بدأ الأمر بكابوس؛ حيث كنت أقف إلى نافذة غرفتي، أراقب الحي الممتد أمامي من مكان مُشرِفٍ؛ فشقتي في الطابق الأخير، ضمن بناية على مرتفع يعلو معظم بيوت الحي. فجأة، ودون سابق إنذار، ودون أسباب ظاهرية، انهارت البناية التي أمام نافذتي مباشرة، انهارت بصمت كبيت رملي بناه طفل على شاطئ البحر، وأصبحت ركامًا. الغريب أنّه لم يصدر أيّ صوت صراخ أو استغاثة، والأغرب أن لا أحد من الجيران هبّ لنجدة سكان البناية التي انهارت، فأسرعت دون هدى للمساعدة، فضرب رأسي بالباب، فاستيقظت من نومي مذعورًا.
في الشركة، حيث أعمل، بقيت مُكدرًا، أسترجع الكابوس، وأحاول تأويله، بحثت في شبكة الإنترنت، وقرأت أنّها تشير إلى معاناة صاحب الرؤيا (الكابوس) من «المشاكل والأزمات والهموم والقلق والتوتر والأحزان التي يحاول التغلب عليها، وأنّه يعيش في حالة من العزلة والاكتئاب ورغبته في البعد عن الناس والاستقلال بحياته دون أي تدخلات من الآخرين في شؤونه»، صحيح أني أفضل البعد عن الناس، وأعيش وحيدًا، وأعاني من بعض المشاكل بخصوص علاقتي مع أسرتي التي تعيش في دولة أخرى، لكن الإشكالية أنّ البناية التي انهارت ليست بنايتي، وهذا ما جعلني أشكك في ملائمة هذا التفسير لحالتي، وإن كان فيه كثير من التوافق.
لاحظ زميلي في المكتب، أني مهموم وقلق على غير عادتي، أو على الأصح أكثر من عادتي، فسألني من باب المجاملة وحب الثرثرة، فنظرت إليه لحظات، ولم أجب، وعدت إلى عملي متظاهرًا بالانشغال. ويبدو أنَّ الفضول دفعه لإعادة السؤال بعد مضي بعض الوقت، فتنهدت، بعد صمت وتردد، وأخبرته بقصة الكابوس، ولم أنقل له تفسيره حسب مفسري الأحلام، فسخر مني، وقال: كان عليك أن تتصل بالدفاع المدني أولًا، قبل أن تسرع بالنزول، واحمد ربك أنّك لم تصب بكسر في رأسك!! أنبت نفسي لأني استجبت له وأخبرته بالكابوس الغريب، ثم أطرقت أفكر، وقلت: معه حق؛ لِمَ لَمْ يخطر ببالي أن أتصل بالدفاع المدني أولًا؟
حاولت أن أتناسى الكابوس بقية اليوم، بالقراءة ومتابعة شاشة التلفاز، وتقليب المحطات دون تركيز، ولكنه راودني أكثر من مرة على الرغم من كل الدروع وأسلحة الدفاع والقبة الحديدية التي اتخذتها.
راقبت البنايات من نافذة شقتي، ورأيت البناية التي انهارت في كابوسي، وبحثت عن علامة ما، أو سبب قد يؤدي لانهيارها، فلم أجد. تسمرت أمامها طويلًا، ثم تنبهت إلى وقوفي الذي قد يُفسر بشكل خاطئ ممن يراني، ويظن أني أتلصص على البيوت، أو أرصدها لأمر ما!
نمت بصعوبة تلك الليلة، وأنا قلق وخائف أن يتكرر الكابوس، ولكن الليلة انتهت على خير، فتنفست الصعداء، وذهبت إلى عملي في حالة جيدة، ولم ألتفت إلى تحرشات زميلي وتعليقاته الساخرة.
في الليلة التالية، عاد الكابوس بشكل أعنف؛ فقد انهارت أمامي ثلاث بنايات، وتكرر الصمت واللامبالاة، واصطدام رأسي بالباب قبل أن أستيقظ، وللمرة الثانية لم أتصل بالدفاع المدني أولًا. لم أستطع العودة للنوم ثانية على الرغم من أنّ الوقت مبكر جدًا للاستيقاظ، حاولت وتحايلت وتناومت دون جدوى، فقد كان مشهد الكابوس المرعب ماثلًا أمامي لا يفارقني.
ذهبت إلى العمل مُرهقًا، وكنت أغفو بين الحين والآخر على مكتبي، وزميلي ينظرني بسخرية، وربما تشف، حاول مرارًا أن يستدرجني للحديث، فلم أستجب، وتجاهلته تمامًا، ورفضت دعوته لتناول كأس من الشاي أو فنجان من القهوة. وانتهى اليوم بتوبيخ من رئيسي المباشر.
في الشقة، لم أستطع النوم إلا نتفًا متفرقة من الوقت، وابتلعت قليلًا من الطعام دون شهية أو حاجة ماسة. كان الكابوس يتراءى لي كثيرًا، وكلي خوف أن يعود إليّ في المنام، ولذا؛ ترددت في الذهاب إلى النوم، وأنا حائر؛ فيجب أن أنام لأكون مستعدًا لدوام الغد، وأخاف أن أنام فيعود الكابوس. ذهبت إلى صيدلية، واشتريت منومًا بشق الأنفس؛ فهذا الدواء لا يُصرف إلا بوصفة طبية كما يزعم الصيدلي، ووعدته أن أحضر له وصفة في أقرب وقت. وكان المنوم فعّالًا، فنمت بسرعة، ولكن استيقظت قبيل الفجر فزعًا متألمًا لاصطدام رأسي بالباب، بعدما رأيت صفًا كاملًا من البنايات ينهار أمامي، بصمت وتجاهل.
ما لم أجد له تفسيرًا منطقيًا؛ أنَّ البناية التي انهارت في كابوسي الأول، انهارت من جديد في كابوسي الثاني، والبنايات التي انهارت في كابوسي الثاني، انهارت مجددًا في كابوسي الثالث. واستغربت بسخرية مرة من سرعة إعادة البناء في عالم الأحلام والكوابيس!
أصبح الأمر كارثيًا لا يُطاق، ما المقصود من هذا الكابوس المتصاعد؟ هل هو إشارة أو رسالة أو نبوءة؟ ولم أنا بالذات يأتيه هذا الكابوس؟ وهل هناك غيري يراه؟ لم أستطع الذهاب إلى العمل، فاتصلت أطلب إجازة، فحصلت عليها بعد مماطلة وسين وجيم.
لا أدري ماذا أفعل؟ لا أحد حولي أثق به لأصارحه بما رأيت وأعاني، واستعرضت قائمة أصدقائي، فلم أرتح لأي منهم لأفضفض له، علّه يخفف عني أو يريحني بكلمة أو تفسير، ولأكون صادقًا؛ لا أصدقاء لي ابتداءً، يقتصر الأمر على بعض زملاء العمل والمعارف دون روابط حقيقية معهم. عدت إلى شبكة الإنترنت، أبحث وأقرأ، وبحثت في أعراض الأمراض النفسية، فلم أستفد شيئًا، وبقيت ألوب على نفسي، وتراكم القلق والخوف في أعماقي من احتمالية تدهور حالتي، وأنا وحيد بعيد عن أهلي. فكرت في العودة إليهم، ولكن توتر علاقتي بهم، منعني من ذلك، فلا يعقل أن أعود إليهم ضعيفًا خائفًا، وأنا الذي تمردت عليهم، وأعلنت استقلاليتي وعدم حاجتي لهم.
ازداد الكابوس قسوة ودمارًا؛ فقد رأيت وأنا أقف إلى النافذة أنَّ الشارع ينهار أمامي، ويبتلع البنايات، وفي ليلة أخرى، رأيت نصف الحي ينهار، وفي ليلة تالية رأيت الحي كله ينهار وما تلاه من غابات وجبال، وفي كل كابوس، يصطدم رأسي بالباب كالعادة.
لم أعد إلى العمل، وأخذت إجازة طويلة، ولجأت إلى طبيب نفسي، ثم إلى شيخ قرأ عليّ القرآن، وآخر عمل لي حجابًا أضعه في جيب قميصي وتحت وسادتي عندما أنام، فلم يتغير الحال، بل زاد بشاعة، فكل ليلة، أستيقظ من كابوس انهيار شمل الشمس والقمر والنجوم والسماء، وحدها بنايتي سلمت من الانهيار، والبنايات على الجهة الأخرى، لا أدري عنها شيئًا، فأنا لا أراها من النافذة وما يتلوها من بنايات وأحياء.
تطورت حالتي سوءًا؛ فصرت عندما أمشي نهارًا لشراء شيء من البقالة أو من أي متجر، يُخيل إليّ أنّ بناية أمامي تنهار، وتكرر الأمر كثيرًا، ولكن لحسن الحظ؛ فقد اقتصر الأمر على انهيار بناية واحدة فقط، ولكن بعد عدّة أيام زادت بناية أخرى. أصبحت حالتي مُزرية رثّة يُرثى لها؛ فقد طال شعري وأظافري، وأهملت حلاقة ذقني وتغيير ملابسي، ونحف جسمي، وأوشكت نقودي على النفاد، وكانت قاصمة الظهر، عندما كنت أسير وسط الشارع ذاهلًا عما حولي، عندما توقفت فجأة مذعورًا، وأنا أصرخ بسائقي السيارات: توقفوا، عودوا، عودوا إلى الخلف، الشارع ينهار، الشارع ينهار!!
بعد شكوى الجيران، وشهادة الشهود، والتوثق من حالتي، نُقلت إلى مستشفى الأمراض النفسية، وأنكرتُ أنّ لي أسرة أو معارف. في الطريق إلى المستشفى، أشرت إلى عمارة في حي شعبي، وقلت للموظف المرافق لي: أرجوك، وأشرت بيدي؛ تلك العمارة، ذات الطلاء الأصفر، والطوابق الثلاثة، ستنهار، أرجوك، اتصل بالدفاع المدني وبرئيس البلدية، وبسكان العمارة، وحتى بالأمم المتحدة لإخلائها بسرعة قبل فوات الأوان. نظر الموظف لي بسخرية، وقال: أفهم أنّك تتخيل ما ينهار أمامك، ولكن أن تتنبأ بالانهيار، فهذا مرض، بل كارثة أخرى، سأثبت ذلك في تقريري أيضًا، فحالتك ميؤوس منها كما يبدو. رجوته مرات ومرات، دون أن يهتم، بل ازداد سخرية وتهكمًا، وطلب أن أصمت، وإلا سيكمم فمي مضطرًا.
وُضعت في غرفة منفردة ريثما يتم تشخيص حالتي طبيًا، ومن ثم وضعي مع مرضى آخرين. في صباح اليوم التالي، ونحن نتناول الإفطار في صالة الطعام، كان التلفاز يبث خبرًا عاجلًا وصورًا لانهيار عمارة، ولما دققت النظر، صدمت أنّها العمارة نفسها التي أشرت إليها بالأمس، ورجوت الموظف أن يتصرف. صرخت بأعلى صوتي: أيها الحمقى، أيها المجرمون، ألم أحذركم؟ ألم أقل لكم إنها ستنهار؟ لِمَ لَمْ تصدقوني؟ ومن يتحمل الآن خطايا هؤلاء الضحايا الأبرياء؟! وأخذت أبكي وأنشج وأصرخ وأضرب طاولة الطعام بقبضتي حتى أُغمي عليَّ.
صحوت، وأنا ممدد على سرير، وحولي طبيب وممرضون، والموظف الذي كان برفقتي بالأمس ووجهه أسود مرتعب، فهممت أن أهجم عليه، وأنا أصرخ: قاتل... قاتل.. أنت مجرم.. تبًا لك.. ألم أخبرك وأحذرك؟ لِمَ لَمْ تصدقني؟ أمسكني الطبيب بمساعدة ممرض، والموظف يرتجف خوفًا وندمًا، فسأله الطبيب عن حقيقة قولي، فأكد كلامي وهو يتلجلج، وأني حذرته من انهيار العمارة، وكان بالإمكان تجنب الكارثة لو صدقني.
حملق فيَّ الطبيب بدهشة واستغراب، وأخذ يسألني لتشخيص حالتي، فقصصت عليه كل شيء، وصمت يفكر بعمق، ثم هزّ رأسه حائرًا، وقال: بسيطة إن شاء الله، سأصرف لك بعض المهدئات، وسنضعك في غرفة جيدة مع مرضى عاديين لا خوف منهم، وكلهم مسالمون. وقبل أن أغادر رفقة الممرض، سألت بغضب وحدة: وهذا الموظف المجرم، ألا يجب أن يُحاكم؟ إنّه أحق من كل نزلاء المستشفى أن يُوضع في غرفة منفردة لأنه مريض خطر، بل مجرم وقاتل!
ابتسم الطبيب، وقال: لا عليك، سيأخذ جزاءه بالتأكيد، المهم اهتم بنفسك وصحتك، وستخرج خلال أيام إن شاء الله، فحالتك بسيطة، ولا خوف منك أو عليك.
نظرت إلى الطبيب متوسلًا، وقلت: أرجوك، اعمل معروفًا، ودعني هنا إلى ما شاء الله، فأنا أعرف حالتي، فأنا مريض جدًا جدًا، ولا أهل لي في الخارج، ولا بيت يأويني، اتركني أعيش هنا، وسأكون طوع أمركم؛ أدوية، صدمات كهربائية، أي شيء، أنا جاهز.
ابتسم الطبيب بحيرة، وقال: أنت حالة غريبة لم أصادفها من قبل، أنت أول مريض يقول أنا مريض، ولا أريد الخروج. صدقني إنّك عاقل جدًا، ولا يمكنك البقاء دون سبب.
أعدت الرجاء: أرجوك دكتور، ربما فاتك شيء، أعد التشخيص مرة أخرى بمساعدة زملائك، وأنا على ثقة أنكم ستعرفون مرضي، وستدركون مدى خطورته.
ضرب الطبيب يده على طاولة أمامه ضربات خفيفة، وقال: ولكن... فقاطعته، وقلت مستعطفًا: أرجوك يا دكتور، دون لكن.
رفع الطبيب يديه مستسلمًا، وأشار إلى الممرض أن يذهب بي إلى غرفتي، شكرته كثيرًا، وغادرته وأنا أشعر بسعادة غامرة، وفي الممر إلى غرفتي، صرخت في الممرض: انتبه، أهرب.. المبنى سينهار. فجفل المسكين وارتعب وأسرع يعدو خارج المبنى، وأكملت طريقي إلى غرفتي مبتسمًا سعيدًا.