السمات الراهنة للدراما التلفزيونية

محمد الفقي


يزداد ثم يزداد يوماً بعد يوم، اتضاح حقيقة صارت تميز عصرنا؛ هي هيمنة السرد التلفزيوني على باقي أشكال السرد، وعلى كل أشكال القص: الروايات والأفلام والمسرحيات والقصائد، والأغاني وألعاب الفيديو؛ أي كل أشكال القص ذات الطبيعة السردية، بل وبات المسلسل هو المرآة التي تعكس المرويات أو السرديات الأضخم مثل السرد السياسي، والنيولبرالية، وما بعد الحداثة، والتحليل النفسي، والخطاب الصهيوني، حتى امتد تأثير المسلسلات، الغير قابل للقياس لاتساعه وعمقه، ليشكل كلامنا اليومي، أو "حكينا" كما تعبر عنه عامية شرقنا العربي، أي هويتنا؛ هوية جميع سكان الكوكب.


ليس فقط لأن الدراما التلفزيونية هي التي تنتج اليوم وتوزع أكثر من غيرها، لكن يبدو لنا أنها قد باتت هي فن الرأسمالية والشكل المفضل لديها في السرد، ومن ناحية أخرى لأنها تقوم الآن بوظيفة الملاحم وتؤدي ما كانت تؤديه الملحمة قديماً؛ أي التصوير الفني لحركة الجنس البشري في شكلها العام.

فإذا ما حاولنا تأمل السمات المميزة للسرد التلفزيوني الراهن، من حيث القيم والمعاني، ومن حيث الصنعة والأسلوب، فلعلنا نخلص إلى عدد من الملاحظات، نسوقها باختصار في هذا المقام.


الفورمات

منذ بداية الألفية الثالثة أو يكاد، أخذت المسلسلات تقترب من قالب (فورمات) السينما. لم يعد المسلسل التلفزيوني يُصنع في ثلاثين حلقة أو أكثر، بل في ثمان أو أقل. وصار الحرص على الجماليات والإبهار البصري هو عينه في السينما. الميزانيات هي الأخرى باتت أقرب إلى ميزانيات الأفلام، حتى إن ميزانية حلقة واحدة من مسلسل (لعبة العروش) ربما فاقت ميزانية فيلم هوليودي من ذوي الميزانيات المتوسطة. هذا فضلاً عن الاتجاه الذي يتزايد يومياً من تحول نجوم السينما ومؤلفيها ومخرجيها ومنتجيها إلى العمل في المسلسلات.

فوق هذا نستطيع أن نتلمس بوضوح أن الفجوة التي كانت بين المسلسل والفيلم في مجال الموضوعات والأفكار أخذت هي الأخرى في التقلص بصورة متسارعة حتى زالت. لم يعد الكود الرقابي أو الأخلاقي القديم فيما يُعرض على الشاشة الصغيرة في حرمة البيوت وفي حضرة الأسرة كما كان، بل بات هو الكود الرقابي والأخلاقي لسينما هوليوود؛ يتشدد فيما يتشدد فيه (كتدخين السجائر، وحقوق المرأة، وصورة اليهودي، والحريات الفردية، والحفاظ على البيئة، إلخ)، ويتساهل فيما يتساهل فيه (كالعري، والعنف، والمثلية، وتعاطي المخدرات، والشتائم، وازدراء المسنين، إلخ).

أحوال البطل

إذا ما مررنا سريعاً ببصرنا على صور أبطال الدراما التلفزيونية الراهنة وجدناهم: زعماء مافيا مخدرات، ومدرس بالمرحلة الثانوية يستغل معرفته بالكيمياء في تخليق أخطر أنواع المخدرات وترويجها، ومحامي مغمور لا يترك سبيلاً للدفاع عن اللصوص والسفلة وزعماء الجريمة المنظمة إلا ويسلكه، ومدرب كرة قدم لا يفقه شيئاً عن اللعبة، وعصابة تسطو على الدار الوطنية لسك العملة، وتلميذات بالمرحلة الثانوية سوقيات وغائبات عن الوعي من إدمان المخدرات، وتلاميذ منغمسون في علاقات مثلية، ومراهقات يأكلن جثث الموتى، وأطفال منفصلون عن الواقع يعيشون في عوالم الخرافات والأساطير ينقذون الكون من كائنات شريرة، وصراعات ما بين كائنات أبدية لا تموت، وأبطال خارقون يتصدون لأشرار يحاولون إبادة وتدمير، لا كوكب الأرض فقط، بل المجرة كلها، وأحياناً الكون بأسره، وأحايين أخرى الأكوان الموازية، وقتلة متسلسلون، وسماسرة بورصة محتالون، ونصابون بأنوف أطول من بينوكيو، إلى كثير من هذا الصنف ممن لا يغريك فيهم إلا الرغبة في صفعهم. إن المنظور العام للدراما يُروى اليوم من خلال وجهة نظر هذا البطل الجديد، وقيمه ومثله هي التي تحدد الأخلاقيات التي يتبناها المسلسل.

فإذا ما تساءلنا: ما الذي يمكن أن يجمع كل تلك النوعيات من الأبطال الجدد من الحمقى والمدمنين والمجرمين والمرضى الاجتماعيين؟ لوجدنا أن العامل المشترك فيما بينهم أنهم يعلقون قواعد التهذيب والحس الإنساني السليم على الشماعة، فيسرقون، ويقتلون، ويتلاعبون، وينصبون، ويخدعون، بتباه وتبجح، وبوعي كامل، وبلا صراع نفسي أو معاناة روحية، بل وباستمتاع وتلذذ. تفتح دراما اليوم صندوق باندورا الذي يضم كل شرور البشرية من جشع، وغرور، وكذب، وحسد، ووقاحة. صندوق اللعنات.

منصات العرض الكوكبية

(نتفليكس) و(أمازون)، و(أبل) و(هولو) هي المنصات العابرة للجنسيات والثقافات والقوميات التي خرجت لنا من قماقم العولمة، والتي تعرض المنتجات الدرامية والترفيهية الآن لجميع سكان الكوكب. ولا يحتاج الأمر إلى كثير من البحث والتحري لتشبيه هذه المنصات بالأنشطة التسويقية والطفيلية في الاقتصاد الخدمي؛ الأنشطة التي هي من أبناء عمومة القمار؛ مثل المضاربات في البورصة، والتسويق العقاري، والتربح من عمليات التوسط بين البائع والمشتري في منصات التجارة الإلكترونية، والأنشطة القائمة على استغلال العواطف البشرية في توليد الأرباح كشركات منصات التواصل الاجتماعي.

هذه الشركات الإنتاجية الجديدة تشير كل الدلائل حتى الآن إلى أنها تمثل القوى "الرخوة" في الإنتاج الدرامي العالمي، في مقابل القوى "الصلبة" في الإنتاج الدرامي؛ مثل HBO، وBBC، وCBS، وABC، وNBC، وهي الأذرع الإعلامية لشركات عريقة في الكلاسيكية؛ مثل ورنر براذرس، وهيئة الإذاعة البريطانية، ووالت دزني، وباراماونت بكتشرز، ويونيفرسال؛ أي أنها ورثت ثقافة صلبة في عملية الإنتاج من الشركات الأم، على نقيض المنصات الكوكبية الجديدة التي ورثت طريقة العمل الراهنة في هوليوود بنفس مثالبها.

رفض الموت في الدراما الراهنة

يعود جون سنو من الموت بعد أن يفارق الحياة، ويُقتل طعناً بالخناجر على أيدي رفاقه من حراس الجدار في (لعبة العروش). كيرا ثريس تموت في حادثة تحطم مقاتلتها الفضائية ثم تعود للحياة لقيادة البشر إلى كوكب الأرض في (المدرعة الفضائية جالاكتيكا). وفي (المُنفسَح The Expanse) تعيد الطفلة كيرا أخاها الميت إلى الحياة عقب وفاته ببضعة أيام. وفي نفس المسلسل، وبعد أن يموت المحقق توماس ميلر، يعود وعيه إلى الحياة ويظهر لبطل المسلسل جيمس هولدن ويستمر في نصحه وإرشاده. وفي (رجل الرمال Sandman) يمنح رجل الرمال، الذي لا يموت ولا يشيخ، الخلود لشخص عابر كي يشاركه مشاعره حول الحياة الأبدية. ويموت توني ألميدا في الموسم الخامس من مسلسل (24)، ثم نراه حياً في الموسم السابع. ونجد شبيهاً لهذا في عودة سارة تنكريدي للحياة في (الهروب من السجن Prison Break). وكراكستون الذي يعود إلى الحياة بعد عدة قرون من موته في مسلسل (أربعاء Wednesday)، وكذا، وكذا، وكثير غيرها.

الأمثلة الآنفة تشمل مسلسلات درامية ممتازة، ومتواضعة، وضعيفة المستوى. الموت الذي هو، وفقاً للموسوعة البريطانية: "التوقف التام لعمليات الحياة ومظاهرها، والذي يحدث على نحو حتمي لكل كائن حي في النهاية"، يبدو أنه بات أمراً ينفر منه مؤلف الدراما، بصرف النظر عن قوته أو تمكنه من الصنعة. يندر ويندر اليوم أن نشهد في ماكينة السرد الدرامي موت الشخصية الرئيسية، أو إحدى الشخصيات الأساسية، موتاً فعلياً تاماً وأبدياً. لعلها سمة من سمات الثقافة العامة التي باتت تغطي سحابتها أركان الأرض.

بفساد الهواء يفسد كل شيء يشتمل عليه ذلك الهواء. التحولات الاقتصادية الكبرى تؤدي إلى تحولات ثقافية كبرى. الثقافة حتى بمعناها الواسع كأسلوب حياة وتفكير لدى العامة قبل الخاصة. ما حدث في الاقتصاد منذ ثمانينيات القرن الماضي، هو التحول إلى اقتصاد النيولبرالية الذي يحفز طبيعة الجشع لدى الإنسان، مع الاحلال المتسارع للأنشطة الطفيلية وتلك القائمة على المخاطرة والمضاربة، وتوليد الأرباح من العواطف محل النشاطيْن الصناعي والزراعي. يسميه عالم الاجتماع الألماني أولرش بك "اقتصاد المخاطرة." ويسميه سلافوي جيجيك "الاقتصاد الانفعالي-العاطفي". ويطلق عليه عدد آخر من بصراء الفلاسفة والمفكرين، مثل داني روبير دوفور، "الاقتصاد النفسي"، أو "اقتصاد اللاوعي".

النيولبرالية وصلت إلى مرحلة باتت تطمح فيها إلى القضاء على الموت، بدعم من التقدم السريع في علوم البيولوجيا، والطب، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المتسارعة في مختلف المجالات العلمية، التي أكسبت الإنسان القدرة على العدو، وأنسته، في نفس الوقت، كيف يمشي. بتعبيرات حنة أرنت: "وقعنا تحت لعنة ساحر، جعلنا قادرين على فعل المستحيل، وأفقدنا القدرة على فعل الممكن". بتنا نحلم بتجاوز الموت، ونحن بعد نخوض يومياً غمار حرب الثلاث وجبات.

الفردوس الموعود

في ظل الصعوبات الهيكلية المستحكمة التي أوصلتنا إليها رأسمالية الغابة، وخشية حدوث لحظة الإشراق، ويقظة الغفلان، أي حدوث التنوير للرأي العام، وما يمثله من تهديد لهذا النمط البائس من الاقتصاد، والثقافة التي تتبعه، يكون من المريح، والمربح، القفز بعيداً عن ساحة المواجهة، بالتطلع إلى آمال زائفة، وحلول سهلة كاذبة. تنويم مغناطيسي. وكأن الخلود سيحل مشكلات الفقر والجهل والمرض التي يغرق فيها الكوكب.

قد نتسائل: وماذا إذا وصل الإنسان إلى الخلود، وبقيت مشكلاته الاقتصادية والسياسية والثقافية هي نفسها؟ يحق لنا أن ننكر على النيولبرالية وعودها، وأن نتوقع أن ما هو موجود بالفعل سيعيد إنتاج نفسه في صورة أبشع وأشر. هذا ما عودتنا عليه الرأسمالية بخيباتها السابقة والراهنة. من استرعى الذئب فقد ظلم نفسه.

الصنعة

تأملاتنا حول الصنعة والتقنية والأسلوب الذي تصنع به الدراما الأمريكية الراهنة تنسحب أيضاً على مسلسلاتنا العربية، ذلك أنا نرى أن كلها أو تكاد هي مستنسخات من الدراما الأمريكية، فإن وافقتنا على رأينا لا يصح أن نترك أصلاً إلى فرع، لذا سنتأمل قليلاً في صنعة الدراما الأمريكية، ولك أن تطبق ما يقنعك من ملاحظاتنا على مسلسلاتنا العربية.

لاحظنا منذ فترة أن السمة الأساسية الحاكمة التي صارت تسم سينما هوليوود وتابعيها من باقي سينمات العالم هي "الإفراط". هذا الفيروس انتقل إلى الدراما التلفزيونية هي الأخرى، فأصبح الهاجس الأول لدى صانعي الدراما هو الرغبة الجارفة في شد انتباه المتفرج بأي ثمن.

أدى هذا إلى انتساخهم للأفلام والمسلسلات التي ثبت شعبيتها، فراحوا يكررونها ويعيدون تقديمها في صور أردأ وأضعف، ظناً أن هذا ضمان لافتتان الجمهور بها وإقباله عليها. وفي نفس الوقت راحوا يحشدون عدداً كبيراً من الثيمات في المسلسل الواحد احتيالاً لجلب المشاهدات وزيادة الإقبال. صار جلباب الدراما مهترئاً لأنه من نسيج سبق استعماله مئات المرات، ومتنافراً لأنه من عدة رقاع درامية محشودة إلى جوار بعضها البعض، دون اهتمام بتطوير أي منها لتشكل نسيجاً درامياً منطقياً متماسكاً.

الإفراط والتفريط

الإفراط في حشر خطوط درامية متجاورة ومتلاحقة على غير هدى أتى على حساب التفريط في عقل وقلب الدراما؛ أي على حساب التماسك والوحدة العضوية، والتراكم السردي، ومنطقية الأحداث. صار الإفراط والمبالغة هما الضامن لشد انتباه المتفرج، وهو ما منح ثقل وأهمية للأطراف على حساب المركز. تشدك فكرة مسلسل وتجلس لتتابعه، فإذا به يفاجئك بالقفز يميناً ويساراً بعيداً عن الفكرة الأصلية التي شدتك إليه بداية. يدخل في هذا الباب أيضاً الإفراط في الديكورات الباهظة، والاستعانة بأحدث وأغلى السيارات، إلى آخر ذلك.

وضمن هذه الكومة من الخطوط الدرامية المهترئة والمنفلتة من عقالها يحشد صانع الدراما كماً مهولاً من الشتائم والبذاءات على لسان الشخصيات، حتى لا تكاد تخلو جملة واحدة لأي شخصية شريرة كانت أم طيبة من فاحش القول وبذيئه، حتى وإن كانت الأحداث تجري في الأربعينيات أو الخمسينيات أيام حقبة "القيم الأسرية"، وقبل ظهور شتائم بعينها في المجتمع الأمريكي، ظناً أن هذا سيكون أروج للدراما.
 

القادمون من الخلف

ولعله لهذا تكتسح المسلسلات الكورية الجنوبية والإسبانية نسب المشاهدات العالمية. فمسلسلات مثل (بيت المال La Casa De Papel، الموسم الأول 2017)، أو (لعبة الحبار Squid Game، الموسم الأول 2021)، أو (الترحال Moving، الموسم الأول 2023)، وبالرغم من مآخذنا على ما تطرحه من معان وأفكار، وما تدعمه من قيم رأسمالية، إلا أنه لا يمكننا نكران حرص صانعيها على المحافظة على التعاليم الكلاسيكية للصنعة؛ الوحدة السردية، والمنطقية الدرامية، والتراكم، والحذق في رسم الشخصيات. المتخصص وغير المتخصص في الدراما على السواء يكاد كلاهما يرى عرق المجهود المبذول في الصنعة.

أصبحت المسلسلات الكورية والإسبانية اليوم في منزلة السابق (أول الخيل في الرهان)، وسائر الدراما الأمريكية في منزلة السُكّيت (آخر الخيل في الحلبة)، وقليلها في منزلة المُصلّى أبداً (الذي يجيء بعد السابق وقبل السُكّيت). أولى بالدراماترجية الأمريكيين إعادة تعلم القواعد التي وضعها أسلافهم من سادات الدراما الكلاسيكية في العصر الذهبي لهوليوود في الأربعينيات والخمسينيات، وأن يستعيدوا تعلمها من نظرائهم الكوريين والإسبان.

الاستعانة بصديق

يستعين الدراماترجي الضعيف بالأصدقاء دعماً لمادته الرثة. إحدى صور الاستعانة بصديق هي ما بتنا نراه في معظم المسلسلات الأمريكية وغيرها من استخدام للأغاني الشعبية التي حققت رواجاً من أول المسلسل وحتى آخر لوحة للتترات. خذ مثلاً على هذا مسلسل (كتاب القوة Power Book).

من صور الاستعانة بصديق كذلك أن يلجأ الدراماترجي إلى إقحام شخصية درامية من مسلسل آخر ناجح في مسلسله هو ذاته. من الأمثلة الفجة على هذا إقحام صناع مسلسل (سول تحت الطلب Better Call Saul) لعدة شخصيات، بل وحتى لثيمات وخيوط درامية من مسلسل (الانحدار Breaking Bad). يتصور كاتب الدراما أن هذا ذكاء، وأريحية، وسعة صدر، أو تحية لزملاء في المهنة حقق مسلسلهم نجاحاً جماهيرياً، لكنه عندنا ليس إلا إعلان إفلاس مهني، وتحايلاً على كسب المشاهدين.

يدخل في هذا الباب أيضاً ما بتنا نلاحظه من ازدياد الاتجاه إلى وضع اصطلاحات مهنية من لغة أهل الدراما ونقادها على لسان الشخوص الدرامية التي لا تعمل في مجال الدراما، بل وتقوم هذه الشخصيات بتحليل بعض الأفلام والمسلسلات الشهيرة بطريقة مهنية اصطلاحية لا يجيدها إلا النقاد، ويُخصص لهذا مشاهد طويلة في المسلسل. هذا عندنا أيضاً هو إعلان للإفلاس المهني؛ فكأن الدراماترجي يقول: إن خبرته الوحيدة هي في المهنة وأسرارها، وهو في هذا محق، فمعظم الدراما الأمريكية اليوم تشهد ببعد صانعيها عن واقع المجتمع الذي يعيشون فيه، والدوران في أبراج عاجية على عجلة الأساطير اليونانية والرومانية، والخرافات القرونوسطية، والأكل والشرب على مائدة غيرهم من صناع الدراما الناجحة.

التمثيل الصفري

لعلك لاحظت سمة باتت متكررة في الدراما ألا وهي كثرة المشاهد التي ترسل أو تستقبل فيها الشخصيات رسائل نصية على الهاتف المحمول، أو تكتب إيميلات، أو تقرأ أخباراً في مواقع إلكترونية على الأجهزة الرقمية اللوحية. في تلك الأثناء، وحتى ينتهي الممثل من الكتابة أو القراءة، يكون التمثيل صفرياً. لا بد أن الأمر يحتاج إلى دراسة مفصلة عن نسبة هذه المشاهد إلى باقي زمن المسلسل، لكننا لاحظنا من جانبنا أنها تتراوح ما بين 5 إلى 10 بالمئة.

يتزامن مع ذلك صعود اتجاه بات سائداً أو يكاد لدى معظم أبطال مسلسلات المنصات الكوكبية، وأبطال مسلسلاتنا العربية كذلك، من تصوير الشخصية التي يجسدونها على نحو حيادي بارد خال من الإيماءات ومن التعبير الجسدي والتلوين الصوتي، وهو ما أشارت إليه نورا أمين في (فن التمثيل الآن، الفيصل، عدد: 557-558).

وفن التمثيل في تعريفه البسيط هو نقل الممثل للمشاعر والانفعالات والأفكار التي تسكن الشخصية التي يجسدها إلى المتفرج. وبهذا يكون بمقدور المتفرج أن يحب هذه الشخصية ويكره تلك، أو يتعاطف مع هذه ويحتقر تلك، وهكذا. وعلينا القول بإن التمثيل هو صنعة، وهو صنعة صعبة، تحتاج إلى الوعي والثقافة، والدراسة، والتدريب المتواصل للجسد والصوت، والممارسة والتجربة، ومن يطلب هذه الصنعة عليه أن ينحت في الصخر حتى يصل إلى مرحلة حيازة الخبرة وإدراك الحرفة، فيصير بعدها يغرف من بحر.

لكن البطل الجديد يأتي ملقياً بهذا الكفاح في النفايات، فيتلو ما هو مكتوب في السيناريو بآلية ميكانيكة، بلا مشاعر ولا انفعالات، وبلا حرفية في استخدام طبقات الصوت وتلوينه بانتقالات تجسد الحالة النفسية والذهنية للشخصية.

سمح هذا بظهور الكثيرين من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، واليوتيوب، ومغني الراب، ونجوم الرياضة، وعارضي الأزياء وأغلفة المجلات، والمهرة في فنون العلاقات العامة، كنجوم في المسلسلات مطالبين المتفرج بالانتباه إلى هالتهم الشخصية في مجتمع المشاهير، لا إلى احتياجات ودوافع وأزمات الشخصيات التي يجسدونها.

من هذا الباب يمكن فهم ظهور كثير من الممثلات والممثلين بملابس وإكسسوارات ومكياج لا يتناسب مع الشخصيات التي يؤدونها، بل ويكاد يتنافر معها، فهذا أيضاً من باب المطالبة بالانتباه إلى نجمة المسلسل ونجمه؛ أي من قبيل العلاقات العامة، وكسب المزيد من النقاط في لعبة الشهرة. قال عبيد بن الأبرص الأسدي:
أفلح بما شئت قد يُبلغ بالضعـ ... ـف وقد يُخدع الأريب

الخصب والجدب

وليس المذهب الذي يدعيه هؤلاء من جنس "السهل الممتنع" في حرفة التمثيل؛ لأن السهل الممتنع لا يكون بمقدور خواص الممثلين بلوغه إلا بتمام النضج من حيث الحرفة والصنعة، وبعد ثقافة عميقة في مجال التخصص، وثقافة واسعة في باقي مناحي الحياة، تمكن الممثل ذكي الفؤاد من إدراك الدوافع المتنوعة للإنسان وسبر أغوار النفس البشرية لكي يستطيع نقلها إلى المتفرج باستخدام جسده وصوته. بدون أن يفهم هو أولاً يستحيل أن ينقل شيئاً حقيقياً للمتفرج، وبدون أن يصل إلى درجة التحكم الكامل في جسده وصوته يستحيل أن ينقل ما فهمه عن الشخصية التي يجسدها إلى المشاهد.

كما لا ينبغي الخلط بين هذا الأداء التمثيلي العقيم، وما كان يطالب به تاركوفسكي ممثليه مثلاً بالتحفظ الإيمائي، وتوجيهه لهم بأن يتعاملوا مع الشخصية على أنها تحوي أسراراً دفينة لا ينبغي البوح بها، أو ما نراه في أفلام روي آندرشون من الجمود التعبيري لشخصياته، فكلاهما لديه فلسفة ورؤية خاصة متفردة للحياة وللحال الذي وصل إليه الإنسان، حاولا إيصالها إلى المشاهدين بتبني أسلوب فريد في الأداء التعبيري يبرز الفكرة ويكثفها. إذن تاركوفسكي، وآندرشون، وتار بيللا، وآكي كورسماكي، وإيليا سليمان، وغيرهم، بتوظيفهم لمذهب المينيمالية (minimalism) في فن التمثيل يصلون إلى تحقيق الغاية والهدف؛ أي إيصال المعاني للمشاهد، في حين يغتالها نجوم مسلسلات اليوم. قال الأخطل:
وإذا وضعت أباك في ميزانهم ... رجحوا وشال أبوك في الميزان

وجه العملة الآخر من البلادة الانفعالية والبرود العاطفي هو الفعل العنيف المتطرف في عنفه، ولعله لهذا تزخر الدراما الراهنة بالكثير من مشاهد العنف المفرط بدنياً ولفظياً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها