البيوفيليا.. عند جبران خليل جبران

مرح عيسى نوح


البيوفيليا (BET) The biophilia hypothesis تعني حب التواصل مع كل ما هو طبيعي، قدمَ "إدوارد أو ويلسون" هذه النظرية ونشرها في كتابه عام 1984.

 

الطبيعةُ والإنسان:

نحنُ نَميلُ فطرياً نحوَ الطبيعة، إنها النشأةُ الأولى للإنسان، وهي المكان الذي تطورنا فيه ككائناتٍ حيةٍ، لذلك نحنُ نَشعُر بالارتباط والراحة عندما نلجأُ إليها.

أن تمشي ذاتَ يومٍ مُشمسٍ في غابةٍ بعيدةٍ عن صخبِ المدينةِ بينَ أشجارِ السنديانِ والبلوطِ، فوقَ صخورٍ قديمةٍ وضخمةٍ غائرةٍ في الأرضِ، تَشتَمّ عِطرَ الزهرِ والوردِ من كُلِ جانبٍ حولكَ، وتَستمِعَ لزقزقةِ العصافيرِ مع خفيف الأغصانِ التي يُداعِبُها النسيمُ العليلُ، باعثاً في نَفسِكَ راحةً غريبةً كأنها سِحرٌ يَمتصُ ما بِداخلِكَ من توترٍ وقلق، ويبعثُ فيكَ سعادةً وفرحاً قَلَّ ما تَجِدَ مِثلَهُ.

تَختلِف تَجرِبَةُ الغابةِ تِلكَ عن مُمارسةِ رياضةِ المشي في الحديقةِ كثيراً فالأخيرةُ آنيةٌ، حواسَكَ مشغولة ومُرَكزّة على الشارعِ بمراحل، فالحواسُ على سبيلِ المثالِ مُتأهبة لأي حدثٍ ناتجٍ عن المحيط، كأن تتأملَ تَعرُجاتِ الطريقِ أمامكَ أو انعكاسَ أشعةِ الشمسِ على جدولِ ماءٍ، أو اصطفافَ أشجارٍ لانهايةَ لها، أن تَلمِسَ الصخرَ القاسي والطحالبَ الخضراءَ عليها، أن تَترُكَ أُذَنيكَ تَستَمتِعُ بحفيفِ الأشجارِ وخريرِ مياهِ النهرِ، وصوتَ السناجبِ تلهو مع بعضها بخفةٍ ورشاقةٍ، أن يُلفِتكَ مَشهدُ الفطرِ الناشئِ على جذعِ شجرةٍ مقطوعٍ وأشكالهِ وألوانهِ المختلفةِ، كُلَ حواسِكَ في حالةِ استنفارٍ هادئٍ نوعاً ما، ومريحٍ بشكلٍ غيرَ عادي يوّلِدُ في روحكَ نشوةَ الاتحادِ مع الطبيعةِ جسدياً.

أهميةُ الطبيعة:

وبحسبِ دراسةٍ أجراها علماء في جامعةِ إكسترا بالمملكةِ المتحدةِ:
أن تفاعُلنا مع الطبيعةِ لمُدةِ 120 دقيقة من كل إسبوع، يجعلُ الأشخاصَ يشعرونَ بأنهم أكثرُ صحةً وسعادةً، مما يفيدهم على المدى البعيد ويُحسِنُ مزاجهم على المدى القريب، وإن الاستجمامَ في الغاباتِ لهُ أثرٌ واضِحٌ وجليٌ في الحدِ من الاكتئابِ، مَرضُ عصرِ السرعةِ والتكنولوجيا.

وتقولُ "آن باسمور" الأستاذُ المساعِدُ في علمِ النفسِ بجامعة كونكورديا:
الأشخاصُ الذينَ يُلاحظونَ الطبيعةَ من حولِهم تَكونُ مستوياتُ السعادةِ لديهم أعلى.
إنَ هذهِ المجموعة من المشاعرِ الإيجابيةِ التي يَشعرُ بها الناسُ هي الأكثرُ أهميةً لتعزيزِ الشعورِ بالسعادةِ لدى الفرد، كُلُ هذهِ الأنواع المختلفةِ من المشاعرِ مُهمةً حقاً لتعيشَ حياةً كامِلةً ومُزدهرةً، كما جاء في مقال "إيمي توماس" ل بي بي سي.

الطبيعة وفوائدها:

ادرس الطبيعةَ، أَحِبَ الطبيعةَ، وابقَ قريباً منها، الطبيعةُ لن تخيبَ ظنكَ أبداً "فرايك لويلد رايت": إنّ البقاءَ بالقُربِ من الطبيعةِ لهُ تأثيرٌ إيجابي على الصحةِ الجسديةِ ونتائجها على الجهازِ المناعي، ومجابهةِ التوتر والقلق وضغط الدّمِ وأمراضَ القلبِ والألم المُزمِن، وعلى الصحةِ النفسيةِ حيثُ يُخفف من مشاعرِ العُزلةِ الاجتماعيةِ، مما يُضفي الصفاءَ الروحي لمواجهةِ المشاكلِ والأزماتِ التي تواجهُ الإنسانَ في حياتهِ.

إنّ الميلَ البشري نحوَ كُلِ ما هو طبيعيٌ له أساسُ وراثي، كما عَرفهُ عالِمُ النفسِ الألماني "إريك فروم" أن تكِنَّ المحبةَ لكلِ شيءٍ حيٍ.

حيثُ إنّ أصدقاء الطبيعةِ وحدهم القادرونَ على استغلالِ المحيطِ المادي بطريقةٍ عقلانيةٍ، كما تَرتفِعُ لديهم مستوياتُ الانتباهِ والتركيزِ والصحةِ العقليةِ السليمةِ أيضاً.

إنّ القُربَ من الطبيعةِ "علاجٌ" لكُلِ ما قد يواجهنا، إنهُ بوصلةُ آمانٍ لصحتنا، فلا يوجد ما هو أعمقُ من الاندماجِ مع أولِ مكانٍ نشأنا فيهِ وانخرطنا لتكوينِ شخصياتنا المميزةِ بتفرُدِها واختلافها.

ولهذا نقولُ: علموا أطفالَكُم حُبَ الطبيعة الأم ليكونوا أكثرَ سعادة في حياتهم.

جبران والطبيعة:

وُلِدَ "جبران خليل جبران" وسطَ الطبيعةِ في مكانٍ مُحاطٍ بالجبالِ، وتحديداً في قريةِ "بشرّي" اللبنانية الواقعة على حدودِ وادي قاديشا، والتي تحوي آخِرَ ما تبقى من أشجارِ الأرز اللبناني (أرز الرب) من طبيعةِ لُبنان الخلابةِ خرجَت روحانية جبران، وامتزجت الثقافة اللبنانية بتجربته الأمريكية بعدَ هجرته وهو فتى صغير مع عائلته إلى أمريكا ليدرس الأدبَ، كتبَ جبران العديدَ من الأعمالِ ولعل أشهرها "النبي" الذي يعتبر رائعةَ جبران العالمية، فقد تُرجِمَ إلى أكثرِ من 50 لغة، وتَطرّقَ إلى العديدِ من المواضيعِ التي وردت على لسانِ نبيٍ سماهُ (المصطفى)، بنظرةٍ فلسفيةٍ تأمليةٍ تُحاكي آراءهُ في الحياةِ، حيثُ مثلَتْ رسالةُ ذلِكَ المُتَصوّف المؤمن بوحدةِ الوجودِ، وعطَشِ الروحِ للعودةِ إلى مكانِ نشأتِها الأولى، ومع هذهِ الفكرة تحديداً سوف نتعمقُ بدراسةِ تأثيرِ الطبيعةِ على تكوينِ شخصيةِ وأدبِ جبران خليل جبران.

ففي كتابهِ "دمعةٌ وابتسامةٌ" 1914 كتبَ قائِلاً: ثُمَ افترقا وأنا جالسٌ تحتَ أغصانِ تلكَ الشجرةِ لتجاذبني أيدي الشفقة، وتتساهمني أسرارُ هذا الكون الغريب، ونظرتُ تِلكَ الساعةَ نحوَ الطبيعةِ الراقدةِ، وتأمَلتُ ملياً فوجدتُ فيها شيئاً لا حدَ لهُ ولا نهايةَ، شيئاً لا يُشترى بالمالِ، وجدتُ شيئاً لا تمحوهُ دموعُ الخريفِ ولا يُميته حُزنَ الشقاءِ شيئاً، لا توجدُه بحيرات سويسرا ولا متنزهات إيطاليا، وجدتُ شيئاً يتجلدُ فيحيا في الربيعِ ويُثمِرُ في الصيفِ وجدتُ فيها المحبةَ.

مزجَ جبران الطبيعةَ بالمحبةِ فجعلهما متلازمتين، ففي لحظاتِ التأمُلِ والصفاءِ تحتَ أغصانِ الأشجارِ يجدُ المرء أشياءً لا نهايةَ لها ولا تشترى بالمالِ ولا تُمحى من الذاكرةِ، متمثلةً بالعطاءِ والحبِ.

القارئُ لأدبِ جبران يلاحظ ارتباطه الوثيق بالطبيعةِ اللبنانيةِ الغنيةِ والمتنوعةِ، حيثُ تكادُ لا تخلو أعمالهُ من ذكر الأشجار والجبالِ والوديان وغيرها، مع عاطفةٍ جياشةٍ تعكسُ مدى حبهِ وتعلقهِ بأرضهِ ووطنهِ الأم، لم يتكلم جبران عن الإنسان مُجرداً دوماً ما كان يربطه بالكونِ لديهِ، فالطبيعةُ ليست صوراً جميلةً لمنظرٍ خلابٍ بل هي مصدرٌ للتأملِ والتعمقِ والفلسفةِ، فكل ما تراه هو انعكاسٌ لرمزٍ ما، فالحبُ والعطاءُ والحريةُ والنقاءُ كلها جاءت من الطبيعةِ، التي يحلم كل منا أن يعودَ لصفائِها وبساطتِها الأولى، فمنها جئنا وإليها سنعود، فالجبالُ مثلاً ترمز للقوةِ والثباتِ، أما الأنهارُ والجداولُ ترمز للحركة والتغيير المستمر، فكلُ شيءٍ هنا يُعلِمنا ويرشدنا إلى دروبِ الوعي والتغيير النفسي والروحي.

فإذا كنتَ عزيزي القارئ هارباً من ضغوطِ الحياةِ اليوميةِ الصاخبةِ، والتي تعجُ بالفوضى والضجيج المستمرِ، فلن تجد أفضلَ من الطبيعةَ كملاذٍ آمنٍ وسلامٍ داخلي يبعث في الروح السكينةَ والأمانَ والاستقرارَ.

فَحُب جبران للطبيعةِ اللبنانيةِ ليسَ بسببِ تَعلُقهِ بأرضهِ فقط، بل لوعيهِ بأهميةِ العلاقة الخاصةِ التي تربط الإنسانَ بالكونِ بكل ما تحملهُ من تناقضاتٍ ومعانٍ سامية أيضاً، يدخل في روح وعقل المتلقي معاً، فالحوارُ الروحاني جنباً إلى جنب مع الحوار العقلاني، فنتج عنهُ خليطٌ فريدٌ قلَّ ما تِجدُ مثلهُ في عالم الكتابة والفكر.

إذاً؛ جبران والبيوفيليا خلطةٌ سحريةٌ، دواءٌ روحانيٌ يشفيكَ ويرتبُ الفوضى بداخلكَ، وينقي روحكَ من كلِ حُزنٍ وألمٍ.

الوصفةُ إذاً كتابٌ لجبرانَ تحتَ شجرةٍ في مكانٍ بعيدٍ أخضرٍ بديعٍ، خذه وتلحف بالسماءِ. صدقني سوف تكرر التجربة مراتٍ ومراتٍ، وتتذكر مقالي هذا والبسمةُ تعلو وجهكَ الجميلُ!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها