التشكيل النصي والتكثيف الدلالي

في مجموعة ''تجاعيد الفراغ'' لهزاع البراري

سعيد بوعيطة



يحيل عنوان مجموعة ''تجاعيد الفراغ'' للمبدع هزاع البراري إلى هواجس تجنيس النص الذي تتوزع سماته بين الشعرية والسردية. من هذا المنطلق، قد نجازف بالقول إن الكاتب ربما أراد من خلال العنوان الإحالة على الدلالة النقدية لما يسميه النُّقاد المعاصرون بقصيدة قصيرة، مكثفة، موحية، تترك أثرًا يشبه أثر النص الشعري. وتتميز نصوص هذه المجموعة القصصية، بسمات النص الشعري ذات البعد الغنائي والدرامي في آن. كما تعدّ نصًا شعريًا ونصًا لأسلوبية كالتضاد، والمفارقة، والانزياح، وتمثل عالما مضادًا.



وعلى الرَّغم من أن النص الذي بين أيدينا لا غبار على "قصصيته"، خاصة إذا اعتمدنا ما ورد في الصفحة الثانية (تجاعيد الفراغ/ قصص) باعتباره يحدد جنس هذه النصوص، إلا أنه يستدعي كثيرًا سمات القصيدة الشعرية، ويوظف في الوقت نفسه أسلوباً جمالياً في تلافيف المعمار السردي. ومن اللافت أن مفردتي العنوان (التجاعيد) و(الفراغ) تكررتا بشكل بارز (تجاعيد 7 مرات، الفراغ 19 مرة) داخل نصوص المجموعة، مما يؤشر على مركزيتها الدلالية المبثوثة في حنايا هذه النصوص، وأيضاً انتماؤها إلى بنائها اللغوي، فبعد عبور القارئ عتبة النص الرئيسة العنوان (تجاعيد الفراغ)، يصادف تحديداً آخر لهذه النصوص، يصاحب العنوان الرئيس للمجموعة (تجاعيد الفراغ/ شظايا نصية). فإذا كانت التجنيس الأول، يحددها باعتبارها قصصاً، فإن التجنيس الثاني، يحددها باعتبارها شظايا نصية. مما يكسر أفق انتظار المتلقي، وجعله أمام احتمالات عدة لتلقي نصوص هذه المجموعة. سواء على مستوى الشكل (التشكيل البصري للنص، البناء اللغوي) أو الدلالة (الانزياح)، وخروجهما عن مميزات النص القصصي المألوف.
 

التشكيل البصري للنص القصصي

يعدُّ فضاء الصفحة/ النص مسرحًا لتفاعل الأحداث والرؤى والتشكيلات التي يطلقها الكاتب بوصفها جزءًا مركزيا لتشكيل النص الإبداعي. يتحقق ذلك وفق أشكال عدة، تتغير من صفحة إلى أخرى. تحدد الكتابة من خلالها دلالة النص الإبداعي. من هذا المنطلق، فإن فعل الكتابة تموجٌ دائمٌ، وصيرورة لا تفتأ تغير حركتها. حيث يوظف المبدع أنماط الخط والفراغات والأيقونات وبعثرة المكتوب في سياق رؤياه الإبداعية. من أجل تجربة جديدة، تتغيّا التجريب الإبداعي والمغامرة الجمالية. مما يعني إسهام الشّكل الطِّباعي للنص الإبداعي في بناء دلالة النص، وتعزيز بنيته الفنية. قصد بناء بلاغة فضاء نصي خاص(1).

كتبت قصص مجموعة "تجاعيد الفراغ" لهزاع البراري على النمط العمودي. حيث تبدو للقارئ وكأنها قصائد من الشعر الحر أو قصائد النثر. من هنا، يخالف التشكيل البصري لهذه النصوص، نمط الكتابة الأفقية المتداول في السرد القصصي الحديث. كأن المبدع هزاع البراري، يسعى إلى منح قارئ نصوصه نفسًا للتوقف عند كل مفردة أو جملة مؤثرة لالتقاط إحالاتها. مما ميز قصص هذه المجموعة بتكثيف شديد. يحتاج معه المتلقي إلى قراءة عميقة بدل المرور العابر على جسد النص. يمكن أن نرصد جانبًا من توظيف هذا الفضاء البصري الخاص للنص في قصص هذه المجموعة من خلال هذا النص: "قالت: قلبي مليء بالصور... تأملت بطاقتي الشخصية.. كانت بلا صور" [ص: 34]. في هذا النص السَّردي تمت تغذية البنية الحوارية، بتوظيف واضح وموجَّه للفراغات ونقاط الاسترسال، وهو ما يكشف عن مستقبل مجهول للشخص المحاوَر، وانفتاح مصيره على كافة الاحتمالات. كما يقدم الحوار تصورًا عن الواقع المؤلم والصدمة التي يعيشها المحاوَر إلى درجة جعلت التأمل في حاله أبلغ من جمل لغوية تصف ذلك الحال.

وموازاة مع هذا المعطى الدّلالي، يفتح التشكيل البصري للنص القصصي، أمام القارئ أبواب التأويل لمصير مختلف الشخصيات/ الذوات الساردة.. مما يمنح المتلقي متعة فنية خاصة، ويجعله مشاركًا فعليًا في بناء معنى النصوص القصصية لهذه المجموعة. تجلى الشيء نفسه، في النصوص القصصية التالية: النص 52/ ص: 24، النص 55/ ص: 25، النص 224/ ص: 89.

البناء اللغوي

وظف المبدع هزاع البراري بعمق تقنية التكرار الأسلوبي. تجلى في الصفحات التالية: 15، 48، 61، 71، 72، 77، 79، 80، 82، 107، 116، 120، 126. وذلك في سياق سعي المبدع لبناء تشكيل لغوي له سماته الخاصة. وقد تجلى هذا المنحى في نمطين:
1. تكرار المفردة: حرص الكاتب على تكرار بعض المفردات، من أجل تركيز البؤرة الدلالية في وعي القارئ. يقول السارد في النص 27/ ص: 15: (على حافة النوم يتجمد الصحو هذا السهر طويل... طويل). مما يكشف عن وعي فني فعّال. كما نلاحظ مثلاً تكرار الفعل في النص التالي (على تعب مني كانت تنمو كزنبقة تراني وأراها... ولا يرانا أحد) [ص: 71]. مما يترجم رغبة الكاتب في تجذير الثّيمات المحورية للسَّرد القصصي، ودفع القارئ إلى تمثّل أبعادها الدلالية في سياق البناء السردي(2). لعل هذا جعل هذا التكرار يبرز جلياً في أغلب قصص المجموعة/ الصفحات (15، 48، 61، 71، 72، 77، 79، 80، 82، 107، 116، 120، 126).

2. تكرار العبارة: بنى المبدع هزاع البراري المعمار العام لبعض قصص المجموعة على عبارات محورية. تكررت في بداية السَّرد وفي وسطه كذلك. تجلت النص التالي/ ص: 79 (مثل غريب أجوس المدن كريح لا تستقر، تتلوى بلا اتجاه مثل غريب أنا...). تختزن هذه العبارة في بنيتها بعداً ذاتياً عميق الزمن على المستوى الوجودي. كما تؤشر على تسارع الأحداث وتدفقها وحركيتها. تتكرر هذه الصيغ في العديد من نصوص المجموعة (نص 208/ ص: 81، ص 258/ص: 103، نص 267/ص:107، نص 285/ ص: 115،...إلخ). مما ساهم في كسر رتابة الزمن الممتد في نصوص مجموعة ''تجاعيد الفراغ''. حيث امتازت النصوص القصصية بكثافة اللغة من خلال تلاحق العبارات وتدفَّقها بعنفوان جارف. وكأن الكاتب حاول أن يسبق دلالة المفردة بالتعبير بأخرى أشدّ وقعًا. تغزل معجمًا لغويًا متشابكًا. وعلى الرغم من أن لغة القصة مترعة بمعجم الجنس القصصي، فإن اللغة تنساب لتحيل وعي المتلقي إلى خلفيات المشهد وتداعياته الصاخبة. ولعل هذا المعطى هو ما جعل الكاتب يوظف التشكيل البصري للنص الذي اتسم بالمغايرة والاختلاف عن المألوف من الإخراج البصري للنصوص القصصية العربية المعاصرة. فقد لجأ الكاتب إلى التشكيل العمودي للنص، وتم توزيع الكلمات على الأسطر باقتصاد شديد. إضافة إلى توظيف الأيقونات والفراغات ولعبة البياض والسواد من أجل تثوير الوعي القرائي للمتلقّي، وتجاوز رتابة السرد. مما مكن لغة المجموعة القصصية من اكتساب فاعلية الأنظمة السيميائية في توصيل البنى الدلالية للنص(3). ولعل في هذا المعطى تثويرًا لاتجاه التجريب في القصة العربية المعاصرة الذي يدفع به الكاتب هزاع البراري إلى أقصى ممكناته. حيث اتسمت الأحداث بدورها في قصص المجموعة بالرَّمزية التي تحيل في أبعادها الخلفية إلى صراع الإنسان وتناقضه وتأرجحه بين جدلية الخير والشر، الكره والحب، الذات والآخر. وفي سبيل تجذير هذا الوعي، لجأ المبدع إلى عدم تحديد هوية الشخوص عبر إعطائها أسماء مباشرة، والاكتفاء بدلاً عن ذلك بالإشارة إلى الجنس من خلال الضمائر (هو، هي، هم) أو اسم الجنس (الأم). مما رسّخ البعد الرمزي للمتن الحكائي لهذه القصص، ومنحها قابلية لا محدودة للقراءة والتأويل.

شعرية الانزياح

كتبت أغلب قصص هذه المجموعة بأسلوب مفعم بشعرية الانزياح اللغوي والدلالي. حيث تنزاح الجمل والمفردات عن المباشرة والرتابة، فعلى الرغم من استخدام المبدع هزاع البراري لمفردات واضحة الدلالة ومتداولة في المعجم السَّردي العربي الحديث، إلا أن علاقات أسلوبية خاصة بين تلك المفردات، يجعلها تفيض بإحالات خفية ومتشعبة. يمكن أن نتأمل النص 46 / ص: 20 (كدخان والنهار يحرق تبغ الكلام أحمل قلبي حقيبة وأتوغل في الغياب). حيث يتم توظيف تراكيب لغوية مشبعة بالمفارقة والانزياح. مما يجعل هذه النصوص تشتغل على حيوية الاستعارة، لتتوغل في فضاءات المعنى المفعم بالتَّحول والتَّوتر والتأرجح. كما تجلى هذا الانزياح في استخدام تراكيب مغايرة للنمط المتداول. تجلى ذلك في العديد من نصوص مجموعة ''تجاعيد الفراغ''. نذكر من بينها: نص42/ ص: 21، نص 52/ ص: 24، ص 55/ ص:25، نص77/ص: 34، نص 155/ ص: 60،...إلخ. مما يوجه المتلقي لبؤرة الدلالة في النص، ويتيح له تأويل إحالات في فضاء النص القصصي. كما يلجأ الكاتب غالبًا إلى التخلص من الرَّوابط النَّحوية بين الجمل. يبرز ذلك من خلال النماذج التالية: (والكلام صغير...صغير/ص: 61، .. لا شيء سوى الفراغ/ ص:63، تراني وأراها...لا يرانا أحد/ ص: 71، وجهي لا يحمل بشارة ما...لا يحمل/ ص:73، هذا الفيسبوك ضجيج...ضجيج/ ص:126 إلخ). يغرق هذا المنحى القصصي القارئ في مسار الأحداث وتسارعها، كما يغير من رتابة وسكون الأسلوب المألوف القائم على الربط بأدوات العطف(4). وعلى الرغم من توظيف الكاتب التكثيف الأسلوبي، من خلال التخلّص من الزوائد اللغوية، وأدوات الرَّبط النّحوي والاستعاضة عنها غالبًا بالمعطى البصري، والفضاء الأيقوني، إلا أنه أحياناً تلجأ إلى تكثيف الروابط النحوية. فقد كان الحرص واضحًا على تكثيف أداة العطف (الواو)، وكأن الكاتب يشرك القارئ فعليًا في مراحل الانتقال التي جرت في مسار الأحداث، وتشعره ببطئها ورتابتها، وهو أمر متوقع بحكم جو الخيبة الذي يكسو واقع الذات الساردة. يبرز ذلك من خلال الصفحات التالية: 7، 10، 12، 15، 16،...إلخ. وإذا كان من الثابت أن لحظات التأمل مهما قَصُرَت، تمر على الإنسان بوتيرة بطيئة تشعره بطول مكثها، فإن أسلوب النصوص القصصية لمجموعة ''تجاعيد الفراغ''، يحيل على هذا المعطى الدلالي بشكل بارز.

 

خلاصة
النصوص القصصية المشكلة لمجموعة ''تجاعيد الفراغ'' للمبدع هزاع البراري، نصوص مفعمة بالدهشة والمغامرة. فقد امتاز العنوان بالإيجاز والتكثيف. مما يحيل القارئ على الثيمة المحورية التي يدور حولها السرد القصصي. ولعل هذا ما يفسر تكرار مفردة (فراغ) في تلافيف السرد. في مقابل ذلك، اتسم العنوان بالوضوح والتداول اللغوي الواسع، إذ يوقع القارئ في شراكه عبر بساطته وشفافيته. بيد أن الداخل إلى عمق قصص هزاع البراري، سرعان ما يدرك عمق إحالاته وصعوبة الإمساك بخيوطه الفنية والدلالية. لكونه يعتمد الإثارة والتشكيل والتلاحق، واستغلال الفضاء البصري والأيقوني، من أجل تخصيب دلالات المفردة وإيحاءاتها الفنية. ولتحقيق ذلك، وظف القاص بعض التقنيات الفنية، من أبرزها التكرار الذي يؤشر للقارئ على البؤرة الدلالية والثيمات الأكثر حضورًا في نصوص المجموعة، كما وظف تقنية الانزياح الذي يفتح للقارئ مدارات المعنى على فضاءات خصبة للتأويل.
 


الإحالات:
◂ الصفحات المشار إليها مأخوذة من: هزاع البراري، تجاعيد الفراغ (قصص)، ط1، الآن ناشرون، الأردن، 2017.
1) خلف إلياس (جاسم) شعرية القصة القصيرة جدا، ط1، دار نينوى، دمشق، 2010، ص: 121.
2) كَرام (زهور) التجريب في القصة القصيرة، مجلة آفاق (اتحاد كتاب المغرب)، ع 81، 2012، ص: 52.
3) خليفة (كمال) اللغة وتقنيات البناء القصصي، ط1، مركز بحوث اللغة العربية وآدابها، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 2009، ص: 93.
4) السلامي (عبد الدائم)، شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا، ط1، منشورات أجراس، الدار البيضاء، 2007، ص: 67.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها