"سكين النحت" بين تفكيك المعنى وإعادة تشكيل الذات

أحمد رجب شلتوت


بعد مشاركتها مع أخريات في عدد من المجموعات القصصية المشتركة، أقدمت القاصة الكويتية "أفراح الهندال"  على نشر مجموعتها المنفردة الأولى "سكين النحت"،  (المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2024)، تضم المجموعة تسعا وثلاثون نصا لا تنسج الكاتبة من خلالها عالماً قصصيًا تقليديًا، بل تقدم سردًا يقوم على تفتيت البنية، وتكسير التراتب، وتفكيك التمثيلات الجاهزة للذات والعالم. إنها لا تكتب الواقع، بل تقاومه؛ لا تُعيد إنتاج المعنى، بل تهدمه لتفسح المجال لتكوّن دلالات جديدة، تنبع من هشاشة التجربة، ومن التماس الحاد بين الألم والكتابة.

العنوان ذاته، "سكين النحت"، يشكل مدخلاً تأويليًا بالغ الدلالة. فـ"السكين" أداة حادة، تقطع وتؤلم، لكنها حين تُقرن بـ"النحت" تصبح أداة تشكيل، وإن ظلّت تحتفظ بأثر الجرح. النحت هنا ليس ترفًا فنّيًا، بل هو فعل عنيف، فيه اقتطاع وتشكيل، تمامًا كما تفعل اللغة في القصص؛ إذ لا تسرد، بل تحفر في التكوين النفسي والاجتماعي، لتُخرج من الطين شكلاً جديدًا.

نصوص المجموعة القصيرة جدًا غالبًا، ليست ومضات عابرة، بل هي بؤر دلالية مكثّفة، تستند إلى الاستبطان أكثر من الحكي، وإلى الاستعارة أكثر من التصريح. شخصياتها ليست أسماء بل أطياف، تخرج من العزلة، وتحتمي بالبوح، هذا الاختزال دليل  كثافة؛ حيث تتحول الجملة القصيرة إلى مشهد داخلي، والعبارة إلى هزة شعورية.

    ومن أبرز سمات نصوص المجموعة تلك المفارقة بين الداخل والخارج: فالشخصيات تبدو من الداخل مشرعة على الجرح، بينما تُفرض عليها من الخارج أقنعة لا تناسب ملامحها. في قصة "سكين النحت" نرى هذا بوضوح: النحّات يعيد تشكيل الوجه، يخفي الندوب، يجمّل السطح، لكنه في الحقيقة يمحو الفم، أي القدرة على الكلام، على الاحتجاج. وهنا تتجلى الفكرة الجوهرية: العالم يريد من المرأة أن تكون جميلة، مطواعة، صامتة، أما الذات فتقاوم هذا الصمت بالتذكّر وبالكتابة.

لا تنفصل هذه البنية عن قضايا الحرية والانتماء والذاكرة. ففي قصة "وصية الخروج"، مثلاً، نكتشف أن السجن لم يكن داخل الزنزانة بل خارجه، وأن من يسعى إلى الحياة يصير مهددًا، وأن التهم تُساق بلا منطق، ما يكشف انحراف السلطة وتفكك المعنى. وهي مفارقة سردية تكرّرها الكاتبة في مواضع عدة، مما يجعل من القصة القصيرة جدًا وسيلة لفضح عبثية الواقع.

    وعبر الاشتغال على رمزية عالية، تصوغ أفراح الهندال صورها بلغة مشحونة، حيث يتحول الجسد إلى ساحة كتابة، والذاكرة إلى مادة خام، والبيت إلى قفص، واللعب إلى بقايا حلم. ولا تفصل الكاتبة بين الذاتي والجمعي؛ فالدموع التي تسيل من عين الطفل بعد الكي ليست فقط حزنه، بل تمثيل لخسارات جيل بأكمله، وكذلك المرأة التي تطاردها أصوات الألعاب النارية ليست مجرد ناجية، بل سردية كاملة للنكبة، أما تقنيات الكتابة، فتقوم على التوالد الصوري، والكولاج السردي، وتيار الوعي، مما يضاعف من طاقة التأويل، ويمنح القارئ دورًا في إعادة تشكيل النص. فالكاتبة لا تسرد القصة، بل تومئ إليها. ولا تفرض مسارًا واحدًا للمعنى، بل تفتح  له احتمالات متعددة.

 الأنثى تكتب جسدها

تحضر في القصص ذات أنثوية مستلبة لكنها واعية، جسدٌ يُعاد تشكيله قسرًا، وذاكرة تنحتها القيود الاجتماعية. لا تتعامل الكاتبة مع الجسد الأنثوي بوصفه موضوعًا أو رمزًا تقليديًا، بل بوصفه نصًا قائمًا بذاته، يُعاد تأويله من الداخل، ويُحرر من نماذج الهيمنة عبر لغة معاكسة لأدوات الصمت. مثلا في قصة "سكين النحت" نقرأ:
"النحات الذي سمّرني على الكرسي، شكل وجهي من جديد: عينان، أنف، وجبين بلا ندوب. أتقن تسوية ذقني بأصابعه، كان يكشط زوائد الطين ويربت عليها، أدهش الحضور المتحلق حولنا برأس رطب ولين بلا فم، فمي بين كفيه مسحه بردائه، تحولت لطخات الطين إلى كلمات لم يتمكن من مجاراة مديحهم".

إن الفم الممسوح هنا معادل لكتم الصوت الأنثوي، تمامًا كما أن تحول الغرفة إلى قفص، أو إلى مرآة مكسورة، تعكس تمزق الهوية الأنثوية في مجتمع يضيق بالخروج عن التقاليد الموروثة، حيث يُعاد تشكيل وجه البطلة، ويُمحى فمها، في صورة مكثفة لطمس صوت المرأة.

   وفي قصة "حياكة الصمت"، نجد الجدة تنقل للفتاة مهارات الكتابة عبر النسج والحكاية، في استعادة لمكانة النساء كحافظات للتاريخ العائلي والثقافي، لا كمجرد كائنات هامشية، أما قصة "غرفتي... قفص صغير"، فتُجسد بشكل سريالي العلاقة بين الذات الأنثوية والحيز المكاني المغلق. تدخل ثعلبة الغرفة وتقلبها بحثًا عن الريش، لتكتشف البطلة أن بداخل الأوراق قصاصة قديمة كُتب فيها: "ليتني حمامة"، وكأن الجسد الأنثوي الذي كان يتمنى الطيران، صار فريسة البحث، والتفتيش، والمحو. 

وهكذا نجد في معظم القصص، تكون المرأة مَنْ تكتب، ومَنْ تُروى، حتى حين تمرّ بصدمات القمع أو التهميش، إذ تظل الكتابة  نوعا من إعادة الاعتبار للذات.

◄ السرد بوصفه صورة متحركة

لا تكتفي الكاتبة بلغة شعرية، بل تُدخل القارئ في مشهدية حادة، توظف فيها تقنيات بصرية واضحة: كولاج اللقطات، تفتيت المشهد، التتابع البصري السريع، تقطيع الزمان والمكان. وقد تحضر العتمة، الضوء، المرايا، ظلال الأشياء، كأنها أدوات إضاءة داخل السرد ذاته.

     ففي "جذور الوصية"، فترتكز القصة على مشهد واحد متكرر بصريًا: الصبي يلتقط النبق ويجمع البذور ويدفنها، في مشهدية دائرية تخلق الإيقاع الداخلي للقصة، وتعكس حالة نفسية مشبعة بالذنب والتكفير،  وفي قصة "احتراقات متكسرة" مثلًا، يتشكل المشهد عبر سلسلة من الصور البصرية الحيّة المتراكبة، تجعل القارئ يرى العالم الداخلي كما لو كان يراه على شاشة، لا يسمعه فقط، هذا النزوع البصري يمنح القصص نوعًا من التشظي المقصود، حيث لا تسير الأحداث في خط مستقيم، بل تتوالد عبر إيماءات ومقاطع، ما يجعل القارئ يقترب من التجربة لا كمُتلقٍ فقط بل كمشارك في إنتاج الصورة والمعنى، وفي  هذه القصة، تمتزج صور الطفلة واللعبة المكسورة والبحر والقواقع والسرطانات والورق اليابس في مشهد متحرك دائم التغير.

إن هذا النزوع البصري يمنح القصص نوعًا من التشظي المقصود، حيث لا تسير الأحداث في خط مستقيم، بل تتوالد عبر إيماءات ومقاطع، ما يجعل القارئ يقترب من التجربة لا كمُتلقٍ فقط بل كمشارك في إنتاج الصورة والمعنى، وكأن النصوص لا تُقرأ فقط بل تُشاهد، وتُلمس، وتُتذوق.

  

 وختاماً فإن "أفراح الهندال"  لم تقدم في "سكين النحت" مجرد مجموعة قصصية، بل تجربة كتابة تقاوم القوالب، وتحرر اللغة من وظيفتها التقريرية، وتسائل الوجود. إنها كتابة لا تسعى لتجميل الواقع، بل لكشف عواره،  ولا تهدف لإعادة إنتاج الذات، بل لتشكيلها من جديد؛ حيث يصبح فعل الكتابة ذاته، سكينًا تحفر به الذات طريقها للخلاص.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها