فن تحقيق النصوص التّراثية

د. قدور حمداوي

يعتبر التراث الفكري أحد المقاييس الهامة التي تقاس بها حضارة الشعوب، ويستطيع المتأخرون من خلال ما يجدونه من تراث فكري تقييم حضارة من سبقوهم، وما مدى بذلهم للرقي بشعوبهم وبناء أوطانهم.
وتحقيق هذا التراث أمانة دينية وعلمية وأخلاقية، لذلك كان من واجب المحقق أن يعلم أن هذه النصوص إنما هي وثائق تاريخية لا يحق له أن يتلاعب بها، ولا أن يجعل من نفسه مصححاً أو مقوماً لهذه الوثائق، وأن الأمانة العلمية تقتضي منه الحرص التام على نقل هذه الوثائق كما هي، لذا على المحقق أن يضع في ذهنه قبل كل شيء إثبات ما قاله المصنف خطأ كان أم صواباً، وأن لا ينصب نفسه حكماً على هذه النصوص فيبيح تصحيحها أو تبديلها بنصوص أخرى، وعليه أن يجهد ذهنه ليصل إلى النص السليم الذي قاله المصنف، وأن يتحرى الدقة الكاملة والحذر الشديد ليفرق بين خطأ النساخ وخطأ المصنف، واختلاف النسخ واختلاف الروايات.

 

مفهوم التحقيق

التحقيق لغة من فعل حقّق؛ جاء في لسان العرب: حَقَّ الأمْرُ يحِقُّ ويَحُقُّ حَقّاً وحُقُوقاً: صارَ حَقاً وثبتَ، وحقه، وأحقه أي: أثبته وصار عنده حقًا لا يشك فيه، وأيضاً ورد: وحقه، وحققه أي: صدقه، وحقق الرجل: إذا قال: هذا الشيء هو الحق؛ بمعنى: أنه اعترف بأحقية ذلك الشيء وصِدْقِه، وأَحْقَقْت الأمر إحقاقاً: إذا أحكمته وصححته، ويقال أيضاً: كلام مُحَققٌ أو كلام محكم: مُنَظم. ويقال أيضًا: أَحَق الله الأمر أي: أظهره وأثبته للناس، والحق هو الثابت: الصحيح، وهو ضد الباطل1.
أما التحقيق في الاصطلاح فهو قراءة المخطوط قراءة صحيحة، وإحكام تحريره وضبطه، وإخراجه على الوجه الصحيح الذي وضعه عليه مؤلفه أو على أقرب وجه يطابق الوضع الأصلي الذي تم على يد مصنفه، كل ذلك بالاعتماد على منهج علمي يحكم سير عملية التحقيق2. وفي الاصطلاح المعاصر: "يقصد به بذل عناية خاصة بالمخطوطات حتى يمكن التثبت من استيفائها لشرائط معينة، فالكتاب المحقق هو الذي صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصورة التي تركها مؤلفه"3.

صفات المحقق

المحقق كما أشرنا سابقاً ينبغي أن تتوفر فيه جملة من الصفات، والتي ستسعفه في تحقيق هذا التراث بدقة، ومن فقدها أو فقد بعضها قصرت عنه هذه الملكة، وعسرت عليه رموز المخطوطات أو غيرها وسبل نشرها، ويمكن إجمال هذه الصفات في4:
1- الإحساس بقيمة التراث العلمي والفكري إحساساً ينبع من الإيمان العميق بدوره الفعال في بناء حضارة الأمة عن طريق إحياء تراثها.
2- الحب والتعلق بتراثنا المخطوط، ومعايشة وتوثيق الصلة به على نطاق واسع قراءة ودراسة، وخبرة ودراية بأسراره ودقائقه وخصائصه، وأساليب تدوينه، ومناهج كتابته، وأنواع خطوطه.
3- الخبرة والتمرس بتحقيق المخطوطات، والدراسة الواسعة بأصول تحقيقها، ومعرفة أصولها، وما كتبت به من خطوط متنوعة، ويستتبع ذلك التمرس بنهج النساخ ومصطلحات القدماء في الكتابة، ولا بد من معرفة اصطلاحاتهم في الضبط بالشكل، وعلامات إهمال الحروف غير المعجمية.
4- أن يكون المحقق على علم ودراية بموضوع الكتاب أو المخطوط، فذلك أدعى إلى أن يكون العمل أكثر إتقاناً ودقة، مما لو تصدى له شخص آخر له جهة علمية أخرى.
5- الأمانة العلمية التي تقتضي تحرير النص وتصحيحه، والاجتهاد في إخراجه على الصورة التي تمت به على يد مؤلفه دون أي تصرف، وفق أصول التحقيق المعتمدة عند شيوخ هذا العلم وأساطينه.
6- الإلمام الواسع باللغة العربية وأساليبها ومفرداتها وسائر علومها؛ مما يذلل كثيراً من الصعاب التي قد تواجه المحقق في أساليب المخطوطة، ولغتها، حيث يجد من الحصيلة اللغوية ما يمكنه من تدقيق النظر، والوصول إلى الوجه الصحيح.
7- سعة الاطلاع على كتب التراث ومصادره في مختلف جوانب البحث والمعرفة، ومعرفة مناهج المؤلفين، وتوجهاتهم العلمية، وطرق البحث في مصنفاتهم حول شتى العلوم، مما يساعد المحقق على تحرير وتوثيق نصوص الكتاب الذي يعمل على تحقيقه5.
8- التواضع والاستعداد للحوار الهادف والنقاش البناء والبعد عن تمسك بالرأي الواحد الشخصي.

مهام المحقق

إذا توفرت الشروط السابقة الذكر في المحقق أصبح بإمكانه القيام بمهامه الكثيرة والمتعددة، والتي أجملها الباحثون فيما يلي6:
1- تحقيق العنوان: فبعض المخطوطات تكون خالية من العنوان إما لفقدان الورقة الأولى منها، أو انطماس العنوان، بل أحيانًا يثبت على النسخة عنوان واضح جلي ولكنه يخالف الواقع، فيحتاج المحقق في الحالة الأولى إلى إعمال فكره في ذلك بطائفة من المحاولات التحقيقية، كأن يرجع إلى كتب المؤلفات لابن النديم، أو كتب التراجم.
2- التحقق من نسبة الكتاب إلى مؤلفه: وذلك بمراجعة فهارس المكتبات، أو كتب المؤلفات، أو كتب التراجم التي أخرجت إخراجًا حديثًا وفهرست فيها الكتب، كمعجم الأدباء لياقوت الحموي، أو غير ذلك من الوسائل العلمية.
3- تحقيق متن الكتاب: ومعناه أن يؤدي الكتاب أداءً صادقًا كما وضعه مؤلفه كمًّا وكيفًا بقدر الإمكان فليس معنى تحقيق الكتاب أن نلتمس للأسلوب النازل أسلوبًا هو أعلى منه، أو نحل كلمة صحيحة محل أخرى صحيحة بدعوى أن أولاهما أولى بمكانها، أو أجمل، أو أوفق، أو ينسب صاحب الكتاب نصاً من النصوص إلى قائل وهو مخطئ في هذه النسبة، فيبدّل المحقّق ذلك الخطأ ويحلّ محلّه الصّواب، أو أن يخطئ في عبارة ما خطأ نحوياً دقيقاً فيصحح خطأه في ذلك، فتحقيق المتن ليس تحسيناً أو تصحيحاً، وإنما هو أمانة الأداء التي تقتضيها أمانة التاريخ.

ويضاف إلى هذه العناصر الثلاثة مهام أخرى لا يمكن للمحقق أن يغفلها وهي: "مقابلة النسخ المخطوطة بالنسخة الأم وأن يبين في الهامش الفروق بعد أن يرمز لكل نسخة برمز خاص، وعند اختلاف الروايات يثبت في المتن ما يرجح أنه صحيح بعد دراسة المحقق لكل رواية، ويجعل المصحف والمحرف والخطأ في الهامش، وفي حالة وجود زيادة في نسخة من النسخ لا توجد في النسخة الأم تضاف الزيادة إلى النسخة الأم ويشار إلى ذلك في الحاشية، كما أن المحقق إذا وجد نقلا من مصادر ذكرها المؤلف يرجع إلى تلك المصادر ويعارض النصوص المنقولة بالأصل المعتمد ويدون الفروق في الهامش، فإذا اهتدى إلى مصادر المخطوط الأصلية رد كل نص فيه إلى مصدره للاطمئنان إلى صحة النص وتوثيقه"7.

 الصعوبات التي تعترض المحقق

إن عملية التحقيق ليست بالمهمة السهلة، فقد تعترض المحقق مجموعة من الصعوبات مردها إلى ما يلي:
1- أن تكون النسخة الفريدة ذات عيوب، "إذ ليس أصعب من تحقيق كتاب مخطوطته وحيدة، ونصه مليء بالأخطاء"8.
2- صعوبة الخط: وهذا السبب يكاد يكون عاماً، ومرده إلى "دقة خطوط الكلمات، وتشابه أشكال بعض الحروف؛ وعدم نقط بعض الحروف أصلاً، أو تلاشي نقطها بمرور الزمن، فتصبح الحروف غير المنقوطة تثير الشبه والشكوك، وصار في الإمكان أن تقرأ الكلمة بأكثر من وجه"9.
3- اضطراب الأوراق: وهذه مسألة تمس جانب الترتيب، وممن اعترضتهم هذه الصعوبة د. شوقي ضيف في تحقيق كتاب "المغرب"، يقول في مقدمة الطبعة الثانية: "استحال نسيج القسم الأندلسي في الكتاب أوراقا مضطربة غير متصلة، مع سقوط كثير من صحفه، حتى غدا كأنه أنقاض مطموسة المعالم، مما جعل الباحثين يستيئسون من نشره. وقد مضيت أحاول إحياءه ورده إلى صورته الأصلية بكل ما أملك من جهد، حتى استقامت أوراقه المتناثرة المتبقية على نهجه الذي وضع له ورسمه الذي صنف عليه، إلا ما كان من ورقتين رددتهما في هذه الطبعة إلى موضعهما من اتصال الكلام"10.
4- الرطوبة وما إليها: وقد تؤدي الرطوبة إلى الإطاحة ببعض كلمات المخطوط، فتصعب قراءتها ويعسر تبيانها.
5- كثرة التصحيف: يقول الأستاذ محمد الفاسي عن المخطوط الفريد لـ"أنس الساري والسارب": "ولكنه كثير التصحيف مما جعل تحقيقه صعباً"11.
6- كثرة الخلافات في القراءة، والتفاوت الشديد بين النسخ، وتدخل غير المؤلف في سياق النسخة.
7- كثرة أسماء الأعلام، وخاصة إذا كان المؤلف لا يذكرهم بأسماءهم "فالكتب التي تكثر فيها أسماء الأعلام هي من أكثر الكتب مشقة في التحقيق، فالكاتب لا يذكرهم بأسمائهم وإنما يذكرهم بكناهم أو بألقابهم فحسب، نظراً لشهرتهم بها في عصره. أما اليوم، فهذه الكنى والألقاب تتشابه عند مجموعات كثيرة من الكتاب والشعراء والمؤرخين والفقهاء والعلماء مما يصعب على المحقق معرفة الاسم الحقيقي إلا من قرينة"12.

إن الإحساس بتراثنا المخطوط هو إحساس طبيعي بالماضي وحاجة الحاضر إليه، فالماضي والحاضر كلاهما يستحوذان على أعماق شعورنا، والإحساس بقيمة هذا التراث والعمل على استثماره على الأصول والأسس العلمية التي يجني منها الواقع أزكى الثمار وأشهاها، هو بعينه الرؤية الصحيحة للتجديد، فالمحقق كما تبين من خلال هذه الدراسة المتواضعة يقوم بأعمال جليلة في غاية الخطورة، والطريق إلى التحقيق ليست دائماً مفروشة بالورود فقد تعترض المحقق مجموعة من الصعوبات والتي لا يمكنه التغلب عليها إلا إذا توفرت فيه مجموعة من الصفات الذاتية والعلمية.
 


الهوامش
1. انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة "حقق"، طبعة دار المعارف. وانظر كذلك: محمد أبو بكر الرازي، مختار الصحاح، دار الفكر العربي، بيروت، 1422هـ، ص: 148.
2. هادي نهر: تحقيق المخطوطات والنصوص ودراستها، دار الأمل للنشر والتوزيع، الأردن، 1426هـ، ص: 11.
3. عبد السلام هارون، تحقيق النصوص ونشرها، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1385هـ، ج. 1، ص: 39.
4. عبد الله ابن عبد الرحيم عسيلان، تحقيق المخطوطات بين الواقع والنهج الأمثل، مكتبة الملك فهد الوطنية، 1415هـ، ص: 41-42. بتصرف.
5. انظر: حسان حلاق، مناهج تحقيق التراث والمخطوطات العربية، دار النهضة العربية، بيروت، ص: 147.
6. عبد السلام هارون، تحقيق النصوص ونشرها، ص: 40-44.
7. يحيى وهيب الجبوري: منهج البحث وتحقيق النصوص، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1413هـ، ص: 153.
8. ابن حزم الأندلسي: طوق الحمامة في الألفة والألاف، دار المعارف، 1975م، ص: 8.
9. ثبت أبي جعفر أحمد بن علي البلوي الوادي آشي، دراسة وتحقيق د.عبد الله العمراني، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1983، ص.91.
10. ابن سعيد الأندلسي: المغرب في حلى المغرب، تحقيق: شوقي ضيف، دار المعارف، الطبعة الثانية، 1978-1980م، ص: 22-23.
11. أبو محمد بن أحمد القيسي السراج، أنس الساري والسارب من أقطار المغارب إلى منتهى الآمال والمآرب سيد الأعاجم والأعارب، تحقيق: محمد الفاسي، فاس، 1968، ص: 26-27.
12. ابن سعيد الأندلسي، المقتطف من أزاهر الطرف، تحقيق: سيد حنفي حسنين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983، ص: 28-29
.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها