تعتبر فريضة الحج في الإسلام من أهم الدوافع التي دفعت آلاف الحجاج الموريتانيين للسفر كل سنة إلى الديار المقدسة؛ لتأدية هذه الفريضة متحدين كل المصاعب والأخطار عبر مسالك الصحراء الوعرة. وكان من عادتهم الذهاب في جماعات ضمن ركب ينطلق من حواضر البلاد إلى الديار المقدسة، مروراً بفاس في المغرب وتوات في الجزائر، ويؤكد ذلك ما أورده البرتلي صاحب فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور، في معرض حديثه عن الحاج أحمد بن الحاج الأمين الولاتي، الذي ترأس ركب الحجاج من ولاتة إلى توات1. كما سجل لنا محمد يحي بن محمد المختار الولاتي في طريق رحلته إلى الحج بحاضرة تندوف، معلومات مهمة عن إقامته بها دونها في رحلته الشهيرة إلى الحج.
أنتج التراث الثقافي الموريتاني الرحلات الحجية مما كان له كبير الأثر في ربط الصلات مع المحيط العربي الإسلامي، وقد قام العلماء من خلال تلك الرحلات بتسجيل مشاهداتهم فوصفوا الطرق والمسالك، ورصدوا أحوال الناس، حيث تركوا لنا معلومات عن الأقطار التي زاروها والشخصيات التي لقوها، مما ساهم في إثراء الحياة العلمية بجلب الكتب والمتون والأسانيد والإجازات، وتدعيم جسور التواصل الثقافي والاجتماعي بين طرفي الصحراء.
وسنتوقف بشكل أساسي عند رحلة محمد يحيى الولاتي كنموذج، وذلك لما لصاحبها من مكانة علمية في بلده موريتانيا وجوارها العربي والإفريقي، ولما وثقه في رحلته من معلومات، مستعرضين الموضوع في مقدمة وخاتمة وثلاث محاور: المحور الأول ركب الحاج الموريتاني، والمحور الثاني: محمد يحيى الولاتي بيئته وحياته، والمحور الثالث: رحلة الولاتي إلى الحج.

المحور الأول: ركب الحاج الموريتاني
كان الحج من أكثر العبادات أهمية لدى سكان البلاد، حيث عبروا عن تعلقهم بالديار المقدسة منذ مئات السنين. ويرجع ذلك من بين جملة أسباب أخرى، إلى تطور تقاليد التجارة بعيدة المدى، وتعاقب تلك المدن مع المجالات التي حكمتها الممالك الإسلامية السودانية (مالي، السونغاي)، والتي نسجت منذ قرون علاقات دينية وتجارية وثقافية وطيدة مع الأمصار المشرقية.
وبعد انهيار مدن الساحل، بسقوط مملكة السونغاي، استقلت مدن الساحل الصحراوي بركابها عن صنوها السودانية، وأصلت تقاليدها الحجية وفق نظمها الثقافية والأهلية ومحيطها البيئي الصحراوي. وقد استطاعت جماعة الحل والعقد في كل مدينة أن تنظم ركبها الحجي الخاص: الركب الولاتي، الركب التيشيتي، الركب الشنقيطي، قبل أن تصبح مدينة شنقيط منطلقاً لركاب الحج الصحراوية كلها، فأضحت تسمية الركاب كلها تعود إلى الركب الشنقيطي الكبير.
ليس من شك في أن فريضة الحج في الإسلام كانت الدافع الأساس وراء سفر آلاف الحجاج من غرب الصحراء وغرب إفريقيا إلى الحجاز كل سنة، لكن هذه العملية الكبرى، حسب مختلف الشهادات المتوافرة، لم تكن اعتباطية أو تنحو منحى ارتجالياً، بل كانت بعيدة عن ذلك كله، فقد تشكلت منذ قرون ركاب حاج أهلية شنقيطية وسودانية محكمة التنظيم على مستوى بنيتها البشرية، ومواردها المالية وعلاميها ومرشديها وفقهائها المعنيين بالنوازل، وترتيب الحركة والمكوث حسب مقتضيات الزمان والمكان2.
1- ركب الحج الولاتي:
ينسب هذا الركب الحجي إلى مدينة ولاتة الواقعة على حافة الهضبة الكبرى في أقصى الشرق الموريتاني. وقد تأسست في القرن 2هـ/ 8م، ثم ازدهرت على يد التشكيلات الصنهاجية - العربية في القرون الموالية محطة تجارية نشطة على الطريق التجاري الغربي، وحاضرة علمية لا مثيل لها في غرب الصحراء.
وقد بدأت تقاليد الحج تترسخ في ولاتة على عهد مملكة مالي، التي كان لها نفوذ على المجال الشرقي الموريتاني الحالي، وإن ظل نفوذاً اسمياً بفعل وجود القبائل المسوفية العصية الانقياد، ثم لأن الحكام الماليين قد صاروا في أواخر عهدهم يولُّون على السكان حكاماً من بني جلدتهم، وفي العهد المالي كان الحج الرسمي والأهلي يمر من خلال حاضرة ولاتة لأسباب مجهولة3.
دأب سكان ولاتة على تنظيم رحلات جماعية إلى الحجاز لأداء مناسك الحج، وزيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، غير مكترثين بطول الطريق ومشقة السفر، وكان من عادتهم الذهاب في جماعات ضمن ركب ينطلق من ولاتة إلى الديار المقدسة مروراً بتوات، وهو ما أشار إليه البرتلي في سياق ترجمة الحاج أحمد بن الحاج الأمين الملقب بالتواتي أنه "حج مرات بيت الله الحرام، وهو شيخ الركب من أرضنا حتى يصل إلى توات فيكون الأمر لأبي نعامة"4.
وابتداء من توات كانت قيادة الركب تعود إلى أبي نعامة الكنتي التواتي شيخ الزاوية القادرية الكنتية في بلدة آقبلي "من عمالة توات"، التي كان لها دور استثنائي في الحياة الدينية والتجارية في شبه المنطقة، كما ترددت أصداؤها في المصادر المشرقية خلال القرن 12هـ. فقد ذكرها الزبيدي في مصنفه النادر معجم المشايخ، وترجم لأعيانها ومنتسبيها، وذكر شيخها أبا نعامة الملقب بالبكاي، وحلّاه بالولي الصالح وأثنى عليه، وأجازه عندما قدم القاهرة سنة 1197هـ5.
2- ركب الحج التيشيتي:
نسبة إلى مدينة تيشيت الواقعة إلى الغرب من ولاتة في الهضبة الشمالية من الشرق الموريتاني، وقد تأسست هذه الحاضرة سنة 536هـ، ولكن تقاليدها الحجية لم تزدهر إلا مع مثيلتها الولاتية والشنقيطية. وقد ظل الركب التيشيتي يختلط بالركب الولاتي لقربه منه، أو يتجه مباشرة إلى توات حيث ينسق مع باقي الأركاب6.
3- ركب الحج الشنقيطي:
شنقيط في الأصل مدينة من مدن منطقة آدرار إلى الشمال من وسط موريتانيا الحالية. وقد تأسست مدينة شنقيط سنة 660ه/1261م، قرب مدينة أخرى كانت تعرف بآبير بنيت سنة 160هـ/ 776م، ثم اندثرت في ظروف غامضة، فهاجر سكانها إلى موضع قريب منها، وفيه أقاموا المدينة الجديدة.
لكن المدينة لم تشهد ازدهارها الحقيقي إلا في القرن 12هـ، بعد أن أصبحت مركز انطلاق لركاب الحاج من غرب الصحراء، الأمر الذي أدى إلى إطلاق اسمها على كافة المجال الموريتاني الحالي7.

أصبحت شنقيط مند القرن 12هـ / 17م مركزاً لانطلاق ركب الحجيج الرئيس بالنسبة لغرب الصحراء بشكل منتظم كل سنة، فقد أورد الفقيه سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي (توفي سنة 1333هـ / 1814م) في رسالته "صحيحة النقل في علوية إيدوعلي وبكرية محمد غلي" ما نصه: "وكان الركب يمشي من شنجيط إلى مكة كل عام، ويحج معهم من أراد الحج من سائر الآفاق، حتى إن أهل هذه البلاد، أعني من الساقية الحمراء إلى السودان إلى أروان، يعرفون عند أهل المشرق إلى الآن بالشناجطة..."8.
ومن مدينة شنقيط يلتحق ركب الحجيج بالركب الفاسي للتوجه إلى توات فغدامس، ففزان، فالقاهرة، فالحجاز. وقد أدت عملية انتظام الحجيج وتكتله في ركب واحد إلى بلورة حيز ثقافي واجتماعي خاص بشنقيط، من خلال زيها الموحد الذي ميزها عن غيرها من سائر حجاج المناطق الأخرى9.
وكان الحجاج يتعرضون في الطريق لصعوبات جمة من أبسطها غارات اللصوص المتكررة عليهم، وهذا ما جعل بعض الفقهاء الشناقطة يجيزون ضرورة مداراة قطاع الطرق واللصوص حفاظاً على الأنفس والأموال، وذلك بسبب انعدام الأمن في الصحراء10.
المحور الثاني: محمد يحيى الولاتي بيئته وحياته
1- بيئة الولاتي:
ينتمي محمد يحيى الولاتي إلى مدينة ولاتة في أعماق الصحراء الموريتانية، ومنها أخذ شهرته حتى أصبح يلقب بالولاتي.
يدور جدل بين المؤرخين حول التاريخ الفعلي لتأسيس هذه المدينة، إذ تعتقد بعض الروايات التقليدية أنها تأسست في القرن الهجري الأول وأن مؤسسها هو الفاتح العربي عقبة بن نافع11. وفي هذا الصدد يقول بول مارتي: (لقد ترك عقبة أحد أبنائه وهو العاقب في بيرو، وهي مدينة قديمة قامت ولاتة على أطلالها... وقد تابع الرجل فتوحاته في إقليم الساحل السوداني وأخضع التكرور، ثم انطلق نحو الشمال تاركاً ابنه العاقب زعيماً للبلاد ونائباً، وقد شيد العاقب مسجداً في بيرو -ولاتة- ودفن فيه، وما يزال ضريحه ماثلاً إلى الآن)12. فيما يرى المؤرخ المختار ابن حامد أن المدينة تأسست من طرف زنوج سونونكيين نزحوا إليها من غانه13. وقد تصدعت أركان مملكة غانا حينها تحت ضغط أمراء صوصو في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وهاجر علماؤها إلى ولاتة في إطار هجرة مشهورة14.
ويستشف من الرواية الشفوية المحلية أن المدينة أسست قبل قدوم قبيلة المحاجيب، ذلك أن جدهم الأعلى يحي الكامل وصل ولاتة في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي15.
وقد عرفت المدينة عدة تسميات أطلقت عليها في فترات زمينة متفاوتة وفي ظروف اجتماعية خاصة، فقد ذكرها ابن خلدون باسم (ولاتن)16 ، وتحدث عنها عبد الرحمن السعدي في تاريخ السودان فسماها: (بيرو)17. وذكر الشيخ سيد محمد بن الشيخ سيد المختار الكنتي أيضاً أنها كانت تسمى (بيرو) قال: أو (سير)18.
وذكرها ابن بطوطة باسم (إيوالاتن)19، وهو نفس الاسم تقريباً الذي ذكره أحمد بن المقري20.
والاسم المتعارف عليه حالياً للمدينة هو ولاتة، وهي إحدى المقاطعات التابعة لولاية الحوض الشرقي (موريتانيا) الواقعة إلى الشمال من عاصمة الولاية -النعمة- على بعد 100كلم.

اشتهرت مدينة ولاتة التاريخية العريقة منذ أقدم العصور بمدرستها الدينية المختصة في العلوم القرآنية، والدراسات الفقهية المختلفة كالفقه وأصوله والفرائض، وعلم التوحيد وعلم الحديث، وعلم اللغة العربية من نحو وصرف وغيرها من العلوم.
وكانت المدينة عبر تاريخها منارة للعلم والثقافة في الصحراء وبلاد السودان، وقد شكلت امتدادًا لنهضة علمية واسعة عرفتها الحواضرُ المنتشرةُ في الصحراء، كتيشيت وشنقيط ووادان.
وقد عرفت بكثرة مجالس العلم وحلقاته، فأنجبت شيوخاً وعلماءَ كانوا روادَ إصلاحٍ وناشري علمٍ ومعرفة، ومن بين هؤلاء العلامة والفقيه المجدد محمد يحيى الولاتي.
2- حياة الولاتي:
هو محمد يحيى ولد محمد المختار ولد الطالب عبد الله بن أحمد حاج، سليل أسرة علم وأدب، تنتمي إلى قبيلة أولاد داوود العربية المنتسبة إلى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. ولد بمدينة ولاتة الصحراوية عام 1259هـ/1843م، وتوفي بها سنة 1330هـ/ 1912م21.
عاش يتيماً ترعاه أمه "العزيزة" في بيت أخواله أهل الحاج ببانه، وكغيرها من الأمهات كانت حريصة على أن يبلغ ولدها من الشأو مبلغ ما وصل إليه أجداده، وهكذا فكرت في أن ترسله إلى خارج ولاتة لتلقي العلم، غير أن أحد الصالحين أشار إليها بأن ولدها سيتبحر في العلم دون أن يبرح مدينته. وقد تهيأت له أسباب التحصيل بما منحه الله من الذكاء والفطنة والهمة العالية في اكتساب المعارف حتى إنه اشتهر بقوله: "إن ضوء النهار نعمة أعز من أن تستغل في غير طلب العلم"22.
كان لاشتغال محمد يحيى الولاتي بالعلم وانصرافه إلى التحصيل دور كبير في صقل موهبته إلى درجة أن بدأ، وهو ما يزال في ريعان شبابه بمناظرة كبار العلماء ونقض أحكام القضاة، وإصدار الفتاوي التي امتازت بالاستقلالية والحدة أحياناً، وأشهرها على الإطلاق فتواه الشهيرة حول بطلان صلاة الجمعة في مدينته ولاتة، والتي أدت به إلى اعتزال الصلاة في مسجدها العتيق، بحجة احتكار الإمامة، وتسلسل وراثة منصبها في إحدى المجموعات المحلية.
كما كانت له بعض المآخذ على بعض المتصوفة، وانتقاده لما أسماه البدع مثل الغناء، وعقد حلقات الشطح والتقرب للأولياء بالذبح على قبورهم، على الرغم أنه من مريدي الطريقة التيجانية، وهي تنسب إلى مؤسسها الشيخ أبي العباس أحمد التيجاني الجزائري(المتوفى سنة 1230هـ)، وهي واحدة من أهم الزوايا الصوفية ذات الصيت العالمي، حيث تعتبر ذات نفوذ في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين، فقد وصل نفوذها إلى الصحراء وبلاد السودان الغربي، ولها امتداد قوي اليوم في موريتانيا.
اشتهر محمد يحيى الولاتي بكثرة مؤلفاته، فقد ألف نحو مائة من الكتب والرسائل والمنظومات والفتاوي والأراجيز وشروحها، في العديد من المجالات: الشرعية واللغوية والعقلية، في مصطلح الحديث، والأصول، والفقه، ومجموع فتاوى ضمنها أحكام السكك والنقود23.
ومن أهم مؤلفاته المطبوعة:
▪ نور الحق الصبيح في شرح أحاديث الجامع الصحيح
▪ العروة الوثقى الموصل إلى منبع الحق والتقى
▪ المواهب التليدة في حل ألفاظ الفريدة
▪ فتح الودود على مراقي السعود
▪ شرح ورقات إمام الحرمين
▪ نيل السول على مرتقى الأصول إلى علم الأصول
▪ الرحلة الحجازية
ومما يؤكد ضخامة مؤلفاته أبيات منقوشة على ضريحه بمدينة ولاتة:
هذا ضريح من به ... علم الشريعة انتشر
فقهاً ومنقولاً ... ومعقولاً كتاباً وأثر
ألف فــي حياتــه ... مائة سفر وعشـر
3- تصوف الولاتي:
تعتبر الطريقة التيجانية الأحدث والأكثر انتشاراً، وهي واحدة من أهم الزوايا ذات الصيت العالمي، حيث تعتبر ذات نفوذ في بلدان إسلامية متعددة، فقد وصل نفوذها إلى الصحراء وبلاد السودان، ولها امتداد قوي اليوم في موريتانيا، ويكفي أن نشير إلى إقبال سكان ولاتة على الطريقة التيجانية التي انطلقت من الجزائر، فقد تلقاها الكثير من علماء المدينة وأعيانها، ومنهم صاحبنا الذي انتسب لهذه الطريقة، وأبدى تعلقه الكبير بمؤسسها الشيخ أبي العباس أحمد التيجاني الجزائري(المتوفى سنة 1230هـ)، وقد مدحه بقصائد ضمَنها في رحلته إلى الحج، نذكر منها في هذا المقام الأبيات التالية:
قد ظفرنا بمقصـد ونجـاح ... إذ نزلنا فنـاء بيـت الرياحـي
كيف لا وهو وارد بحر وعلم ... موجـه فائـض بـروح وراح
هو مولاي أحمد الختم حاوي ... إرث خير الورى وختم الصلاح24
المحور الثالث: رحلة الولاتي إلى الحج
1- مسار الرحلة:
بدأت رحلة محمد يحيى الولاتي سنة 1311هـ / 1893م، عند خروجه من مدينة ولاتة قاصداً الديار المقدسة لأداء فريضة الحج وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد استغرقت هذه الرحلة ست سنوات وثلاثة أشهر (من 7 رجب 1311هـ / 14 يناير 1894م إلى 6 شوال 1317هـ/ 7 يناير 1900م)، وقد كان مسارها في الذهاب كالتالي: ولاتة – أغريجيت – تيشيت – أغريجيت ثانية – شنقيط – أكليميم – تازروالت، الصويرة – الرباط – طنجة – الجزائر – تونس – بورسعيد – السويس – جدة25.
وأما مسار العودة، فيبدأ من ينبع إلى جدة – الإسكندرية – القاهرة – الإسكندرية – تونس – طنجة – الدار البيضاء – الرباط – مراكش – الصويرة – تازروالت – أكليميم – تندوف – أروان – تنبكتو – ولاتة26.
سلك محمد يحيى الولاتي في رحلته إلى الحج الطريق الأوسط من المحور الغربي، المعروف بالطريق اللمتوني المألوف منذ الفترة الوسيطة، والذي كان مهيمناً على المبادلات التجارية عبر الصحراء في القرنين 11 و12هـ، بفعل عوامل من أهمها تفاعلات الثورة المرابطية، قبل أن يتراجع لصالح المحور الأوسط الرابط بين النيجر وتلمسان، عبر توات فيما بين ق 13 و16م، ليعود إلى الانتعاش مع بداية القرن 17م، ويظل صلة الوصل الأساسية عبر الصحراء بالنسبة لبلاد شنقيط حتى بداية القرن العشرين27.
وتكمن أهمية هذه الرحلة في كونها تمثل مظهراً من مظاهر التواصل الحضاري العربي الإسلامي، وقد فتحت الآفاق المعرفية بالدروس والتآليف والمناظرات، ولقاء الشخصيات العلمية والسياسية والاجتماعية، واستقصت العادات والتقاليد المختلفة، ووصفت المجموعات البشرية في الحواضر والبوادي، وسجلت معالم الطرق والمسالك والمسافات بين مختلف الأمصار والأقطار.
وقد طغى البعد العلمي في هذه المدونة على ما سواه من الأبعاد التي تطفح بها عادة كتب الرحلات؛ إذ لم يحتل الكلام عن أحداث الرحلة إلا زهاء خمس النص، بينما شغلت الفتاوي ومؤلفات الكتب المختلفة وشروحها كل المساحة المتبقية28.
2- مضمون الرحلة:
تعتبر هذه الرحلة نبعاً غنياً ومخزوناً لا ينفد من الفوائد الفقهية والأدبية والجغرافية والاقتصادية والعمرانية، وهي تمدنا بصورة حقيقية عن الحياة الثقافية للبلدان التي زارها المؤلف، كما حفظت لنا ترجمات لبعض المشائخ والعلماء، وسنقتصر في هذا المقام على ذكر بعض محطات المؤلف لما لها من أهمية وعلاقة بموضوعنا.
آ- محطة تيشيت (موريتانيا):
كان وصول محمد يحيى الولاتي مدينة تيشيت سنة 1311هـ، وأقام بها ثمانية أشهر حافلة بالنشاط العلمي، حسب ما أورد في رحلته، كما أورد أيضاً معلومات حول المجموعات السكانية في تلك الحاضرة، وكذلك بعض التقاليد في الأكل والشرب29.
ب- محطة أكليميم (المغرب):
وصلها عام 1312 هـ/ 1894م، واستقر به المقام ضيفاً على رئيسها الشيخ دحمان بن بيروك الذي أكرمه وجماعته أحسن إكرام. وقد أفتاه حول جواز صلاة الجمعة في أحد مسجدي أكليميم القديم أو الجديد أيهما الصحيحة؟30.
ج- محطة تيندوف (الجزائر):
بعد مقام عام وشهرين في أكليميم، توجه محمد يحيى الولاتي وأسرته على الإبل عبر الطريق الشرقي من المحور الغربي إلى تيندوف بالجزائر، واستقر بها عاماً وشهراً31، أجاب خلال إقامته بها عن سؤال وجهه إليه أحمد بن يكن بن محمد المختار الجكني (توفي 1318 هـ/ 1899م)، حول "الحكم الشرعي فيما جرى به العمل في المشرق والمغرب من التفاضل بين السكك في بيع الفضة بعضها ببعض تبعاً للقانون الرومي، الذي اصطلح عليه أجناس النصارى وأجروه في المسلمين"32.
كما أجاب أيضاً أثناء إقامته بتيندوف عن أسئلة منها: سؤال حول علم الكلام تعريفه وموضوعه وواضعيه، وسؤال آخر حول حد علوم الفلسفة وموضوعها وحكمها في الشرع العزيز33.
الخاتمة
يتضح لمن تابع فصول دخول الإسلام إلى الصحراء، ودور القوافل التجارية في ربط الصلات ليس فقط التجارية، بل العلمية والحضارية بين سكان الصحراء وشمال إفريقيا والمشرق العربي الإسلامي، حيث كانت ولاتة حاضرة ومركزاً تجارياً، وينبوع إشعاع علمي وحضاري، ساعدها في ذلك همة رجالها وثراء مدارسها، وحرص علمائها على ربط الصلات العلمية بأقرانهم في المغرب والمشرق والسودان الغربي.
وكان العلامة محمد يحيى الولاتي أنموذجاً لهذه الهمة العالية بسعيه لتكريس نشاط للعلم والإفتاء، ورحلته تعد أهم رحلة للحج في المنطقة لما اشتملت عليه من فتاوي ومقابلات ومناظرات، بالإضافة إلى وصف البلدان المزورة، والتدوينات القيمة التي ضمنها رحلته إلى الحج.
وكون الولاتي يمكث برهة في حاضرة من الحواضر على الطريق الذي سلكه في رحلته تلك؛ لدليل على الأهمية التي يعطيها للتبادل ومعرفة الرجال واستيضاح الأحوال والإفتاء والتدريس، وبناء جسور التواصل بين بلاده والبلدان العربية والإسلامية.
قائمة المصادر والمراجع:
1- أحمد بن الأمين الشنقيطى، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ط. 4 القاهرة، 1989.
2- ابن بطوطة، تحفة النظار وغرائب الأمصار في عجائب الأسفار، دار الكتب العلمية، د.ت، بيروت.
3 - البرتلي الطالب محمد بن أبي بكر الصديق، فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور، تحقيق محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1401هـ/1981.
4 - الولاتي محمد يحي، العروة الوثقى الموصل إلى منبع الحق والتقى، تقديم حسني بن الفقيه، دار النعمان للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1426هـ/2005م، الجزائر.
5- الرحلة الحجازية، تخريج وتعليق محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1990، الرباط.
6- بيع العملات بالتفاضل، تحقيق أحسن زقور، منشورات دار الأديب، 2007، وهران.
7 - بن حامد المختار، موسوعة حياة موريتانيا، التاريخ السياسي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2000.
8- ابن خلدون محمد بن عبد الرحمن، كتاب العبر، دار الكتاب اللبناني، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1967، سبعة أجزاء.
9- المقري أحمد بن محمد التلمساني: نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، 11 مجلد، المجلد 7.
10 - السعدي عبد الرحمن، تاريخ السودان، ترجمة وتحقيق هوداس وبنوه، باريس 1981.
11- سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم، صحيحة النقل في علوية إيدوعلي وبكرية محمد غلي، مخطوط، المكتبة الوطنية، نواكشوط.
12- الشيخ سيدي محمد الكنتي، الطرائف والتلائد، مخطوط، المكتبة الوطنية، نواكشوط.
13- سيدات بن بابي، ولاتة من الماضي إلى الحاضر، ط1، 2005.
14- أحمد محمد محمود، رحلات الحج، مطبعة المحمودية، ط1، 1430 هـ /2009م، الرياض.
15- المختار بن أباه، الشعر والشعراء في موريتانيا، ط1، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1987.
16- ولد السالم حماه الله، المجتمع الأهلي الموريتاني "مدن القوافل1591 - 1898"، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2008، بيروت.
17- ولد السعد محمد المختار، مسالك القوافل ودورها في التواصل الثقافي بين طرفي الصحراء خلال القرن 19، حوليات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، العدد 3، السنة 1999، نواكشوط.
18- محمد الراضي ولد صدفن، رحلات الحج وآثارها القافية في بلاد الشناقطة خلال القرنين 12 و13 هـ "رحلة سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم نموذجا"، مجلة الدراسات التاريخية والاجتماعية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، نواكشوط، العدد1، السنة 2013.
19 - بول مارتي، كنتة الشرقيون، تعريب محمد محمود بن ودادي، د.ت، مطبعة زيد بن ثابت، دمشق.
الهوامش:
1. الطالب محمد بن أبي بكر الصديق، فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور، تحقيق محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1401هـ/1981، ص: 48.
2. حماه الله ولد السالم، المجتمع الأهلي الموريتاني "مدن القوافل1591 - 1898"، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2008، بيروت، ص: 394.
3. حماه الله ولد السالم، المرجع السابق، ص: 400.
4. الطالب محمد بن أبي بكر الصديق، المصدر السابق، ص: 48.
5. حماه الله ولد السالم، المرجع السابق، ص: 400-401.
6. حماه الله ولد السالم، المرجع السابق، ص: 400-401، ص: 401.
7. أحمد بن الأمين الشنقيطى، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ط. 4 القاهرة، 1989 ص: 422.
8. سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم، صحيحة النقل في علوية إيدوعلي وبكرية محمد غلي، مخطوط، المكتبة الوطنية، نواكشوط، ص: 7.
9. محمد الراضي ولد صدفن، رحلات الحج وآثارها القافية في بلاد الشناقطة خلال القرنين 12 و13هـ "رحلة سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم نموذجا"، مجلة الدراسات التاريخية والاجتماعية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، نواكشوط، العدد1، السنة 2013، ص: 51.
10. محمد الراضي ولد صدفن، المرجع السابق، ص: 53.
11. هو عقبة بن نافع الفهري(1هـ -63 هـ/ 621م-683م)، قاد حملات الفتح الإسلامي في المغرب حتى وصل إلى السوس، بنى مدينة القيروان سنة 670م وأسس جامعها.
12. بول مارتي، كنتة الشرقيون، تعريب محمد محمود بن ودادي، د.ت، مطبعة زيد بن ثابت، دمشق، ص: 15.
13. المختار بن حامد، موسوعة حياة موريتانيا، التاريخ الساسي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2000، ص: 140.
14. محمد المختار بن أباه، الشعر والشعراء في موريتانيا، ط1، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1987، ص: 20.
15. سيدات بن بابي، ولاتة من الماضي إلى الحاضر، ط1، 2005، ص: 113.
16. عبد الرحمن ابن خلدون، كتاب العبر، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1967، سبعة أجزاء، ج7، ص: 117.
17. عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، ترجمة وتحقيق هوداس وبنوه، باريس 1981، ص: 21.
18. الشيخ سيدي محمد الكنتي، الطرائف والتلائد، مخطوط، المكتبة الوطنية، نواكشوط، ص: 18.
19. ابن بطوطة، تحفة النظار وغرائب الأمصار في عجائب الأسفار، دار الكتب العلمية، د.ت، بيروت، ص: 687.
20. أحمد بن محمد المقري التلمساني: نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، 11 مجلد، المجلد 7، ص: 30.
21. محمد يحي الولاتي، العروة الوثقى الموصل إلى منبع الحق والتقى، تقديم حسني بن الفقيه، دار النعمان للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1426هـ/2005م، الجزائر، ص: 9 من المقدمة. / محمد المختار ولد السعد، مسالك القوافل ودورها في التواصل الثقافي بين طرفي الصحراء خلال القرن 19، حوليات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، العدد 3، السنة 1999، نواكشوط، ص: 86.
22. محمد يحي الولاتي، العروة الوثقى الموصل إلى منبع الحق والتقى، المصدر السابق، ص: 10-11.
23. أحمد محمد محمود، رحلات الحج، مطبعة المحمودية، ط1، 1430 هـ /2009م، الرياض، ص: 16.
24. محمد يحي الولاتي، الرحلة الحجازية، تخريج وتعليق محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1990، الرباط، ص: 273 وما يليها.
25. محمد يحي الولاتي، العروة الوثقى، المصدر السابق، ص: 19 من المقدمة.
26. محمد المختار ولد السعد، المرجع السابق، ص: 93-94.
27. محمد المختار ولد السعد، المرجع السابق، ص: 91.
28. محمد يحي الولاتي، المصدر السابق، ص: 20 من المقدمة.
29. محمد يحي الولاتي، الرحلة الحجازية، المصدر السابق، ص: 18- 27.
30. محمد يحيى الولاتي، الرحلة الحجازية، المصدر السابق، ص: 87 وما يليها.
31. محمد المختار ولد السعد، المرجع السابق، ص: 94.
32. محمد يحيى الولاتي، بيع العملات بالتفاضل، تحقيق أحسن زقور، منشورات دار الأديب، 2007، وهران، ص: 33.
33. محمد يحيى الولاتي، العروة الوثقى، المصدر السابق، ص: 22-23 من المقدمة.