
خِفةُ الرُّوح المثقلة بالآلام.. كتابٌ صدرَ "رقمياً" عن دائرة الثقافة بالشارقة، وهو عبارة عن نصوص قصصية للكاتب المصري محمود حسانين. جاءتْ المجموعة في اثنتي عشرة قصة تبدو للقارئ من أول وهلة أنها تتناول موضوعات مختلفة، وأن كل قصة تحمل هماً أو قضية، أو حالةً منفردة عن باقي القصص؛ لكن بقليل من إمعان النظر، ومع القراءة الثانية للقصص يتكشف للقارئ أنه أمام نصوص عِدة، يمكن النظر إليها على أنها نصٌ واحد ليس على طريقة المتتالية القصصية؛ وإن كان من الإمكان تلمس البطل المنفرد، الوحيد المنعزل، القابع في منزله.. حجرته على وجه التحديد.
ففي قصة "لوحة" تبدو حالة الوحدة والانزواء بعيدًا عن صخب العالم؛ فيبدأ المشهد التأسيسي للقصة برسم لوحة؛ وكأنه يعبر عن العنوان بشكل فيه من الدقة كما فيه من صدق الحالة، فتظهر مفردات مثل "كوخ – مدفأة – شط – قارب – رمال – نخلة"، مثلتْ تلك الكلمات السابقة التي جاءت بصيغة النكرة حالة الشخصية التي سيأتي ذكرها في ثلث القصة الأخير؛ وكأن المهم هنا هو "اللوحة" لا الفرد، المشهد لا الإنسان؛ لأن ذلك المشهد هو المعبر عن الشخصية، هذه المفردات التي سبق ذكرها تُكوِّن عالم الوحدة والعزلة والبعد عن البشر، ويتجلى ذلك في وصف كل مفردة؛ فالكوخ يُوصف بأنه متداعٍ، والشط خال، والرمال يابسة رغم أنه بالقرب من مياه البحر، فكان أولى بها أن تَبتل، لكنْ هناك خصام وتنافر، وقسوة، وانعتاق بين كل قرينين، حتى قارب الصيد وُصف بأن شباكه فارغة، فلا قيمة له، والنخلة التي من المفترض أن تكون مثمرة يائسة هكذا تكتمل قتامة المشهد، ثم يظهر في النهاية الإنسان؛ الشخصية التي تطل على المشهد؛ إنها عجوز بجسد متهالك لتتواشج حالتها مع حالة "اللوحة".
لا تنفك الوحدة تُلقي بظلالها على نصوص الكاتب؛ ففي نص "محاكاة الوحدة والونس"، التي تبدأ بالجملة التالية "جلست وحيدًا أحتسي رشفاتٍ قليلةً من القهوة"، مكونات تلك الجملة الخبرية البسيطة الواصفة لوحدة الفرد الجالس وحيدًا، وفي يده كوب القهوة دون مشاركة أصدقاء أو أفراد من العائلة، هذا تعبير عن الفردانية، والعزوف عن الحياة، زاد ذلك قوله "كنت أشعر بقلق" "نظرتُ إلى آخر ما خطته يداي" الوحدة قرينة القلق، القلق على ماذا؟ على فعل الكتابة نفسه، التردد، وانعدم الثقة في ذلك النشاط الذي يقوم به الكُتَّاب، في مجتمع لا يرى فيه منفعة، فيلجأ الكاتب هنا للعزلة والانفراد، ومحاسبة الذات، والوقوف أمامها طويلاً.
يُكرر الرَّاوي الفعل "جلس" مرة أخرى في الفقرة التالية، ولكنه يلتفتُ بالخطاب من ضمير المتكلم في الفقرة الافتتاحية إلى ضمير الغائب "جلس على المقهى" ليُوقعنا الراوي هنا في توهمين أولهما: أن الجالس يحتسي القهوة أولا غير الجالس على المقهى، التوهم الثاني وهو أن الجلوس على المقهى دلالة على الخروج من العزلة المنزلية، لكن يتضح أنه ينتظر قدوم أحد أصدقائه، لا صديق بعينه، رغم ذلك لم يأت أحد! وإنما زادَ الشعور بالوحدة التي وصفها بأنها "تقتله"، يظهر تكرار الفعل "جلس" في القصة ثلاث مرات، وفي كل مرة يقترن بالوحدة، التي يقطعها حضور شِعر محمود درويش ليعبر أكثر عن حالة الشخصية"، ثم أغنية "مع الجريدة" لماجدة الرومي، كل ذلك كما يقول الراوي "المقهى يمتلئ بغرباء عنه".
تعود الشخصية مرة أخرى للوحدة في نص "شتاء"، ومن العنوان يتضح ذلك اللازم الزمني "الشتاء" بما يحمل من معاني القسوة والصقيع التي تُلزم الناس في بيوتهم؛ فيلجأ الراوي نفسه إلى غرفته وحيداً، يُعاني من الخواء، ومن الفراغ، يتسلى بقدح "الولاعة" مستمتعاً بصوتها، وباللهب الصغير المنبعث منها، يُجرب النقر على أزرار جهاز اللابتوب، في إشارة واضحة دوماً إلى اللجوء للكتابة كمحاولة أخيرة للنجاة من الحزن والاكتئاب وكسر العزلة، إن صوت تلك الأزرار أيضاً يُفتت الصمت، مع ضوء للسيجارة الضئيل ودخانها المبدد للوحشة، المُغير لطبيعة الغرفة.
في قصة "رأس" تقوم الشخصية بعبور الشارع، وفي حالة فانتازية يرسمها الكاتب بعناية وبأقل عدد من الكلمات، تطير رؤوس المارة، وتطيح برأسه، فيجدُّ في البحث عنها، وكل رأس انفصل عن جسد يتوق لهذا الجسد، لكنه يختار "رأساً يختبئ بخجل" هو المناسب له فيضعه على جسده، هنا يستمر التعبير عن الفردانية في مقابل المجموع، كتعبير عن الثنائيات الضدية، والتقابلات التي تدل على تناقضات الحياة ذاتها؛ لكن هذه القصة القصيرة جداً تتجاوز واقعية القصص الأخرى بمنحاها الغرائبي، الذي يبتعد كثيراً عن الإطار الذي يجمع القصص، مُتماً الحالة، ويؤكدها ولكن بطريقة مختلفة؛ وهي الطريقة ذاتها التي عبر بها في قصة "قلب"، ففي قصة "رأس" الجسد يحتاج لرأس، وفي هذه القصة الجسد يحتاج إلى قلب، ورغم إحاطة القلوب به إلا أنه سيتخير قلباً طفولياً بريئاً، رافضاً كل القلوب المستعارة الأخرى.
وفي قصة "الراعي" التي عُنون بها الكتاب، تبدو الرمزية في الإشارة إلى الانصياع والخضوع وعدم القدرة على الخروج من إطار الأبوية التي يصنعها المجتمع، وتُرسخها التقاليد، حتى لو كان ذلك التسلط يضر بمن قبلوا الخضوع، ومَن يتزيّون بزي التسامح، وعليهم سيماء قَبول الآخر، لكن قلوبهم تحمل ما لا تنطق به ألسنتهم، إنها حالة من التشتت والشرود، كما الأغنام في القصة.
ثم تأتي في النهاية حالة الخلاص، التحرر من الأحزان، من الوحدة والهموم التي تُثقل الروح، إنها الشخصية نفسها التي تتحرك وتؤدي دورها في أغلب القصص لتحط في النهاية بجناحيها على "الديستوبيا"، وهي المفردة الدالة على المكان الخبيث، المكان الخَرِب، الذي لحقه الدمار، واشتعلتْ في أروقته عناكب الفناء، فيختم الكاتب مجموعته القصصية التي آثر أن يُصنفها نصوصاً –وخيراً ما فعل– ليترك مساحة من التحرر من قالب التصنيف والخضوع تحت إطار النوع الذي انفلتت منه بعض النصوص؛ ففي النص الأخير "ديستوبيا" المعبر عن ختام رحلة الشخصية، وقد هبطت في محطتها الأخيرة، معبرة عن أمانٍ محبطة، وأحلام وُئدت فور ولادتها؛ إنها رحلة من حقها أن تُدوّن؛ ولذلك تُخْتَتم بقوله: "لقد كنت أحبُّ الحياة، كما أحببتُ تدوين أفكاري، كمْ تخلصتُ من أوجاع؛ فرسمتها كلمات، ولكن هذه المرة أحاول أن أتخلص من جسدي لأتحرر من ثقل جسد مثقل بالآلام لتبقى روحي خفيفة، تحلق كيفما تشاء".