تسريد التاريخ وسلطة السارد

في رواية ''زوجة الملوك الثلاثة" لمصطفى لغتيري

نادية بلكريش


يتخذ السرد الروائي عامة ثلاث صيغ أساسية، تشكل مداخل مركزية لتصريف حمولة السيولة الزمنية المرتبطة بعملية التشخيص السردي، وبناء أحداث النص ووقائعه. تستند الأولى في المقام الأول إلى وقائع توهم ببعدها الواقعي، كلياً أو جزئياً؛ لأن الأساسي في ميثاق التأريخ السردي، لا يؤشر على الفعل السردي في حد ذاته، بقدر ما يرتبط بما يمكن أن يولده هذا الفعل من مفاهيم قابلة للتعميم؛ لأن المؤرخ لا يتلذذ بسرد أحداث التاريخ، بقدر ما يبحث من خلالها عن عبرة أو موقف، عن طريق بسط القول في حياة شخصية معينة، بهدف رسم حدود نجاحاتها أو فشلها، انتصاراتها أو هزيمتها.
 

كما يتجلى عادة في نصوص ''السيرة الذاتية'' أو ''السيرة الغيرية'' (شأن سير الملوك والعظماء في التاريخ والأدب والسياسة...الخ). وقد يكون ثانياً، تعبيراً فنياً غايته استثارة عوالم تخييلية، لا تكترث لحقائق الواقع وإكراهاته؛ لأن السارد هنا، لا يعد القارئ بحقائق معينة، بقدر ما يمده بما يمكن أن يساعده على فهم الكثير منها. وضمن هذه الصيغة، تندرج الرواية بكل أنواعها من السرد الطويل أو القصير على حد سواء؛ لأن السرد الروائي في هذه الحالة، لا يخرج عن كونه تشكيلًا فنياً. يعيد بناء الوقائع ضمن ممكنات التخييل، لا وفق ما تتطلبه مقتضيات التاريخ. لأن جزءاً كبيراً من وقائع الرواية وأحداثها، ليست معطى مرتبطاً بالواقع نفسه، بل يعمل النص السردي على تشكيل عوالمه ضمن حدث خاص، يبلوره السرد الحكائي في انفصال عن هذا الواقع أو الرجوع عليه.

أما الصيغة الثالثة، فهي بمثابة مزيج بين النوعين السابقين، أو تركيب لهما. غالباً ما يشار إليه بـ''السيرة الروائية'' أو ''الرواية السيرية''. يتعلق الأمر في الحالتين معاً، بنوع من التداخل بين المادة التاريخية باعتبارها حقائق وقعت، وبين الفعل السردي الذي يكتفي بملء تلك الفراغات والفجوات التي تخلفها هذه الوقائع/ الحقائق بفعل التقادم في الزمان والفضاء. إنها تشكل بذلك نوعاً سردياً هجيناً.. تستهويه فضاءات السرد التخييلي، ويخضع لما يمكن أن يصدق عليه التاريخ في الوقت ذاته. إنه قريب من الرواية التاريخية من حيث التزامه بزمنية معلومة، لكنه يتجاوز أحكامها وتعميماتها. وقريب من الرواية بما توفره من حرية في ترتيب الأحداث وإعدادها. تندرج ضمن هذه الصيغة الأخيرة، رواية الروائي المغربي مصطفى لغتيري ''زوجة الملوك الثلاثة"، الصادرة في طبعتها الأولى عن دار روافد للنشر، بمصر، 2023.

تسريد التاريخ في رواية ''زوجة الملوك الثلاثة''

لا يقف سارد نص رواية ''زوجة الملوك الثلاثة''، عند خلق توافق بين السيري والتاريخي، لكي يعيد رسم الفواصل والروابط بينهما، من خلال بناء عالم جديد، يجمع بين حناياه إكراهات السرد الروائي الذي لا يمكنه أن يتخلص من عناصر التثبيت الزمني ببعديه الشخصي والجماعي، ولا يمكنه أن يتخلص أيضاً من معطيات سيرية، يستحيل تجاوزها من خلال النفخ فيها من الداخل، وبين سلسلة من التصنيفات والأحكام التي يشكلها المعطى التاريخي، بقدر ما يؤشر هذا النص السردي وفق رؤية خاصة، على مجموع ما اشتهرت به الشخصية المحورية للرواية (شخصية ''زينب النفزاوية'').

لهذا، فهذا النص السردي، عبارة عن رواية بالسر والعلن. حيث لا شيء يجمعه بالتاريخ سوى مرجعية زمنية عامة (زمن شخصية زينب النفزاوية الممتد من عام 1039، إلى عام 1076/ فترة الحكم المرابطي بالمغرب). بنى من خلالها النص الروائي أحداثه السردية التي تبدأ وتنتهي ضمن ما تسمح به حدود هذه المرجعية وتجيزه. كما تتحدد ضمنها أيضاً، خارطة الفضاء المسرود في الرواية. مما يجعلها رواية لا شيء يجمع بينها وبين سيرة ''زينب النفزاوية'' (الشخصية المحورية)، سوى الوفاء الفني لهذه الهوية الاسمية (زينب النفزاوية) التي تعج بها وبصفاتها كتب التاريخ والسير. لتصبح على إثرها مادة الرواية، مرتبطة بحياة شخصية معلومة (شخصية زينب النفزاوية)، التي تحيل على سيرورة زمنية معدودة ومعروفة، هي مبتدأ حياة شخصية زينب النفزاوية (في بلدة نفزة ومدينة القيروان بتونس)، ومنتهى حياتها (في بلدة أغمات ومدينة مراكش بالمغرب)، كما يمكن أن نعثر عليها في كتب التاريخ والتراجم. لكن جل امتدادات هذه الحياة الخاصة وصفاتها في المتخيل السردي المتمثل في رواية ''زوجة الملوك الثلاثة''، جاءت أوسع من تفاصيلها ووقائعها في التاريخ. لأن سارد نص ''زوجة الملوك الثلاثة'' (الروائي الضمني/ مصطفى لغتيري)، لم يكتب تاريخ شخصية زينب النفزاوية، بل استخلص سيرورتها التاريخية من خلال مجموعة من الصورة السردية التي ركزت على صفات هذه الشخصية التي تسرد عن نفسها وعن غيرها من الشخصيات (شخصية مريم/ص: 22، شخصية عائشة/ص: 26، شخصية الأمير أبي بكر اللمتوني، شخصية الأمير يوسف بن تاشفين/ص: 64، شخصية الأمير علي بن يوسف بن تاشفين/ص: 88). مما منح السارد/شخصية زينب سلطة ومعرفة تامة للسرد.

التاريخ وسلطة السارد

في إطار التداخل بين السردي والتاريخي، صاغ السارد (الروائي الضمني مصطفى لغتيري) استراتيجيته الخاصة، من أجل بناء حياة شخصية استثنائية. استعاد من خلالها حياة شخصية معلومة ''زينب النفزاوية"، بشكل يمكن أن يتجسد في المفهوم الدال على صفات هذه الشخصية؛ لأن هذه الصفات، ستشكل منطلق السرد، وأساس تطوراته وتحولاته. يجعلها تنزاح من خلال آليات السرد، عن الأصل كما تجلى في تاريخها الخاص (شخصية زينب النفزاوية التي ولدت بالقيروان (1039م)، وانتهى بها المقام بأغمات بضواحي مراكش في زمن محدد أيضاً /1076م)، يقول السارد: ''هي ذي القيروان (...) فيها فتحت عيني على الدنيا، بعد أن نزح إليها والدي من بلدة ''نفزة'' التي تنام وسط الصحراء شرقاً'' (ص: 14). وفي الصفحة 89، يقول: ''استأذنته في الرحيل نحو أغمات''.

لم يأت السرد على امتداد هذه الصفحات (من ص: 14 إلى ص: 89) مبنياً على التفاصيل والجزئيات، بقدر ما استند إلى صفات السارد (شخصية زينب النفزاوية)، وحالاتها السلوكية الأخرى، على الرغم من أن النص الروائي قد أهمل بعضها، كما أهمل التاريخ من قبل جزءاً آخر منها. وتلك إحدى سمات السرد، فعوالمه لا تستقيم إلا من خلال التقليص المتتالي لممكنات الوجود ومظاهره، سواء بخصوص الشخصيات أو الأحداث. لكنه في جميع الحالات عمل على استعادة كل ما شكل حياة زينب النفزاوية من صفات. مما جعل هذه الأخيرة تهيمن بقوة، وتمنح سلطة تامة للسارد (شخصية زينب). لكن مهما بلغت دقة وصف وتقصي هذه الصفات؛ فإن شيئاً ما سيظل خارج ما يقدم في النص السردي. لأن الحياة الخاصة أو التاريخ، أوسع دائماً من إرادة التشخيص السردي. لهذا، فإن رواية ''زوجة الملوك الثلاثة'' كما تدل على ذلك الصيغة التخصيصية ''زوجة''، لا تخفي مراميها، فهي تنتقي ما توده، لا من خلال ما يقدمه التاريخ أو يعد به. لأن العنوان هنا، غير مضلل بالضرورة، ولكنه لا يهدي أيضاً، إنه يشير فقط إلى عمليات تقليصية من خلال صيغته التركيبية ذاتها. ذلك أن هذه ''الزوجة'' المقصودة هنا هي شخصية من شخصيات الرواية، وليس إحالة على مطلق سيري مودع في اسم زينب النفزاوية. بمعنى أن النص الروائي، يعيد صياغة واحدة منه هو بالضرورة حصيلة تركيب فني، يتم داخل السرد التخييلي لا خارجه. مما يجعل الروائي مصطفى لغتيري في هذا النص السردي، وفي باب التخييل السردي ذاته، لا يبتعد كثيراً عن المضافات التصنيفية التي تحضر من خلالها بعض شخصيات التاريخ. حيث يقدم السرد هذه الشخصيات من خلال صفات خاصة، تتقاطع مع الصفات العامة التي يتداولها الناس ويستندون إليها من أجل الحكم والتصنيف، دون أن تصل أحكامهم إلى حد التجسد في رواية بطابع فني صريح (رجاحة العقل، العدل والكرم، والصدق والوفاء والشجاعة)، وغيرها من الأدوار المودعة في صفات هي ما تحتفظ به الذاكرة/ التاريخ الخاص.

لذلك؛ فإن الأمر لا يتعلق في هذه الرواية باستنساخ لموجز يخص صفات شخصية زينب النفزاوية، بل هو بناء محكم تغذيه طاقات التوتر التي يمكن أن تشتمل عليها هذه الصفات ذاتها. لذلك، فإن حجم استعارة هذه الصفات، يقاس بعدد الحكايات في السرد لا بتصديقها في التاريخ. لهذا، فما هو أساسي في رواية ''زوجة الملوك الثلاثة''، ليس المادة التاريخية القابلة للحصر وكذا للتصريف في وضعيات يمكن التعرف عليها خارج النص، باعتباره أمراً مضللًا للذين راحوا يبحثون في الرواية عن مساهمة المرأة (شخصية زينب النفزاوية) في تثبيت أمور الحكم على العهد المرابطي. بقدر ما يشكل استراتيجية سردية تسقط، رغم وقائع التاريخ وأحداثه، سلسلة من المسارات الجديدة التي لا يمكن أن تتولد عن حقائق ماضية، بل هي في الأصل إفراز لأحكام مدرجة في صفات بعينها.

لهذا، فإن ما سيتعرف عليه القارئ في هذه الرواية، هو شخصية ''زينب النفزاوية'' الجديدة كما صاغها النص الروائي من خلال وضعيات خاصة (أوصاف) منتقاة بدقة من قبل السارد. تبدأ من وجود شخصية زينب ببلدة نفزة بتونس، وتنتهي باستقرارها بأغمات المغربية. حيث تشكل هذه الفترة عمق الاستراتيجية السردية، وهو ما يمنح نص ''زوجة الملوك الثلاثة'' خصوبته وخصوصيته. بمعنى أنه لا يتعلق الأمر هنا بسيرة ذاتية، كما يمكن أن يوهم بذلك ضمير المتكلم/ ''أنا'' السارد (زينب النفزاوية)، وما تحيل عليه سلطة الدوائر السردية المرتبطة بها، وليس أيضاً سيرة غيرية مموهة تحاكي الأصل أو تلخص له في التفاصيل، إنما، على العكس من ذلك، سيرة تتم خارج الزمن التاريخي، كما تعارف عليه الناس وتداولوه. ذلك أن السيرة هنا لا تلخص الحدث، كما يدل على ذلك التطور الزمني المتصاعد، أو كما توحي بذلك الأحداث المسرودة دليلًا على أن الرواية تسير إلى نهايتها، أو ما يشير إليه التنقل في الفضاءات المختلفة (نفزة، القيروان، فاس، أغمات، مراكش)، أو الإشارات الزمنية (زمن القيران (ص: 14)، زمن فاس، زمن مراكش وزمن أغمات (الزمن المرابطي)، (زمن وصول عائلة شخصية زينب إلى فاس ثم الرحلة إلى أغمات ومراكش)، وزمن مكوثها في أغمات ثم مراكش، والعودة إلى أغمات. بل تتسرب إلى السرد في شكل مجموعة من الصفات التي يتم تصريف بعضها في العلاقة مع باقي شخصيات النص السردي. ويتم تصريف بعضها الآخر في تحصيل العلم والمعرفة. وذلك من خلال حالات من الانفعال الكاسح لذات شخصية زينب/ السارد الذي يبرز في سلسلة من الممكنات السلوكية المدرجة في الاسم والأحكام التي رافقت السارد. لهذا، فالذات الساردة هنا، ليست مصدراً للفعل، لكنها ترعى وجوده في الداخل. بمعنى أن الصفات المقصودة في هذا السياق، هي ما يمكن أن تحيل عليه سلسلة من المواقف والعلاقات المؤشرة على روح الأشياء وجوهرها. على الرغم من أن ذلك لا يتم من خلال حدث فعلي باعتباره إحالة على فعل خارجي مرتبط بصفة معينة، بل إلى ما يمكن أن يخلق توتراً ويمنح السارد سلطته الخاصة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها