صورة المرأة في السينما المغربية

د. محمد رمصيص


مرت الكتابة الدرامية في السينما المغربية منذ عقد السبعينيات من القرن (20) بلحظات مضيئة، وإن كانت قليلة إن على مستوى المضامين أو على مستوى الإلمام بالأدوات التعبيرية (التقطيع، والتركيب، وإدارة الممثلين..). بحيث يمكن اعتبار فيلم "وشمة" لحميد بناني سنة 1970 الانطلاقة الفعلية للسينما المغربية، مروراً بفيلم "حلاق درب الفقراء" لمحمد الركاب، وفيلم "عرس الدم" لسهيل بن بركة، ومروحة صغيرة من الأفلام الأخرى.
 

غير أن المتغير في السينما المغربية المعاصرة هو التحاق كوكبة كبيرة من المخرجات اللواتي تركن بصمة واضحة على صورة المرأة فيها.. في هذا السياق يمكننا طرح السؤال التالي: كيف حضرت المرأة في السينما المغربية وكيف غابت؟ وعندما نتحدث عن حضورها فالأمر يشمل الملصقات والعناوين مروراً بالبطولات والتمثيل، وكتابة السيناريو والإخراج، وما إليه من المهن السينمائية المجاورة.. وما العوامل المساعدة لها على تبلور وعي حقوقي بحقها في تجاوز صورتها النمطية المختزلة في تربية الأبناء والطبخ والكنس وما إليه.
 


صورة المرأة الباحثة عن تحقيق الذات

في فيلم" آدم" لمريم التوزاني (2019) ينفتح ستار الشاشة على حواء (البطلة سامية)، رغم أن عنوان الفيلم يحمل اسم "آدم"، وهو أمر حقق نوعاً من التشويق وطرح السؤال عن العلاقة المحتملة بينها.. ومنذ اللحظة الأولى يتعرف المتلقي على سامية الفتاة الحامل بشكل غير شرعي؛ فتاة تعيش حالة ضياع وهي تجوب أزقة حي شعبي بمدينة الدار البيضاء باحثة عن العمل.. فتصطدم بأبواب موصدة إلى أن تلتقي بأرملة تعاني من فداحة وفاة زوجها في حادثة سير مروعة. أرملة تخاوي جرحها بجرح سامية التي ترفض الاستسلام لليأس. فتبدأ في مساعدتها في تهيئة الفطائر والخبز ليضمنا معاً حق الاستمرار في الحياة.
 

جمالياً توفقت المخرجة في هذا الفيلم في إيصال رتابة حياة امرأة دون رجل من خلال بطء اللقطات وطولها، التي عكس بطء تطور الوضع الاعتباري للمرأة في وسط اجتماعي شعبي.. فضلا عن توظيفها لرمزية الحمام الزاجل فوق السطوح وهو يبكي وضع المرأة المختل.. إضافة للقطات وجه البطلة المقربة كي تدخل المتلقي في قلب معاناتها الحميمة.. وإذا كانت الأرملة قد آوت سامية ومنحتها دفء العائلة؛ فإن سامية حملت الأرملة على الإيمان بأن الحياة للأبقى، وذلك من خلال تشجيعها على تكرار تجربة الزواج مرة ثانية.. فبدأت في التفكير في نفسها من خلال وضع المساحيق والإنصات للموسيقى بعد أن كانت في حالة حزن مطلق على وفاة الزوج. أرملة معطوبة تماماً بسبب حرمانها من أبسط الحقوق في العيش بكرامة.. بدليل جملتها الجارحة: "ليس للنساء حتى الحق في مرافقة أزواجهن للمقبرة في لحظات الوداع الأخير.."! وذات الحرمات عاشته البطلة (سامية) لحظة تفكيرها في التخلي عن ابنها غير الشرعي، لكنها بعد مراجعة جذرية لسلطة المجتمع قررت تنشئته ومواصلة الحياة برفقته.. بهذا المعنى يمكن اعتبار هذا الفيلم قدم صورة دقيقة عن المرأة المصرة على إثبات الذات وتحدي عثرات الواقع الكثيرة.
 

صورة المرأة المتمردة

في فيلمها الأول "ماروك" (2005) لعبت المخرجة ليلى مراكشي على تقابلات جارحة بين عالم الفقر والحاجة، وعالم الثراء والترف، حيث استهلت شريطها بأطفال معدمين يبيعون السجائر بالتقسيط، ويحلمون بارتياد الحانات وامتلاك قنينة نبيذ، وفتيات ينتسبن لقشدة المجتمع المغربي وهن على أهبة ارتياد الحانة.. فضلا عن لقطة حارس السيارات المعدم وهو يصلي بجوار مركبة فارهة في حيازة شاب ثري وهو يتبادل القبل مع عشيقته؛ الأمر الذي جعله يضبط في حالة تلبس ويقدم الشرطة المغربية كمؤسسة مرتشية. وتمرد البطلة "غيثه" لم يقف عند حدود الثورة في وجه الشرطي بل وصل لعقد علاقة عاطفية مع شاب يهودي وهي الشابة المسلمة.. فطلبت منه اعتناق الإسلام كي تكمل حياتها معه.. غير أن المخرجة ارتأت هلاكه في حادثة سير مروعة بسبب انعدام أفق ممكن لاستمرار هذه العلاقة. وهو مخرج غير مقنع تماماً. وبتطور أحداث الشريط يكتشف المتلقي تمرد البطلة على فعل الصوم في شهر رمضان، والاحتجاج على صلاة أخيها الملتحي، وتدخينها المخدرات، والتلفظ صحبة شلتها بألفاظ نابية في الكثير من الحوارات، وإقبالها على لقطات حميمة مع "يوري".. مسلكيات تجد مبررها النسبي في كون البطلة تعيش في أحضان عائلة بورجوازية بعيدة كل البعد عن أخلاق مغرب العمق.. وتدرس رفقة أبناء الجالية الفرنسية بثانوية "ليوطي" بالبيضاء، الأمر الذي جعل لغة الفيلم فرنسية ومفتوحة على مروحة من أنماط الموسيقى بما في ذلك "الشكوري"؛ أي الغناء اليهودي في بعض لقطات الفيلم. وبعد وفاة البطل يوري تقرر غيثه التوجه لأوروبا علها تتصالح مع ذاتها، وإن كنا نرى أن المواجهة قوة والهروب ضعف.
 

صورة المرأة الخنوعة والمنتظرة

في فيلمها الأول "الراقد"/ الجنين النائم في بطن أمه لسنوات (2004)، رصدت المخرجة المغربية ياسمين قصاري صورة المرأة "الحامل" من رجل فار في رحلة سرية اتجاه أوروبا بحثاً عن غد أفضل، هارباً من الجوع والفقر.. تاركاً خلفه امرأة تنتظر دون غاية ولا هدف ولا جدوى. وقصة (زينب) وزوجها ليست إلا مثالا مصغراً عن المآسي التي تخلقها الهجرة السرية لأزواج كثر في اتجاه الغرب. هجرة تنتج أساطير شعبية كثيرة منها أسطورة (الراقد)؛ أسطورة تحكي إيمان المرأة البسيطة وقدرتها في الاحتفاظ بالجنين في بطنها لسنوات في انتظار عودة الزوج الغائب. ولحيازة المرأة هذه الغاية توسلت بالفقيه، والتمائم، والرقص الشعبي، ووفرة من المعتقدات والعادات الشعبية المنتشرة في الأوساط الفقيرة.. والمخرجة في الفيلم وظفت "الراقد" ليس بمعناها الحقيقي والمباشر، ولكن بمعنى الرغبة المؤجلة في فعل الإنجاب الذي يضمن فعل الاستمرار في الحياة من خلال النسل.. وإن كانت فكرة الحمل عند البطلة مجرد تهيؤ فإن الوهم هنا أهم من الحقيقة لتتحمل المرأة بؤس الحياة. كما أن "الراقد" وظفته المخرجة كإشارة للأمل الذي قد يتحقق في المستقبل المحلوم به.
 

تِقنياً اعتمدت المخرجة على ديكور في غاية البساطة، ووجوه جديدة يظهرن في أولى تجاربهن أمام الكاميرا الأمر الذي منح الفيلم مصداقية وواقعية باستثناء بطلتي الفيلم: رشيدة لبراكني، ومينة عصفور. تقول ياسمين قصاري في إحدى حواراتها: "لإدارة ممثلين غير محترفين يجب أن تحبهم؛ إنني أعرفهن عن قرب، بعضهن من قبيلة أمي... بالنسبة لهن، كان العمل معي وكأنه تقديم خدمة خاصة لي، يعرفنني منذ كنت طفلة، وكن متأكدات أنني عدت كي أتحدث عنهن، كن في حاجة إلى ذلك؛ لأنه دون ذلك من الصعب جداً إدارة مثل تلك النساء دون أن يحبهن المخرج ويحببنه، وهذا ما حصل معي في "الراقد".

وبالإضافة لتحكم المخرجة في إدارة الممثلين، توسلت المشاهد البانورامية للقرية المغربية الخالية من الرجال، وهو خلو جعل الأرض قاحلة وغير منتجة، وأوصل لنا فكرة المرأة التي تعاني من ألم الانتظار، وتترقب خلاصها على يد رجل ترك الأرض والعرض مكرهاً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها