كيف غيرت الثورة الصناعية مجرى تاريخ البشرية

زاكي عبد الرحمان



كلمة الثورة تعني الحدث الذي يحصل فجأة، وفي العرف السياسي غالباً ترتبط بالعنف كما حدث في أمريكا وفرنسا، لكن قد تكون هناك ثورة غير مرتبطة بالعنف أيضاً، وهذا هو شأن الثورة الصناعية التي أحدثت انقلاباً ليس له نظير، وذلك فيما يخص الآلات المستعملة التي كانت في غالبها يدوية، مما أثر إيجابياً على حياة الساكنة.


في نوفمبر من العام 1774 كتب أحد المخترعين الشباب إلى والده: "العمل الذي أنا بصدد القيام به هنا ناجح، الآلة التي اخترعتها تعمل بشكل لم يسبق له مثيل...". وقد كتب جيمس واط –أحد المخترعين الاسكتلنديين- هذه الرسالة متحدثاً عن آلته البخارية التي اخترعها والتي سهلت تنقل الأشخاص والبضائع. ولم يكن جيمس واط يدري أنه باختراعه هذا سيغير مجرى التاريخ واضعاً الأساس لثورة صناعية عظمى. ففي العام 1763 طلب أحد أساتذة جامعة غلاسكو من جيمس واط إصلاح إحدى الآلات الميكانيكية البدائية المعطلة.

وقد لاحظ جيمس واط أن الآلة تستهلك الكثير من الوقت والوقود مما حذا به إلى مناقشة الأمر مع أساتذته في الجامعة، لكن لا أحد منهم قدم له حلًا ناجعا. وقد اجتهد جيمس واط فأدخل تحسينات على تلك الآلة؛ إذ جعلها تشتغل بالبخار، فكان من حسناتها الاقتصاد في الوقود والوقت والتكلفة.

وفي العام 1819؛ أي بعد وفاة جيمس واط حلت آلته البخارية محل الآلات التقليدية، وتم اعتمادها من طرف المصانع البريطانية، وكذلك في معظم أوروبا وأمريكا واليابان. وكانت الثورة الصناعية هي الشرارة التي تسببت في تقدم وتطور الحقول الأخرى كالطب مثلا، كما تطورت ميادين أخرى كالأدب والموسيقى والهندسة وغيرها.
 

الظروف العامة في بريطانيا تساعد على التصنيع

بدأت الثورة الصناعية أول ما بدأت في بريطانيا. وكانت الظروف العامة هناك مثالية ومساعدة على التصنيع نظراً لعدة عوامل.

أولاً: لأن بريطانيا تتوفر على موارد طبيعية هائلة مثل الفحم الحجري والحديد، كما تمتلك بريطانيا طاقة مائية هائلة نظراً لوفرة الأنهار بها. واستفادت بريطانيا أيضاً من ثروات مستعمراتها الطبيعية خاصة القطن والصوف اللذان تحتاجهما صناعة النسيج البريطانية.
ثانيا: وربما هذا هو الأهم. كانت بريطالنيا تمتلك يداً عاملة هائلة ساهمت في توفير حاجيات البلاد من الغذاء من خلال عملها في الحقول والضيعات الفلاحية وذلك ابتداء من العام 1700، إذ توسع الميدان الفلاحي كثيراً خاصة بظهور زراعات جديدة كزراعة البطاطس مثلًا.

يضاف إلى كل هذا نقص عدد الوفيات وارتفاع عدد المواليد، الأمر الذي ساهم في ارتفاع نسبة النمو الديمغرافي بالبلاد.

كما أن بريطانيا تزعمت دول العالم من حيث إنتاج الآلات الميكانيكية وتدريب العمال على استعمالها، وكنتيجة لذلك صارت بريطانيا تتوفر على عدد هائل من العمال المهرة والمدربين على مستوى عال.

ثالثا: كان مالكو رؤوس الأموال البريطانيون لايفتأون ينشأون المصانع في كل أرجاء بريطانيا ويجهزونها بأحدث الآلات، مما ساهم في زيادة الإنتاج وازدهار التجارة، إضافة إلى كل هذا كانت بريطانيا تمتلك نظاماً بنكياً متطوراً يقوم بمنح قروض هامة.
رابعا: كانت البضائع البريطانية تسوق في اتجاهين رئيسيين: السوق الداخلية نظراً للنمو الديمغرافي الهائل كما سبق الذكر، ونحو مستعمرات ماوراء البحار.

ولتشجيع تسويق المنتجات البريطانية سن البرلمان البريطاني عدة قوانين وإجراءات بداية من العام 1651 لإرغام المستعمرات على شراء البضائع البريطانية.

خامسا: كانت الحكومة البريطانية في القرن 17 تدرك أن الطرق والقنوات تعتبر هامة لنمو اقتصادها، لذلك عمدت إلى تحديثها وتطويرها حتى تستجيب لوتيرة نمو الصناعة والتجارة اللتين قامت بتحريرهما، كما خفضت من الضرائب المفروضة عليها.

سادساً وأخيراً: السبب الأخير في التقدم الصناعي البريطاني أن المجتمع البريطاني كان يتمتع بدينامية وحركية كبيرة. فكان بإمكان أي عامل يعمل بجد ويدخر المال أن يصبح ثرياً، ويمتلك مصنعاً خاصاً به عكس ماكان عليه الحال في فرنسا وإسبانيا.

آلات صناعة النسيج تساعد في بناء النظام المعملي

قبيل العام 1700، كانت كل البضائع والمنتوجات تصنع بطريقة يدوية في الدكاكين والمزارع أو بيوت ريفية صغيرة، إذ كان التجار يحملون إلى السكان الذين كانوا يغزلون الملابس في بيوتهم كل ما يلزمهم من أدوات وصوف وقطن.

وقد كان هذا النظام غير فعال البتة.

وبعد العام 1700، كانت الأسواق الداخلية والخارجية تتوسع بشكل ملحوظ، وكانت هذه الأسواق في حاجة إلى ملابس صوفية وقطنية جاهزة، الأمر الذي عجزت عن تلبيته المصانع البدائية التقليدية، فكانت الحاجة ماسة إلى تطوير وسائل تصنيع النسيج، مما حدا بالبريطاني جون كاي إلى تطوير آلات حياكة سريعة وعصرية، وكان ذلك في العام 1733.

وفي العام 1769 ظهر اختراعان جديدان فيما يخص آلات النسيج، هذان الاختراعان اللذان تمكنا من تسريع العمل في مصانع النسيج.

وعشر سنوات بعد ذلك، أي في العام 1779 تمكن المخترع البريطاني صامويل كرومبتون من تصنيع وغزل خيوط رفيعة بكثرة وفي الوقت ذاته.

وفي البدايات الأولى للقرن 19، وبالضبط في العام 1800 قدم ادموند كارترايت اختراعاً آخر مذهلًا وهو: نول ضخم وسريع للغزل.

وكان القطن هو المادة الرئيسة التي كانت تستعمل في نسج الملابس، ولكن الجلد دخل هو الآخر عل الخط فنافس القطن بشدة في هذه الصناعة المزدهرة. وفي إنجلترا الجديدة، تمكن المخترع إلي ويتني من اختراع آلة ضخمة لتنظيف القطن، تستطيع القيام بذلك أسرع من خمسين عاملًا مجتمعين.

وبتسارع هذه الاختراعات تخلص أرباب العمل من ضرورة التواجد قرب الأنهار التي كانوا يستعملون طاقتها المائية لتشغيل آلاتهم، واتجهوا إلى إنشاء مصانع جديدة وحديثة ابتداء من مطلع القرن 19، مما أدى إلى وفرة الإنتاج وجودته، وهذا ما اصطلح عليه بالإنتاج الوفير والثقيل.

وكان أهم ماميز النظام المعملي هو قيام كل آلة على حدة بعملها المنوط بها، ثم انتقال المنتوج في سلسلة مترابطة نحو آلة أخرى لإتمام العمل والتصنيع.

بدء استعمال الفولاذ والفحم الحجري على نحو واسع

العديد من الآلات صنعت من الفولاذ، لذلك ارتفع الطلب على هذه المادة الحيوية بكثرة.

وكان الفولاذ يصنع في البداية من فحم الحطب بطريقة بدائية لكنها رخيصة، علاوة على ذلك عاشت بريطانيا أزمة كبيرة في أواخر القرن 17 وبدايات القرن 18. فقد تم استغلال جل الغابات وقطعت أشجارها من أجل استعمالها في بناء السفن وبعض الآلات الأخرى. وقد تم حل مشكلة الطاقة في بريطانيا بواسطة الاستعمال الواسع للفحم الحجري.

وفي العام 1375 بدأ أبراهام ديربي صناعة الفولاذ بواسطة تصفية الفحم، وكنتيجة لهذا انتقلت الصناعة من الغابات إلى المناطق الغنية بالفحم، أما في العام 1780 فقد قام المقاول هنري كورت باختراعين تمكن بواسطتهما من صهر الحديد في فرن كبير وعصره، فصنع منه ألواح حديد.

وفي العام 1844 تمكنت بريطانيا من إنتاج حوالي 3 ملايين طن من الفولاذ، وبذلك دخل الفولاذ في صناعة العديد من المنتجات المعدة سواء للاستهلاك الداخلي أو للتصدير نحو الأسواق الخارجية.

وسائل التنقل تصبح أكثر سرعة وأقل تكلفة

كانت وسائل التنقل المعتادة في العصور الوسطى هي الأحصنة. وكانت الطرق والمسالك صعبة للغاية. وفي منتصف القرن 18، وبالضبط في العام 1770 تمكن مهندسان اسكتلنديان هما طوماس تلفورد وجون ماك آدم من تحسين بناء الطرق والقنوات.

وفي العام 1761 تم بناء إحدى أولى القنوات العصرية، بلغ طولها سبعة أميال، وتم إنشاؤها من طرف دوق بريدجووتر ليصل بين مناجم الفحم التي يمتلكها بمدينة مانشستر، ويبلغ ميلها ثمانون درجة.

وفي العام 1830 كانت بريطانيا تمتلك إحدى أفضل شبكات النقل المائي في العالم. وكان أهم اختراع في القرن 18 هو اختراع القاطرة البخارية من طرف جيمس واط في العام 1769، إذ حلت محل الآلات القديمة والبطيئة.

وانطلاقاً من العام 1780 بدأ فريق من المهندسين في دراسة مدى إمكانية استعمال البخار كوسيلة لتشغيل المحركات والآلات، وعندما تم ربط مدينة ليفربول بمدينة مانشستر بواسطة السكة الحديدية، أعلن عن جائزة لأحسن عربة، وفاز بها المهندس جورج ستفنسون، وذلك في العام 1829، وكان معدل سرعة عربة ستفنسون حوالي 14 ميلا في الساعة، كما بدأ نفس المهندس بناء سكة حديدية أنهاها في العام 1840.

ومع انصرام العام 1850، تم إنجاز معظم الطرق والقنوات والسكك الحديدية. وبذلك ساهمت هذه الاختراعات في التقدم الصناعي الذي عرفته أوروبا وأمريكا في تلك الحقبة. وحتى عام 1838، كانت معظم السفن تستعمل الأشرعة وتعتمد على الرياح، لكن ابتداء من 1880 أنجزت أولى السفن التي اعتمدت على الطاقة البخارية وتسمى: Sirius سيريوس والتي أقلعت من ميناء ليفربول في اتجاه مدينة نيويورك. وقد قطعت المسافة الفاصلة بين المدينتين في ثمانية عشر يوماً.

وهكذا تم شحن البضائع وحمل المسافرين بسرعة أكبر وبتكلفة أقل.

اهتمت الثورة الصناعية الأولى فقط بميادين: صناعة الفولاذ، النسيج والطاقة البخارية، وكان العديد من البريطانيين آنذاك فلاحين قرويين، لكن حياتهم تغيرت كلياً بعد الثورة الصناعية الثانية التي بدأت منتصف القرن 19، وهذه المرة تميزت بمنافسة قوية من طرف أمريكا ودول أوروبية أخرى التي قامت بالعديد من الاختراعات العلمية التي غيرت مجرى البشرية.

التصنيع يروج لأوروبا وشمال أمريكا

لم يبدأ التصنيع فعلياً في أوروبا إلا انطلاقاً من العام 1830، وذلك راجع لضعف نظام المواصلات، ونظراً للحدود الجغرافية وعدم تأهيل اليد العاملة، لكن الذي روج للصناعة البريطانية أكثر من غيرها كان صناعة النسيج، وتدريجياً بدأت الصناعة تنتشر في أوروبا بأسرها.

وبعد منتصف القرن 19 كانت أمريكا والعديد من دول أوروبا قد أنشأت أساساً مثينا لصناعاتها، وكمثال على ذلك زادت ألمانيا من حجم إنتاج الفحم من أربعة ملايين طن إلى أربعة وعشرين مليون طن، كما توسعت التجارة نحو بلدان أخرى عن طريق التصدير والاستيراد، ونتيجة لذلك ظهرت عدة قوى اقتصادية جديدة تنافس بريطانيا في التصنيع.

التمدن والتصنيع يخلقان مشاكل اجتماعية جمة

كان اختراع الآلة البخارية سبباً رئيساً في نمو الحواضر، مما جعل أرباب العمل يبنون مصانعهم في المدن التي تتوفر على ترسانة كبيرة من وسائل النقل.

ونتيجة لذلك هاجر سكان البوادي إلى المدن بحثاً عن فرص العمل مما نتج عنه اكتظاظ هذه المدن بالسكان، وكمثال على ذلك ارتفعت نسبة ساكنة المدن في بريطانيا من 17% علام 1800 إلى 55% عام 1890، وهي أكبر هجرة نحو المدن عرفتها أوروبا على مر التاريخ. وتولدت عن ذلك مشاكل كبيرة في إيجاد سكن لعائلات العمال المهاجرين التي اضطرت إلى الإقامة في مساكن صغيرة وضيقة وحتى الغرف، هذا إضافة إلى انعدام الإنارة فيها وكذا دورات المياه، ناهيك عن الأزقة الضيقة المليئة بالقاذورات والمياه العادمة، وكذا دخان المصانع المنبعث هنا وهناك. وكنتيجة حتمية لهذا، أصيب العمال وعائلاتهم بالعديد من الأمراض كالسل والكوليرا والتيفوس، مما جعل الحكومة البريطانية تتحرك لتحسين أوضاع العمال وعائلاتهم.

العمل تحت ظروف قاسية

كان العمل في المصانع والمناجم قاسياً جداً، مما جعل العمال يتعرضون لمخاطر جمة، ولا يتمتعون بأدنى تعويض إذا ما فقدوا عضوا من أعضائهم أثناء ممارسة عملهم. وكان الرجال والنساء والأطفال على حد سواء يعملون بكيفية متواصلة من 12 ساعة إلى 15 ساعة في اليوم الواحد، وكان العديد منهم يصابون بكسور خاصة في العمود الفقري نتيجة لانحنائهم المتواصل من أجل تشغيل الآلات وإصلاحها، وزيادة على ذلك كان العديد منهم غير متعلمين ويعانون نقصاً فظيعاً في التغذية خاصة الأطفال منهم، مما جعل البرلمان البريطاني يصدر عدة قوانين تمنع استغلال حوالي خمسين ألف طفل في الأعمال الشاقة، وكان ذلك بين عامي: 1833 و1842.
 


ظهور الطبقات الاجتماعية

كان المجتمع البريطاني في القرن 19 يتكون من ثلاث طبقات:

الطبقة البورجوازية التي كان أغلبها من العائلات النبيلة وملاك الأراضي، ورؤوس الأموال الكبار الذين كانوا يوجدون على رأس المجتمع البريطاني.

وبعد هذه الطبقة مباشرة تأتي الطبقة المتوسطة التي تتكون في غالبيتها من أرباب العمل ومالكي المصانع والمحامين والمعلمين، بينما تشكل طبقة العمال والكادحين حوالي 75% من المجتمع البريطاني.

كانت طبقة العمال هي الأكبر أثناء عصر التصنيع، وكانت تتكون من عمال المصانع والمناجم والمياومين. ولم يكن هؤلاء العمال في حاجة إلى مهارات خاصة لممارسة الأعمال المرهقة، وهي الفرص التي كانت توفرها المصانع والمناجم آنذاك، أما الأعمال التي كانت تتطلب مهارات محددة، فكانت مخصصة للتقنيين، لكن نسبتها كانت ضئيلة جدّاً.

لقد كانت الحياة القاسية التي تعيشها فئة العمال الكادحين إبان تلك الفترة ملحوظة، ورغم ذلك كانت الهجرة نحو المدينة كبيرة أملا في أجر أكبر وحياة أفضل.

وقد ارتفعت نسبة الأجور إلى 65% مابين 1800 و1850، وانخفضت أثمنة المنتوجات خاصة المواد الغذائية، لذلك تحسنت حياة طبقة العمال فحصلوا على تغذية أفضل مما كانوا عليه عند بداية الثورة الصناعية، كما تحسنت ظروف السكن، فأصبح العمال وعائلاتهم يسكنون في بيوت تتوفر فيها شروط الحياة الكريمة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها