قرية الصّبّار

نصر الدين لعياضي


فتح باب كوخه متمتماً والفجر يتنفس: يا فتاح يا رزاق... غشاه الذعر من هول ما رأى: جثة ابنه الرضيع أمام كوخه بعد أن جعلت منها الكلاب وجبتها. راح يطارد الكلاب بصوت مكلوم. لقد واره الثرى ظهر أمس رفقة بعض أفراد أسرته بمقبرة "سيدي لغروسي" المحاذية لبيته. شلّ الجزع تفكيره. ماذا عساه يفعل الآن؟ اتجه رأساً إلى منزل مالك الأرض ليخبره بأنه لا ينزل إلى البستان اليوم حتّى يجد حلاً للمصيبة التي ألمت به.

هرول مسرعاً إلى شيخ القرية باكياً وشاكياً ليخبره بما حصل لرضيعه. حوقل الشيخ، وطالب منه إخبار إمام المسجد بما جرى ليوجهه بما يجب القيام به من أجل إعادة تشييع جثمان الطفل إلى مثواه في المقبرة. وآمره بإخراج تيس من زريبته، وينحره ليطعم المشيعين والمعزين.

تساءل القوم بعد الانتهاء من مراسم الدفن: كيف نطرد الكلاب الضالة من المقبرة؟ افترقوا على كلمة واحدة. موعدنا غداً صباحاً أمام دار البلدية لرفع شكوانا إلى رئيسها.

لم يكن في الموعد سوى ثلاثة، الوالد المكلوم وابن عمه وشيخ القرية. أخبرهم الحاجب بأن شيخ البلدية خرج مع مسؤولي المحافظة لتدشين مدرسة في قرية مجاورة. فأعدوا الكرة في اليوم الموالي ليخبرهم الحاجب ذاته بأنه ذهب مع وفد رسمي من مجاهدي حرب التحرير لتوزيع الأدوات المدرسية على أبناء الشهداء.

حالفهم الحظ بعد أسبوع. لقد رصدوه وهو ينزل من سيارته الفارهة. استمع إليهم على عجل. وأخبرهم أن مجلسه عاجز عن إنقاذ الأحياء من عضات الكلاب الضالة ناهيك عن الأموات. ثم استرسل في شكواه من وضع البلدية التي لا تملك ميزانية لصيانة المقبرة التي تحولت إلى مطعم للحيوانات المفترسة. ونصحهم بالاعتماد على أنفسهم في تسييج المقبرة، وأن البلدية ستزودهم بالأسلاك الشائكة التي انتزعت من الورشة التي قامت ببناء المدرسة التي تم تدشينها قبل أسبوع.

عاد القوم من حيث أتوا مسكونين بقلق السؤال: لماذا تحظى مقبرة المعمرين الفرنسيين بالصيانة والحراسة على مدار اليوم؟ ولماذا وعدنا رئيس البلدية في حملته الانتخابيّة بانتداب حارس من البلدية لحراسة المقبرة، بعد أن يحيطها بجدار من الإسمنت المسلح؟ كيف نقنع الفلاحين الكادحين باقتطاع جزء من دخلهم، الذي لا يكاد يسد رمق أسرهم، لتسييج مقبرة "سيدي الغروسي"؟

كانت فكرة التبرع بالمال موضع جدل حاد أدى إلى توتر الأعصاب. بعضهم قال إن الأحياء أولى من الأموات بالقليل مما نملكه؟ ورأى بعضهم أن البلدية مسؤولة على حراسة المقبرة وصيانتها. واستطرد في القول: إلى أين تذهب أموال الجباية إن لم تصرف لمثل هذا الغرض؟ وذكر بعضهم الآخر أن وضعه البائس لا يسمح له بالمساهمة المالية في تسييج المقبرة، فمن يستطيع ذلك فليفعل وأجره على الله. وأكد أنه لن يتأخر في المساهمة بعضلاته.

باع شيخ القرية عنزتين إكراماً للأموات. وأضاف ثمنهما إلى المبلغ المتواضع الذي جمعه من بعض المحسنين. واشترى حزمة من الأوتاد الحديدية في انتظار وصول الأسلاك الشائكة التي وعد بها رئيس البلدية.

طال الانتظار، ونسي رئيس البلدية ما وعد به. ولم تحرك الأسلاك الشائكة ذاكرته المتعبة بالاجتماعات والمراسم والزيارات والاحتفالات، والخطابات. ونفذ صبر بعض البدو الرحل، الذين يخيّمون بشياههم في المنطقة بعد كل موسم حصاد، وهم يرون الرياح تعبث بعيدان الخيزران التي تشدّ حبال زرائب حيواناتهم. فاستعانوا بالأوتاد الحديدية لتقف ضد ما تشتهيه الرياح.

لم يبق في يد الفلاحين من حيلة سوى رمس أمواتهم بالجير. لقد قيل لهم إنّه يطرد الحيوانات المفترسة والقوارض والحشرات من القبور.

استيقظ سكان القرية ذات صباح ليروا شجيرات الصبّار تحفّ حول المقبرة. لقد اهتدى أحد الرعاة إلى هذه الفكرة بعد أن نسج باباً من الحَلْفَاء وشدّه إلى قصبتين من اليراع ليكون مدخلاً لها.

ابتلعت غابة شجيرات الصبار "سيدي لغروسي". وارتاح الأموات من تكالب الحيوانات المفترسة على عظامهم وهي رميم. ودبت في أوصال القرية حركة تجارية غير مسبوقة. فالأطفال تحرّروا من الرعي ومشقة الزراعة لبعض أيام الصيف. وهاهم يصطفون على طول الطريق الرئيس كل صباح عارضين سلال التين الشوكي على المارين بسياراتهم من أجل الحصول على بعض المال لشراء الأدوات المدرسية، وكسوة جديدة يستقبلون بها السنة الدراسية الجديدة.

وقف رئيس البلدية، بعد أن لحقته صفة السابق، يفاوض ذاك الفلاح، الذي نهشت الكلاب جثة طفله، سعر سلة التين الشوكي. كان الفلاح صعب المراس لا يرضى التنازل بدينار واحد عن السعر الذي حدّده لسلّته. فصاح من كان رئيس بلدية بغضب في وجهه حتّى يسمعه كل من في الشارع: من المفروض أن تشكروني، وتتدافعوا لتهدوني التين الشوكي. فبفضلي، وبفضل الأموات أصبحتم ترتزقون منه. فماذا لو قمت بتسييج المقبرة بالأسلاك الشائكة؟ فجاءه صوت من بعيد: نعم؛ الكلّ في هذه البلاد يقتات من الأموات. وكل واحد منا يفعل ذلك بطريقته الخاصة ومستواه؟

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها