْقِدِي لِي عَلى طِينِكِ
أَجْعَلْ مِنِّي صَرْحًا لِيَرَوْكِ).

وبالرغم من التناصّ القرآنيّ الواضح؛ وإذ لا أساطير في القرآن الكريم؛ فإن الورداني يتخذ من هذا التناص جسرًا للعبور بقريته إلى عوالم الأسطورة؛ إذ يُدخلها الإبداع في أعماق التاريخ المحفوف بالأساطير التي تحكيها الآثار. ولكن بالاتكاء على الدَّوالِّ المذكورة في القرآن، وإن كانت بذاتها حقائق، إلا أنها تكتسب قيمًا مجازية متجددة من خلال التناصّ؛ بأن تصير تلك الدوالُّ/ الحقائقُ رُموزًا مُشفّرة، تتخلق من العلاقات الاستبدالية المجازية، ولتحل في دوالٍّ أخرى حقيقية أيضًا (هي مجول، القرية المصرية). ومن هذا التعالق المجازي الرموزي تتحول "مجول" الحقيقة إلى رمزٍ، وتكتسب سمات ومدلولات الرمز المتعالق؛ فمن ثم تصير أسطورة بذاتها المكانية والزمانية معًا. لكن هذه الرواية سيرة ذاتية للورداني المبدع والفارس والشخصية المركزية السافرة أو المقنعة في بنية السرد المباشر أحيانًا، والمرواغ أحيانًا أخرى، على أن "مجول" تعلو على فارسها، الذي وإن كان يطلب منها أن تبني منه صرحًا، بما أنه أهل للمجد، لكنه يريد أن يرتفع عاليًا ليرى الناس هذا المكان من خلاله. وصحيح أن "مجول" لا تزال تحتفل بذكرى هذا المبدع المنتمي لبلده وأهله، وتواصل الأنشطة الثقافية والخيرية التي كان يباشرها بانتظام في حياته، إلا أن هذه القرية -التي كانت من قبل مجهولة منسية- قد صارت ملء أسماع وأبصار الكثير من مبدعي مصر، سواء من خلال مواصلة مشاركاتهم في تلك الأنشطة المستمرة، وفاءً لذكراه، أو من خلال إبداعات الورداني التي جعلها خالصة لوجه الوطن، المتمثل في "مجول"؛ الحقيقة والرمز.

فلقد كان للورداني –ولا شك- مآرب أخرى من خلال "تمجيل" المسرح المكاني للرواية، أي جعله مُجُولِيًّا؛ إذ لم ينصرف كل قصده –بالطبع- إلى مقاصد ذاتية من وراء حكيه السِّيَرِيِّ، إنما أحال على الرمز المُجُولِيِّ قِيمًا أخرى، للتأويل أن يُسفر عنها، لنكتشف دوائر مُجُولِيَّة رموزية أخرى؛ مركزها الوطن، ومحيطُها "مُجول" كُبرى، هِي الأُمّة كلها. لكنّ "مُجُول" المصرية هي عصب السّرد ومَرماه، مُمثلة لكل القرى المصرية التي تكاد تكون نُسخًا كربونية في كل شيء؛ في بيئتها الريفية، وأنشطتها الزراعية، وعمارتها البسيطة والمتواضعة، ولهجات وثقافات ناسها، وقيمهم الدينية والأخلاقية، وغير ذلك مما ينفرد به الريف المصري ذي الطبائع التي أرّخها السّرد العربي في كل تجلياته المهمومة بالقرية وناسها. ولقد مارس السرد "الورداني" هوايته وغوايته في أسْطَرَة ذاته وقريته وزمنه، في إطار تقنية بنائية انطلقت بسرودها من الأساطير والبرديات المصرية الهيروغليفية، وانتهت للرّاهنِ الزّماني، في إشاراتٍ إلى وحدة الزمن التاريخيّ لا انفصالِه، وتعبيرًا عن الامتِداد العميق للثقافة وهُمُوم الإبداع القديمة المتجددة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها