التّراسل الأجناسيّ في الشّعر العربي الحديث

قصيدة "مرحى غيلان" للسّيّاب نموذجًا

د. ثناء المحمّد


مرَّ الشّعرُ العربيُّ الحديثُ بمراحلَ كلاسيكيّةٍ من التّمسّكِ بسماتِه الفنّيّةِ الأوليّة من وزنٍ وموضوعاتٍ وكأنّها رسالتُه الخالدة، ثمّ ما لبثَ أن ضمنَ حدودَه الأساسيّةَ وتجاوز تمسّكّه التّأطيريَّ ذاك إلى مرحلةٍ من الانفتاح الجزئيّ؛ إذْ أصبح الشّاعرُ حرًّا في اختيار شكلِ نصّه الإبداعيّ ومضمونِه، وفي طبيعةِ تعامله الفنّيّ مع ذاتِه الشّعريّة الغنائيّة أوّلًا في تلقّيها الجماليّ للموجودات والأشياء من حوله، ليصلَ الشّعرُ العربيّ إلى ما هو عليه الآن من سماتٍ تعلن انفتاحها على غيره من الأجناس الأدبيّة من الدّراميّة والملحميّة، بل إنّه تخطّى ذلك إلى التّراسل مع الفنون الإبداعيّةِ أيضًا من مسرحٍ وسينما وفنٍّ تشكيليّ وغيرها ممّا وعاه الشّاعر العربيُّ الحديثُ بوعيه حقيقةَ تجادله بواقعِ الإبداع الإنسانيّ المحيطِ به، فغدا شعرُه شعرًا ضمّنَ خصائصَ وجودِه فيه، واستوعب سماتِ غيرِه من الأجناس الأدبيّة والفنونِ الإبداعيّة على السّواء.
 

ومن هنا فلا بدّ من التّأكيد بأنّ، في حديثنا عن التّراسلِ الأجناسيّ، إقرارًا بأنَّ الشّعر العربيّ الحديث مرَّ بمراحلَ تمسّكٍ بالسّماتِ الأُوَل للمحافظةِ على الوجودِ الأحقّيِّ لفنّيّتِه، ثمّ تسيّدٍ للتّجادليّةِ مع سواه من الأجناس الأدبيّة؛ بحيث لا يبخسُ سماتِه القارّةَ حقَّها في التّسميةِ والانتماءِ الأجناسيِّ، وتراسلٍ لبعضٍ من الأجناس والفنون الأخرى وتضمينِها الشّعرَ، وبذلك، يكونُ توصيفُنا المرحليُّ، ها هنا، مهمًّا تصنيفيًّا وليس تقيميًّا؛ فمن شأنِ ذلك التّوصيفِ أن يكونَ محايثًا ومتزامنًا لمرحليّةِ التّراسل، وآنيّةِ امتزاجِها، ومن ثمّ عودتِها إلى التأطيريّة الأولى الّتي تنتمي إليها على أيّة حال. بمعنى أنّ الشّعر العربيّ الحديث تراسل مع سواه من الأجناس الأدبيّة عبر مفاهيمَ كبرى تمسّ جوهرَ الشّعر الحديث من تجريبٍ وتجاوزيّةٍ وصوريّةٍ ودراميّة، فبات مضمّنًا مفاهيمَ وأساليبَ لم تكن في جوهر بنائه، فغدا بذلك ضمن تراسليّةٍ أجناسيّة تمجّد حساسيّةَ الشّعر العربيّ الحديث بعامّة؛ حيث تتجلّى تلكم الحساسيّةُ في طبيعةِ تناولِ النّصّ الشّعريّ إبداعيًّا من جهة، وفي طريقةِ التّعاطي مع ذلك النّصِّ الإبداعيِّ المنجز بوصفه تقييمًا جماليًّا في النّهاية من جهةٍ أخرى، من دون إغفالِ منظومةِ الأجناس الأدبيّة المتعارفِ عليها تأريخًا وتصنيفيًّا على حدٍّ سواء!

ولا بدّ بعد عرضنا لمقدّمتِنا المبتسرةِ هذه أن ندخلَ إلى دراسةٍ معمّقةٍ تتغيّا عمق الشّعر العربيّ الحديث في رصدِ تراسليّتِه المثبتةِ شعرًا في نصوص شعرائه الإبداعيّة، لتجيبنا على سؤالنا الأثيرِ في دراستنا هذه: هل التّجربة الجماليّة هي الّتي فرضت التّراسلَ الأجناسيّ في الشّعر العربيّ الحديث، أو أنّ طبيعةَ الإبداعِ باتت تفرضُ التّراسلَ بين الأجناسِ الأدبيّة؟
 

تراسليّة الشّعر العربيّ الحديث مع النّصّ الملحميّ الطّويل

لا نخفي انحيازَنا في بيان التّراسليّة الأجناسيّة في الشّعر العربيّ الحديث مع النّصّ الملحميّ الطّويل إلى الشاعر بدر شاكر السّيّاب في قصيدتِه (مرحى غيلان) تحديدًا لاعتبارات الرّيادةِ في الشّعر العربيّ الحديث من جهة، ولاعتبارات التّراسليّة الأجناسيّة المتغلغلةِ في النّصّ الشّعريّ المختار، مع وضع مسألةٍ ذاتِ أهمّيّة قارّة هنا، من حيث الوعي بالشّعر الحديث بسماتِه الحداثيّة التّجديديّة مكتملةِ البناء إلى حدٍّ ما، ومن حيث الوعي بحتميّةِ التّراسليّة في آن.

لا شكّ أنّ الشّكل الجماليّ مرتبط بالمضمون، فلكلّ مضمونٍ شكلُه الجماليُّ المتجسّدُ في وعيه لمقصديّة المضمون، وبغضّ النّظر؛ ها هنا عن التّراسلِ الأجناسيِّ؛ فحين تتراسلُ سماتٌ من فنِّ الملحمةِ الموضوعيّ مع الشّعر العربيّ الحديث فهذا يعني وعيَ الشّاعرِ بسماتِ ذينك الجنسين الأدبييّن شكلًا ومضمونًا.

وتبعًا لذلك فقد تراسلتِ القصيدةُ العربيّةُ الحديثةُ مع بنيةِ الملحمة، ومن المتعارف عليه أنّ الملحمةَ تمثّل ذاكرةَ الشّعوبِ وتاريخَها القوميّ البطوليّ الّذي يسرد مآثرَ تلك الشّعوبِ بطريقةٍ مشرقة، ويمجّد الأخلاقَ العليا لأبطالها، فهي "قصيدةٌ قصصيّةٌ طويلةٌ موضوعُها البطولةُ، وأسلوبُها سامٍ"، وتتجسّد البطولةُ بوصفها قيمةً اجتماعيّة تخصّ مجتمعًا محدّدًا، ببطولةِ بطلٍ محدّدٍ أيضًا، بمعنى أنّ البطل الملحميَّ يسير وفق طريقٍ محدّدةٍ بقدر مرسوم، وهو "لا يمثّل... شيئًا خارج قدره والموضوعِ الّذي يحدّده هذا القدرُ. فلا يستطيع أن يصبح بطلًا لأيّ مصيرٍ أو موضوعٍ آخر"، فالبطلُ الملحميُّ بطلٌ لصفاته وأخلاقه المثلى ولبطولاتِه، و"لمّا كانت الشّعوبُ تسعى لأن تتكوّنَ وتنمو، وكانت بحاجة إلى حماية أبطالٍ عظماءَ، فقد ربطت بصورة طبيعيّة كلَّ اهتماماتها وعرفانِها بهؤلاء الأبطال ذوي القدرات الخارقة الذين نقلوها من الحالة البدائيّة إلى حالة المدنيّة؛ فخلّدت ذكراهم... فالملحمةُ إذن فرديّةٌ وبطوليّة" جمعيّة، وأمّا فرادتها فترجع إلى صفات ذلك البطل الملحميّ الذي استأثر بالأعمال البطوليّة بشكلٍ فرديّ، وأمّا جمعيّتها فبالنّظرِ إلى تمجيدها لشعبٍ محدّد والاهتمام بحفظ مآثره بل وتخليدها أيضًا.

أمّا الاهتمام في الملحمةِ فيكونُ منصبًّا على مسير الحدثِ موضوعيًّا، بعيدًا عن الغنائيّة، ففي الملحمةِ تتستّر ذاتيّةُ الشّاعر وراء الأحداثِ الموضوعيّة، التّي تسيرُ بهدفِ الإعلاءِ من قيم مجتمعٍ بعينه من دون إيلاء المشاعر الذّاتيّة أهميّةً كبرى، فما يجسّده الشّاعرُ في الملحمةِ من أحداث موضوعيّة يكون مغايرًا " لذاته، فهو مصونٌ عن أن يتوحّدَ أو يمتزجَ مع شخوصِه". وتستأثر الملحمةُ بتقديسِ الشّعبِ والتّغنّي بماضيه وعلوّ انتمائه على اعتباره مثلًا جماليًّا أعلى للزّمن الجمعيّ المنشود والمرتجى لشعبٍ ما؛ وعلى اعتبار تمسّكِ الفرديِّ الأثيرِ بالجمعيّ المغيّب في الحاضر، ونورد هنا نصّ (مرحى غيلان) لبدر شاكر السّيّاب في تمثّله التّراسلَ الأجناسيَّ بين الملحمةِ والشّعرِ؛ إذ تتراسل هذه القصيدةُ مع بنية الملحمةِ في التّطويل والإسهاب بغرض التّمجيد، لكنَّ تمجيدَ السيّاب، هنا، لولادة (غيلان) هو تمجيدٌ لإرادةِ الحياة في الانتصار بعد سنيّ الخراب الّتي اعترت ذاتَه والعراق معًا، ومن يقرأ هذه القصيدةَ يؤمن بأنّها قصيدةٌ تمجّدُ الحياةَ بتعبيره المتكرّر (بابا.. بابا) المتردّدِ على لسانِ رضيعِه (غيلان)، ولكنّ ما نذهب إليه هنا في التّراسليّةِ هو أنّ التّطويلَ والإسهابَ والتّمجيدَ؛ وهي من سمات الملاحم بشكلٍ عامّ؛ ما هي إلّا تمجيدٌ للولادةِ الجديدة في حياته عبر ولادة ابنه ونغمه العذب المستساغِ في آذانه (بابا)، في حين أنّ التّمجيدَ في الملاحم هو تمجيدٌ لشعب بعينه عبر إعلاءِ مبادئه وقيمه مقارنةً بغيره من الشّعوب، وإذا أردنا الابتعادَ أكثرَ في فلسفةِ تمجيد الشّعوب وقداستِها فإنّنا نذهب إلى ما هو جماعيٌّ لا فرديّ، وعامٌّ لا خاصّ، إلى ما هو تأريخيٌّ لمسيرةِ هذا الشّعب عبر مدحه وتقديسِه وإعلائه على غيره من شعوبٍ أخرى معاديةٍ أو غيرِ معادية؛ إذ إنّ مجرّد الانتماء إلى هذا الشّعب يعني تقديسَ منجزاتِه مثلما يعني الحفاظَ على حدود الأفراد فيه في مجتمع يعي حدودَه جغرافيًّا وانتمائيًّا مقابل غيره من المجتمعات، ومن هنا، فالتّمجيدُ استدامةٌ لرسمِ هذه الحدودِ الفرديّةِ فيما هو جماعيٌّ في آن، وما ذاك ببعيدٍ عن أنشودة الفرح (مرحى غيلان)؛ فما يربط الملحمةَ هنا بالأنشودة انتصارُ الحياةِ للسّيّاب، فهو إمكانيّةُ تمجيدِ ملاحمِ بلاد الرّافدين وخصائص هذا الشّعب ودمائه الّتي تتجدّد في كلّ ولادة جديدة، وما غيلان إلا استمرارٌ للدّم المتجدّدِ عمقًا في بلاد الرّافدين ونُواحياته وملاحمه عبر عصور من التّاريخ التّليد، يقول السّيّاب:
بابا... بابا
ينسابُ صوتُكَ في الظّلامِ، إليّ، كالمطرِ الغَضيرِ
ينسابُ من خَلَلِ النّعاسِ وأنتَ ترقدُ في السّريرِ
من أيِّ رؤيا جاء؟ أيِّ سماوةٍ؟ أيِّ انطلاقِ؟
وأظلُّ أسبحُ في رشاشٍ منه، أسبحُ في عبير...

ليس تكرار الانسياب عبر لفظ (بابا) هو الذي يرسّخ الفرحَ الممجّدَ لولادة الحياةِ من جديد بعد جدبٍ؛ بل ذلك الرّضيع الرّمز الّذي تكلّم بتناصٍّ ثقافيّ مع المسيح عليه السّلام، في تخيّلٍ لعذوبةِ صوتِه الّذي أبدلَ ظلامَ والدِه نورًا منسابًا بعذوبةٍ وحنوٍّ على مسمعِ والده الذي انتظره؛ فكان كمطرٍ خيّرٍ ينساب صوته برفقٍ؛ وهو الرّضيعُ بلا حول ولا قوّةٍ، بكلِّ تلك الحفاوةِ المبدّلةِ حالاً بحال.. فهو الرّؤيا الّتي لا يدري من أين حلّت، وهو سماوةٌ (بكلِّ ما يوحيه تصغيرُها من براءةٍ طفوليّةٍ محتفًى بها) لتكون تلك الرّؤيا، وتلك السّماوةُ انطلاقًا جديدًا لعالمٍ من الأهازيج ليست تنطفئ!

وما يعلي من قيمة الصّورةِ الشّعريّة الجماليّة، التي يريدها الشّاعرُ اصطفافُ مفرداتِ الجمال الحسِّيِّ (ينسابُ صوتكَ، كالمطر الغضير، أسبح في رشاش منه، أسبح في عبير) فالصّوت المنسابُ (السّمع)، والمطرُ النّاعم (البصر واللّمس)، وذلك الصّوت الذي يدعو سامعه إلى أن يسبح في العبير (الشّمّ)، بمعنى أنّ ثمّة إعلاءً للحواسّ بدلالةِ محسوساتِها الجماليّة في صورها الأبهى؛ لتجعل القارئ يرى ويسمع ويشمّ ويلمس تلك الصّورة الانثياليّةَ بمداها الجماليَّ القارِّ لتعبّر عن ظمأٍ لذلك الفرح، عن خرابٍ حسّيّ ومعنويّ اندثر بحلولِ ذلك الفرح الغامر، في إعلاءٍ لفرديّةِ الأثرِ وإيقاعِه لأنّه موازٍ لفرحِ العراق؛ وإذ بالملحمةِ الذّاتيّةِ تصبح جمعيّةً لبلاد الرّافدين، فالفرح أتى مضمّدًا ومواسيًا للعراق بأسره، وليس خاصاً، يتابع السّيّابُ في سردِ ملحمتِه:
فكأنّ أوديةَ العراقِ
فتحت نوافذَ من رؤاكَ على سُهادي، كلُّ وادِ
وهَبَته عشتارُ الأزاهرَ والثّمار، كأنَّ روحي
في تربةِ الظّلماءِ حبّةُ حنطةٍ وصَداكَ ماءُ.
أعلنتِ بعثي يا سماءُ.
هذا خلودي في الحياةِ تُكِنُّ معناهُ الدّماءُ
"بابا..." كأنَّ يدَ المسيحِ
فيها، كأنَّ جماجمَ الموتى تُبرعِمُ في الضّريحِ
تمّوزُ عادَ بكلِّ سُنبلةٍ تُعابِثُ كلَّ ريحِ

ما يميزُ المقطعَ الشّعريَّ، هنا، تكثيفُ الجمعيِّ فيه، وجعلُ ما هو فرديٌّ عامًّا، ما أسبغَ على ملحمةِ السّيّاب فردانيّتَها، فقد تفرّدَ في أنَّ العراقَ كلَّه استقبل المولودَ وكأنّه بعثٌ له، بدءًا من رموزه الأسطوريّةِ (عشتار ذات الخصب والجمال، وتمّوز الذّي بُعث من جديد بصدى هذا الصّوت فقط)، فكأنّ للعراقِ روحًا ظمأى أجدبت في انتظار الفرح، فجاء الصّوتُ ساقيًا وناثرًا للفرح والخير والجمال، وبات الخلودُ المنشود من أيّام جلجامش وما قبله ماثلًا أمام الذّات الشّعريّة برجع الصّدى، فالخلود ملحمةٌ تسري مع سريان دم المولود الّذي بات مثلَ المسيح عليه السّلام في أثره؛ مداويًا ومضمّدًا للجراح، وحاملًا للسّلام، فما عاد يُخشى الظّلامُ ولا الموت؛ إذ أزهرت الجماجمُ في الأضرحة وعاد الدّفءُ يتسرّب عبر تمّوزَ معلنًا إحالةَ الخلودِ حقيقةً مرئيّةً، مسموعةً، مشمومةً، ملموسة! فالآلام اندثرت واستحالَ الهمُّ الفرديُّ فرحًا جمعيًّا يملأ العراق!

وإذا عدنا إلى قيمةِ الجميلِ وما تراءى لنا فيها من محسوساتٍ تحيل على الفرح الأسمى المتجسّد في الخلود بالولادة والبعث؛ فإنّنا نلحظ سلّمًا يتصاعد حسّيًّا مرّة أخرى ليملأ نثارَ الرّؤيا من جديد عبر فتح النّوافذِ من الرّؤى (الرّؤية)، ثمّ يد المسيح الشّافية الحانية بملمسها على كلّ ندبٍ تلمسه، ثمّ بإزهار الضّريح (الرّؤية والشّمَ)، ثمّ دفء ثمّوزَ العائدِ مع السّنابل (اللّمس أيضًا)، ما يعني اجتماع المحسوسات مرّةً أخرى بتكثيفيّةِ الفرح المنتشي الّذي لا يسأم الإعادةَ، ولا يسأم من رصفِ الحسّيّات الجماليّة أمام ناظريه مرّة تلو أخرى، ويتابع السّياب ملحمتَه واصفًا تأثيرَ هذه المفردة (بابا) على شعوره الفرديّ- الجمعيّ معًا:
"بابا... بابا..."
يا سلَّمَ الأنغامِ، أيّةُ رغبةٍ هي قراركْ؟
"سيزيفُ" يرفعُها فتسقط للحضيضِ مع انهيارِكْ.
يا سلّمَ الدّمِ والزّمانِ: من المياهِ إلى السّماءِ
غيلانُ يصعدُ فيه السّلّمَ نحوي، من ترابِ أبي وجدّي
ويداهُ تلتمسان، ثمّ، يدي وتحتضنان خدّي
فأرى ابتدائي في انتهائي.
"بابا... بابا..."
جيكورُ من شفتَيكَ تولدُ، من دمائكَ، في دمائي
يا ظلّي الممتدَّ حين أموتُ، يا ميلادَ عمري من جديد

تمتزج في هذا المقطعِ الأسطوريِّ متجدّدِ الوقعِ نغماتُ السّلّم الموسيقيّ الّتي تتدرّجُ بين هبوطٍ وصعودٍ مع نغماتِ مفردةِ (بابا)، فهي القرار الّذي ينخفض في السّلّم الموسيقيّ والجوابُ الّذي يزداد ويرتفعُ ويعلو مع تلك النّغمة "بابا"، وكأنّ سيزيف بصخرتِه الثّقيلةِ هو الذّي يرفعها؛ وإذ بهذا السّلّم أنشودةٌ لدماء الشّاعر ودماء آبائه وأجداده الّتي تسري في دماء غيلان، فيعود الزّمن أسطوريًّا ممجّدًا للمياهِ رمزِ الحياة، ورمزِ السّماء أيضًا برفعتها وسموّها وعدلِها المنشودِ على الأرض. وبذلك يتأسطرُ الرّضيعُ بعزفه المنفرد "بابا" عبر دمائه، ومن ثمّ، دماء أجداده، أمّا يداه الصّغيرتان فتتجلّى فيهما الحياةُ والموت، والخلود والفناء والبعث بمجرّد لمسِه خدَّ أبيه، فيكون الحقيقة والظّلَّ والحياةَ والمماتَ والميلادَ بعد الموتِ لأبناء بلاد الرّافدين كلّهم.

إنّ رصيدَ المحسوسات الجماليّة ممتدّ في هذا المقطع بما هو روحيٌّ وقارٌّ في انفتاح الحدودِ الأسطوريّةِ. فسيزيفُ رمزٌ للعذابِ السّرمديِّ البشريّ في مجابهةِ إيثار الآلهةِ بالخلود كما تقول الأسطورة، قد انتصر بمحاولاتِه التّمرّدَ على ما هو مسلّمٌ به، معلنًا ثورتَه البشريّةَ على الفناء والآلهة، كما أنّه امتلك جزءًا من حقيقةِ الخلود، وتجلّى ذلك كلّه بتلك النّغمة الموسيقيّة العذبة، وبتضافر الحواسّ جميعا، مرّة أخرى، معليةً من قيمةِ الجميلِ في انتصارِ الحياة على الفناء من جديد، عبر حاسّة السّمعِ (السّلّم الموسيقيّ)، واللّمس (اليد الصّغيرة الحانية)، والبصر (فرؤيته وولادته تضخّ دماء أجداده في قريته جيكور الّتي تعبّر عن الانتماء لحضارة عمرها آلافُ السّنين). وما كان ذلك إلا بأسطورةِ السّيّاب الفرديّة التي تجاوزت ما هو فرديّ للجمعيّ العامّ.

ويختتم السّيّاب ملحمته (مرحى غيلان) بإتمام الفرح الّذي لم يكن من صنعةِ السّيّاب على أيّةِ حال؛ ولعلّنا نشير، هنا، إلى هذه الخصوصيّةِ بالذّات الّتي تفرّدت بها هذه القصيدةُ، فالمتتبّعُ لشعر السّيّاب بعامّة نادرًا ما يرى هذا الفرحَ العارمَ في شعره الّذي يمكن أن نقول بأنّه انماز بما انماز به شعرُ بلاد الرّافدين في النُّواحيات، وتكريسِ الهمِّ القوميّ والوطنيّ والإنسانيّ بعامّة، مقابل أفراحٍ عابرة! يقول السّيّاب:
"بابا... بابا..."
من أيِّ شمسٍ جاء دفؤكَ أيِّ نجمٍ في السّماء؟
ينسلُّ للقفصِ الحديدِ، فيورقُ الغدُ في دمائي؟

يمكن القول إنّ السّيّاب قد اختتمَ محسوساتِه الجماليّةَ المحيلةَ على قيمة الجميل عبر السّمع واللّمس والشّمّ والرؤية بالرّؤيا النّورانيّة إن صحّ القول، فالشّمسُ نور، والنّجمً نورٌ، والغدُ الّذي يسري فيه دماء كلٍّ من غيلان وأبيه وأجداده نورٌ أيضًا، ما يعني أنّ مسيرة القصيدةِ جماليًّا تدرّجت بدءًا من الرّؤية الزاّخرة بما هو حسّيٌّ جماليًّا من تضافرِ أغلبِ الحواسّ مرورًا بما تخلّلها من أساطيرَ حضاريّةٍ مأثورةٍ في شعر السّيّاب بعامّة، لكنّها موحيةٌ بالأثرِ الجماليِّ المرجوّ منها قيميًّا وفنّيًّا من إيرادٍ لأساطير عشتار وتمّوز وسيزيف من جهة، وإيرادٍ لمعجزاتِ المسيح عليه السّلام الرّضيع الّذي نطق إنصافًا لطهارة العذراء، فضلًا عن معجزاتِه في الاستشفاء عبر اللّمس، وأداء رسالته الكبرى للبشريّة بحملهِ قيمَ السّلام من جهةٍ أخرى. وصولًا إلى الرّؤيا الجماليّةِ الّتي تخطّت المحسوسات لتصلَ بها جميعًا إلى النّور المطلق. فمن رؤيةٍ إلى أسطورةٍ ومعجزات إلى الرّؤيا المحيلة على الشّمسِ ذاتِ الأنوار الكونيّةِ غير المحدودة، والدّفء غير المتناهي، والنّجم في السّماء، وبتحريره الجسدَ من قفصِه الكونيّ إلى الغد بأبعاده الّتي تورق في دمائه تجديدًا واستمرارًا لنسلِ حضارةٍ برمّتها، وليس حدثًا فرديًّا على أيّةِ حال!

وبالعودةِ إلى التّراسلِ الأجناسيّ مع فنّ الملحمة فإنّنا نلمح في شعر السّيّاب في قصيدةِ (مرحى غيلان) ملحمةً صغرى جديدة ممجّدةً لدماءِ أبطالها الّذين هم من نسل الحضارةِ نفسها في بلاد الرّافدين؛ إذ تجتمع في قداستِها وتمجيدها مفرداتُ البلادِ كلّها حضارةً وانتماءً وثقافةً وجغرافيا، وكأنّ الجوقةَ ذاتَها تترنّمُ بقداسةِ هذا الشّعب، بمديحٍ متتالٍ عبر انثياليّةٍ مشهديّةٍ تصطفُّ بخشوعِ الكلمات لرسم تاريخ بلاد الرّافدين حضارةً وانتماءً وبعثًا وخلودا. وتبقى (مرحى غيلان) القصيدةُ الّتي انتصرت للحياة في محاولةٍ لمقاومة الضّياعِ الإنسانيّ دائمًا، في تغيّي تخطّي الألم الّذي تعانيه الرّوحُ الإنسانيّةُ من صحراء الواقع، وتجاوز ذلك كلّه إلى رؤيا الأنوار المتجسّدةِ في الغد.

وأخيرًا؛ لا بدّ من العودة إلى تساؤلنا الأثير في بداية بحثنا هذا، وهو هل التّجربة الجماليّة هي التي فرضت التّراسلَ الأجناسيّ في الشّعر العربي الحديث، أو أنّ طبيعةَ الإبداعِ باتت تفرضُ التّراسلَ بين الأجناسِ الأدبيّة؟ ليجيبَ بحثُنا بأنّ كلًّا من التّجربة الجماليّة وطبيعةِ الإبداع التّجريبيّة والتّجاوزيّة قد أثبت حتميّةَ التّراسل الأجناسيّ في الشّعر العربيّ الحديث، وليس هذا على صعيد الشّكل الجماليّ فحسب؛ بل على جملة التّفضيلات الجماليّة الّتي ينتقيها الشّاعرُ العربيّ، كما أنّه حين تتراسلُ سماتٌ من فنِّ الملحمةِ الموضوعيّ مع الشّعر العربيّ الحديث فهذا يعني وعيَ الشّاعرِ بسماتِ ذينك الجنسين الأدبييّن وإثباتِها في نصٍّ إبداعيّ واحدٍ شكلًا ووعيًا ومضمونًا ورؤيا.

 


الهوامش: 1. وهبة، مجدي والمهندس، كامل: معجم المصطلحات العربية في اللّغة والأدب، ط2، مكتبة لبنان، بيروت، 1984م، ص: 383. وينظر: المحمّد، ثناء: البنى الفنّيّة في شعر الحداثة في سوريا، ط1، دار المعراج، دمشق، 2017م، ص: 117.2. باختين، ميخائيل: الملحمة والرّواية، تر. جمال شحيّد، معهد الإنماء العربيّ، بيروت- الهيئة القوميّة للبحث العلميّ للجماهيريّة العربيّة اللّيبيّة الشّعبيّة الاشتراكيّة، طرابلس، ط1: 1982م، ص: 62.3. فانسان، ك: نظريّة الأنواع الأدبيّة، تر. عبد الرّزّاق الأصفر، الهيئة العامّة السّوريّة للكتاب، وزارة الثّقافة، دمشق، ط1: 2009م، ص: 35.4. لانغبوم، روبرت: شعر التّجربة والمونولوج الدّراميّ في التّراث الدبي المعاصر، تر. علي كنعان وعبد الكريم ناصيف، منشورات وزارة الثّقافة، دمشق، 1983م، ص: 276.5. السيّاب، بدر شاكر: ديوانه، دار العودة، بيروت، 1995م، ص: 324.6. ديوانه، ص: 324، 325.7. ديوانه، ص: 325، 326.8. ديوانه، ص: 327.
 المصادر والمراجع: 
◅ باختين، ميخائيل: الملحمة والرّواية، تر. جمال شحيّد، معهد الإنماء العربيّ، بيروت- الهيئة القوميّة للبحث العلميّ للجماهيريّة العربيّة اللّيبيّة الشّعبيّة الاشتراكيّة، طرابلس، ط1: 1982م.
◅ السيّاب، بدر شاكر: ديوانه، دار العودة، بيروت، 1995م.
◅ فانسان، ك: نظريّة الأنواع الأدبيّة، تر. عبد الرّزّاق الأصفر، الهيئة العامّة السّوريّة للكتاب، وزارة الثّقافة، دمشق، ط1: 2009م.
◅لانغبوم، روبرت: شعر التّجربة والمونولوج الدّراميّ في التّراث الدبي المعاصر، تر. علي كنعان وعبد الكريم ناصيف، منشورات وزارة الثّقافة، دمشق، 1983م.
◅ المحمّد، ثناء: البنى الفنّيّة في شعر الحداثة في سوريا، ط1، دار المعراج، دمشق، 2017م.
◅ وهبة، مجدي والمهندس، كامل: معجم المصطلحات العربية في اللّغة والأدب، ط2، مكتبة لبنان، بيروت، 1984م.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها