ظلال الحرب .. في أرواح صخرات العسل

كيف وظف ممدوح عزام اللغة والزمان؟!

وليد عزام

الشعور بالعجز والشعور بالضياع في غياب المنقذ والحامي المخلص أهم ما نقع عليه في أرواح صخرات العسل، الرواية التي تبحث في الأسباب التي أوصلت المنارة والبلاد إلى ما وصلت إليه، وكان آذار هو بداية النهاية فزيتون أبو طرة وبرهان العلمي يستمران في تهديد الناس وترهيبهم؛ لضمان انصياعهم. إنّ الحب لا الطموح هو الذي دفع الأصدقاء الثلاثة إلى متابعة التعليم في المرحلة الإعدادية، لكنّ الحقد ظلّ يلاحقهم، ولم يكن بوسع الحب الجميل أن ينتصر، فالموت المنتظر هو النتيجة التي تحققت في زمن القمع وظلال الحرب.

 

بداية لا بد من الإشارة إلى أن الراوي في الرواية هو الوسيلة أو التقنية التي يستخدمها الكاتب ليكشف عالم قصته.
 

في أرواح صخرات العسل يختفي ممدوح عزام خلف راو مفوّض بجمع المعلومات، ويحللها بالاعتماد على مشاهداته وتحقيقاته مع الراويين اللذين يرويان له الأحداث ويناقشهما فيها.

الراوي المطّلع الأول هو نائل الجوف (كان نائل الجوف هو الذي حكى لي عن موت الأصدقاء الثلاثة، قال إنّه لا يعرف كيف يمكن أن يكتب حكايتهم ولا يرغب في ذلك. وكان همه أن يحرّضني على اكتشاف منبع تلك النبوءة الغريبة)
والراوي الثاني المساعد هو أحمد الشايب الصديق المقرّب الوحيد من الأصدقاء الثلاثة ويستعين به لملء الثغرات التي كان نائل الجوف يتركها في الحكاية. والراويان لا يتفقان دائماً في التحليل والتعليل، فقد يكون لكلّ منهما رأيّ خاص في واقعة أو حادثة أو تقييم، كما في علاقة حليمة بابنها سامي أو السبب الذي دفع خالد للالتحاق بالحرب... وهما يتنافسان في رواية الأحداث لإثبات الحضور. قال أحمد الشايب: هل تعرف كيف مات؟ لم يسألني في الواقع بل يروّضني على التشويق كان أحمد يخوض معركة مع نائل الجوف على الحكي، ولهذا كان يعمل عل جمع كل ما يستطيع من وقود الجذب والغواية ليستقل بالرواية.
وقد أتاحت طريقة استخدام الرواة في أرواح صخرات العسل للكاتب السيطرة على النص من الخارج والداخل، الأمر الذي مكّنه من إظهار مقدرته في تقنيات السرد وعدم التدخل في سير الأحداث، والتعامل معها بموضوعية، وقد ساهمت طريقة السرد تلك في منح المصداقية للرواية وجذب المتلقي وتشويقه للاكتشاف ومتابعة الحكاية.

:: البناء الزماني ::

 بدأت كتابة رواية أرواح صخرات العسل بعد سنة من نهاية أحداثها (حين ذهبت لزيارة نائل الجوف في المنارة كان قد مضى عام على موت عابد)، وهي تغطي فترة زمنية تمتد ربع قرن تقريباً.

زمن الحرب وموت الأصدقاء الثلاثة هو المحور الذي تطلب التحليل والتعليل؛ لكشف الأسباب التي نتج عنها كل هذا الموت المجاني وقتل الروح الإنسانية.

البناء الزماني للأحداث المفصلية في الرواية كان منسّقاً وفق فترات زمنية محددة: الطفولة -المراهقة -الشباب -الحرب -الموت. وهذه الفترات الزمنية تتداخل في ما بينها فيجتمع في كل منها الماضي والحاضر والمستقبل.

الزمن في الرواية لا تحكمه قاعدة واحدة، فهو يتقدّم ويتراجع ويستشرف وفق بناء محكم (قال لي نائل إن عابد مات بعد ذلك الحلم بثمانية أعوام وثلاثة أشهر لا شهرين كما ادعى، وإن خالد وحامد قد ماتا قبله)، فالفكرة أو الواقعة هي التي تستدعي الزمن المناسب لها، فيبدأ السرد من نهاية الأحداث ولا يسير وفق تسلل الزمن الطبيعي، بل وفق متطلبات الحكاية، مما يجعل الزمان أحد أبطال الرواية، والركن الأهم في بنائها، زمن الموت أحد أهم محاورها، وتلك النبوءة الغريبة التي نطق بها عابد شكلت ضرورة لحركة الأحداث (إن كل ما سيأتي في ما بعد سيكون منذوراً لتلك اللحظة).

أولى الكاتب اهتماماً بالغاً لبناء الرواية، واستخدم نسيجاً زمانياً خاصاً يعتمد التناسق والترتيب والتتابع والتداعي، وحرص على الإيقاع الخاص لحركة الزمن الفني الذي تتلاشى فيه أبعاد الزمن المعروفة لصالح تقنية البناء، فيصبح الزمن هو الضابط الفني لإيقاع النص بالاستخدام المتكرر لمفردات الزمان ذاتها (في ذلك اليوم.. في تلك الأيام.. تلك الساعات.. في ذلك المساء.. وفي اليوم الأربعين لموته.. طوال سنوات من.. في مساء اليوم التالي.. في نهاية الربيع.. طول الوقت.. قبل ذلك.. بعد ذلك)، أو باستخدام الزمن النفسي عندما يفعل عابد ما كانت تفعله أمه حين يضربها محسن الجوف إذ تغمض عينيها وتتوقف عن التنفس وتغادر عبر زمانها الخاص وترحل إلى سهول العالم ووديانه. وقد أبدع في استخدام زمن الحلم بشقيه الزمان اللفظي والزمن البصري (وفي تلك الليلة حلم عابد ذلك الحلم الطويل الذي رأى فيه حياته من جديد).
وقد التبس الزمن الفعلي للواقع بزمن السرد مرة واحدة في يوم العطلة المفاجئ الذي جعل إدارة مدرسة المنارة تقرر صرف الطلاب بعد ساعة واحدة من بدء الدوام (أمّا التاريخ فقد ظهر في صورة استنفار نجم عن بدء القوات الأمريكية الهجوم على العراق، ولا يعرف نائل لماذا صرف الطلاب)

(كان المنزل يغرق في ظلال الحرّ الخريفي الذي يتوسط شهري تشرين الأول وتشرين الثاني... كان حينئذ في الصف الخامس).

عند التدقيق في التاريخ سنكتشف أن عابد كان في الصف الخامس، والهجوم الأمريكي على العراق بدأ في مارس 2003، ويفترض أن عابد سيكون في الصف السابع أو الثامن. فسبب صرف الطلاب من المدرسة وعودة عابد المبكرة ذلك اليوم لا يمكن أن يكون بداية ذلك الهجوم.
أما بقية الأحداث فهي منسجمة تماماً مع أزمنتها، فينساب الزمان ذهاباً وإياباً انسياباً غير منتظم، ولكنه منظّم، وقد أتقن الكاتب التعامل مع ثلاثة أنواع من الأزمنة: زمن الكاتب وزمن الكتابة وزمن السرد فجاءت الرواية محكمة البناء، والزمان هو أحد أبطال الرواية وركن هام من أركانها باعتبار ساعة الموت إحدى أهم محاورها، وتلك النبوءة الغريبة التي نطق بها عابد شكلت ضرورة لحركة الأحداث (وفي رأي نائل الجوف أن كل ما سيأتي في ما بعد سيكون منذوراً لتلك اللحظة).

البحث في زمان أرواح صخرات العسل يحتاج على المزيد من الدراسة والاستقصاء فالأدب فن زماني، والزمن حسب هانز ميرهوف (هو وسيط الرواية كما هو وسيط الحياة).

وهو وفق بناء الزمن في الرواية المعاصرة: (صيرورة الأحداث الروائية وفق منظومة لغوية تعتمد الترتيب والتتابع والتواتر والدلالة الزمنية بغية التعبير عن الواقع).

:: اللغة ::

من نوافل القول إنّ كلّ نصّ هو عبارة عن منظومة لغوية لها قوانينها وآلياتها وطرائقها في استخدام المفردات والتراكيب في سياقها، وأنّ كل نصّ ينبثق من واقع معيّن ويعبر عنه، فما هي سمات اللغة وطرائق التعبير في أرواح صخرات العسل؟

إن لممدوح عزام لغته الخاصة، ومعجمه الخاص ابتداءً من أسماء الأماكن المبتكرة التي يحرص على استخدامها في أعماله الروائية، كالمنارة، والسماقيات، والسويداء، والدير، وغيرها من الأماكن التي تشكل جزءاً من فضاء معظم أعماله الروائية باعتبارها الجغرافيا التي فيها يتحرّك الأشخاص، فيحبون أو يتصارعون أو يتصادقون، وفي كلّ مرّة يعيد تشكيلها، وبناءها وفق متطلبات الرواية، كما في قصر المطر وأرض الكلام وأرواح صخرات العسل.
وللكاتب طريقته في استخدام الأسماء الملغّزة أو المشفّرة ابتداء من العنوان أرواح صخرات العسل وجميل الصخري الذي يجمع الصلابة مع الجمال. وخالد وحامد وعابد الذين يجمعهم التشابه في الشكل والمضمون والتركيب الصوتي، ولكل اسم دلالاته المتفردة والمقصودة كما في اسم حليمة كذلك.
وهو يحسن التوظيف الدلالي للغة بتكثيفها للحد الأقصى، ابتداء من الفقرة الأولى في الرواية فالكاتب يختزل روايته في الصفحة الأولى؛ ويضعنا في نهاية الحدث مباشرة (كان نائل الجوف هو الذي حكى لي عن موت الأصدقاء الثلاثة)، ثمّ يتجه مسرعاً إلى الفكرة الرئيسة (كان همّه أن يحرّضني على محاولة اكتشاف منبع تلك النبوءة الغريبة)، فالتحريض ليس للكاتب وحده كي يكتب بل للقارئ كي يبحث ويتفكر في تلك النبوءة التي نطق بها فتى في الرابعة عشرة من عمره هو عابد. قد اتضحت الصورة بقليل من المفردات ليبدأ التوسع في البحث عن الأسباب والوقائع والنتائج المتربة على نبوءة الموت تلك إذ يضعنا الكاتب أمام سؤال هام: (هل يمكن أن يكون المرء شغوفاً بساعة موته)؟ الرواية لن تجيب عن هذا السؤال، ستقدم البيانات وتعرض الأحداث، وتترك الجواب للمتلقي، وتطرح مجموعة تساؤلات جديدة: هل هي الحرب التي اندلعت أخيراً في البلد؟ أو هو محسن الجوف؟ أم غياب الحب والحنان؟ أم تاريخ البلدة والبلاد؟ أم القدر الأخرق؟ علامات الاستفهام تلك هي محاور الرواية.

وكذلك يحرص الكاتب على التوظيف الجمالي الخاص للغته، وهذا الحرص سمة من سمات كتاباته الروائية عامة، فالاستخدام الجمالي للغة هو ما يميز أعماله، ويعطيها هويتها اللغوية الخاصة.

فهو يستخدم تراكيب مجازية خاصة للوصف أو رسم اللوحات والتشكيلات المختلفة أو التعبير عن العواطف والمشاعر أو الإيحاءات: (الطريق أفعى)، (ينزلق إلى بيته)، (يحمحم كالحصان)، (أنيناً يشبه نغمة ربابة)، (تراقبه مثل بومة)، (بصوت أغنّ مختلط بطعم التفاح)، حشد من الصور البلاغية يستمدها الكاتب من البيئة والموروث الثقافي، أساليب متنوعة وتشابيه واستعارات وكنايات هي التي تميز النصّ الأدبي عن سواه من النصوص. ولا يخفى ما لهذا الاستخدام المجازي من تأثير، فهو يستثمر عناصر الصوت والحركة والألوان إلى جانب اللغة الاستعارية لتوليد المزيد من الدلالات.

والكاتب لا ينفك يبدع صوراً جديدة لا تغني الرواية فقط، بل تُغني اللغة ذاتها، مطلقاً العنان للخيال، فيخلق للألفاظ سياقات فريدة لم تُعرف من قبل (قسوة حاذقة) (يغرق في ظلال الحرّ الخريفي) (يرميها برزمة من الشتائم)، (تزرع في أرجاء جسده كلّه بذوراً من الجلد المحبحب الشبيه بالبرغل) (ينتعش فيه حبور راقص)، والهدف من التراكيب البلاغية ليس اللعب بالكلمات، بل إيجاد التعبير الدال على الحالة المراد توصيفها، فقيمة النصّ ليست في ما يعبر عنه فقط، وإنما في طريقة التعبير، ومن خصائص لغته الروائية كذلك: التكرار والتدفق والانفتاح والتناص اللغوي.

كما يتعمّد ممدوح عزام إضفاء الروح الشاعرية على خطابه الروائي في كثير من المواقف التي تطلب تدفقاً للمشاعر، فتتزاحم المفردات خارجة عن سياقها محلقة مجازياً حاملة تجليات الخيال دون أن تبتعد عن روح البناء الروائي، فتتوالد هذه الدفقات الشعرية الجمالية من الموقف أو الشعور أو المكان ذاته، وتتميز بعمق مدلولاتها، وتنظيم سياق ألفاظها في نطاقات صوتية وإيحائية بما يغني مجالاتها التعبيرية: (تملي عليه الكلمات كما لو كانت تصلي فيكتب كأنما هو في لحظة وحي مضيئة.. وفي كل مرة كانت تصفق له بيديها الصغيرتين الناعمتين يسمع خفق فراشة أو حركات بتلات أو رفة زغلول)، هذه اللغة الشعرية هي ما تميز كتابات ممدوح عزام، فتأتي منسجمة مع سياقها، وتضفي أجواء من البهجة والفرح لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال مثل هذه الشاعرية (كان يحبها مثل عصفور يدور حولها راقصاً ومغرداً وجاهزاً لمنحها أي حبة قمح يمكن أن تطلبها).

تجلّيات اللغة الشعرية تعطي للرواية جماليات جديدة، وتبثّ فيها مشاعر وإيحاءات لا نجدها في اللغة النمطية، وتتعدد هذه اللوحات الشعرية في الرواية وفق متطلبات السرد ممّا يمنحها هويتها اللغوية الخاصة.

ولغة أرواح صخرات العسل تعكس بيئة أشخاصها من خلال الحوار باللغة المحلية التي تعطي المصداقية والتأصيل للأحداث وهي كذلك تبتكر مصطلحاتها الخاصة (النبرشة): التي تم توظيفها كطريقة تربوية تحمل في أعماقها العنف والقمع. (التدوير): إعادة تدوير المسروقات بتغيير هويتها. (الخميرة): هي خلية لأغراض التجسس على الناس.

وصفوة القول: إنّ أرواح صخرات العسل رواية تنبثق من واقع مأساوي، وتعيد خلقه وفق آليات وطرائق خاصة بكاتبها الذي اجتهد كي يكون موضوعياً، فكان يحاور ويجادل ناقلي الأحداث، ويعرض وجهات النظر المختلفة مما يوثق العلاقة بين الرواية والقارئ، وموت الأصدقاء الثلاثة لم يكن لتحقيق نبوءة عابد، بل نتيجة طبيعية لموت الحب وموت السعادة وسيادة القمع والفساد الاجتماعي والسياسي، فأرواح صخرات العسل ليست رواية للموت بل رواية للحرب التي تؤدي إلى الموت، وكي لا ينتصر الموت لا بدّ من تغيير هذا الواقع كي يحيا الحبّ وتحيا الصداقة وتنتعش السعادة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها