أخبرني والدي ذات مرّة أنّ نوحاً عليه السلام أمضى وقتًا طويلًا يصنع سفينة نجاة.. كان عمري حينها لا يتعدّى تسع سنوات، لكنّي لا زلت أتذكّر كلامه وهو ينصحني أن أصنع أيضًا سفينة. سألته: ماذا يعني أن أصنع سفينة؟ أجابني: كلّ إنسان يصنع السفينة على طريقته. حين أصبح عمري إحدى عشرة سنة علّق المعلّم صورة سفينة على السبورة وطلب منّا رسمها، كانت سفينة ضخمة، بمحرك كبير، ومقصورة، لكني رسمت سفينة صغيرة بمجدافين طويلين، لم أُزوّدها بمحرك ولا بمقصورة. كانت سفينة كسفينة نوح التي حدّثني عنها والدي. علّق مُعلّمي على الرّسمة قائلًا: سفينة صغيرة بمجدافين طويلين، أحسنت يا أحمد، لكنها سفينة بدائيّة جدًّا، ولن تُفيدك لاصطياد الأسماك في أعماق البحار. ضحك زملائي في الصفّ، لكني كنت مُقتنعاً بـأنني رسمت سفينة نجاة على طريقتي.
أخبرتُ والدي بعد عودتي من المدرسة بما حدث معي في الصفّ، وما قاله المعلّم، وكيف ضحك عليّ زملائي، فقال لي: إنّ بعضًا من قوم نوح عليه السلام سخروا منه أيضًا، ولم يتمكّنوا جميعًا من الركوب في السفينة حين فاض الماء. إنّ السفينة التي رسمتَها هي سفينتك أنت، وستكون سفينة نجاة الكثيرين حين يفيض الماء. كان كلام والدي مُلهماً جدّاً، مُلغزًا، جعلني أصنع سُفنًا ورقيّة كثيرة في غُرفتي، وأضع في كل واحدة منها مجدافين، وأصُفُّها على ورقة رُسِم فيها بحر هادئ، وأتأهّب لتحريك جيش السفن خاصّتي قبل أن يُغرِق هيجانُ البحر سكّان المدينة.
كبِرتُ، وكبُرَتْ معي فكرة السّفينة بمجدافين طويلين، فكّرت مليّاً في المجدافين وما يتطلّبانه من جُهد لتحريك السفينة وتوجيهها ونجاتها، لكن ما فكّرت فيه أكثر هو السفينة، ورُبّانها، وفيضانُ الماء، فهذا ما أحتاج معرفته، فليس لديّ سفينة، وأنا لست رُبّانًا، ولا مياه فائضة تدعوني إلى تحريك السفينة للنجاة. حين أصبحت طبيبًا سألت والدي عن سرّ سفينة النجاة، فقال لي: ما دُمت تسألني عن سرّ السفينة فإنني سأُخبرك الآن: أنت هو السفينة، وأفكارُك هي ربّانها، والمجدافان هما عملك، ومساعدتك للناس هي نجاتك ونجاتُهم. سألته متعجّبًا: وهل أقدِر على مساعدة الناس بمفردي؟ أجابني: لستَ بمُفردك، كلّ إنسان يصنعُ سفينته كما يريدها، وأنت اخترتها بمجدافين، وعليك أن تكون قادرًا على التجديف.
التجديف هو ما كان يفعلُه والدي على طريقته، كان يعلّمني منذ الطفولة شيئًا لن أكون قادرًا على تعلّمه بمفردي، إنّ فكرة السفينة لم تكن لتكتمل دون مجدافين، إنّهما عملي حين أُجهد نفسي لمساعدة الناس. سألت والدي: وماذا يعني أن أُجهد نفسي، ألَا يتطلّب العمل نفسه جُهدًا لإنجازه؟ أجابني مبتسمًا: هذا ما ستدركه حين تستقبل المرضى في عيادتك، وحين تُضطر لتقديم النصيحة، وحين تُطلَب منك حاجة لتقضيها.
بعد أن فتحتُ عيادة طبّيّة تذكّرت السّفن التي رسَتْ على البحر الورقيّ في غرفتي وهي تتأهب للتحرّك. كنتُ أمَلَ الكثيرين، أستقبلُهم في عيادتي، وفي بيتي، أُشخّص مرضَ المحتاجين وأعالجُهم دون مقابل، وأنصحُ من أرى في النصيحة سبيلا لنجاته.
ذات يوم جاءتني أمّ بطفلها وهو لا يكاد يُبصر شيئاً، قالت إنها عانت الكثير وهي تبحث عن علاج لعيْني طفلها، وانتهى بها الحال إلى عيادتي. اشتكت قلّة الحيلة، وصعوبة الوضع حيث إنّ ابنها للتوّ بدأ يرتاد المدرسة، ولا تدري كيف تجتاز عقبات الحياة. حالُها أخبرَ بكلّ شيء. وجدتُ أمامي أُمًّا وطفلًا يطلبان من الرّبان أن يتحرّك بسفينة النجاة، وكيف سأحرّكها! بالتجديف، ببذل الجهد، كنت بالفعل أمسك بمجدافين أنا رسمتهما لنفسي، والأرض تفيض ماءً، والأمّ وطفلُها يطلُبان النجاة، وكان يكفي أن أقومَ بعملي.
أدركتُ ما عناه والدي ببذل الجهد دون أن أنتظر مقابلًا، طمأنتُ الأم على وضع ابنها، إنه أوّل التّجديف، أجريتُ فحوصات للطّفل، كان يحرّك عينيه أملًا في أن يُبصر أخيرًا، أن يرى الطمأنينة في ملامح أمّه. لم يكن ما أصابه كما صوّرته أمّه، كان يُعاني من حساسيّة مُزمنة سبّبت له ألمًا واحمرارًا، ومنعتهُ من فتح عينيه. كانت نجاتُنا معًا في شفاء الطفل. واصلتُ التجديف، وضعتُ مَرهمًا في عينيه وأحسّ فيهما ببرودة، كانت إشارةً لصحّة التشخيص الذي قمتُ به، فأوصيتُ أمّه أن تواظب على وضع المرهم في عيني طفلها كما شرحتُ لها بالضبط.
بعد أيّام حضرت الأمّ مع طفلها إلى عيادتي، كانت فرِحَة جدًّا، وكان الطّفل مُعافى تمامًا. أخبرتني أنّها لفرط سعادتها لا تعرف كيف تشكرني، لكنّي اكتفيت بأنْ حملتُ الطّفل بيديّ قائلاً: إنّ سفينة النجاة متأهّبة دائماً للتحرّك، وأنا مستعدّ للتجديف في سبيل نجاتي ونجاة من يحتاجون إلى عملي. إنّ كلّ إنسان هو سفينة وعليه أن يختار السفينة التي يريد أن يكون.