يوفر الأدب المعاصر، في التقاطه لتعقيدات الحياة الحديثة وفروقها الدقيقة، ثروة من القيم التي تثري فهمنا للعالم ولأنفسنا. إذ يدعونا إلى احتضان التنوع، والانخراط في التفكير الاجتماعي والسياسي، واستكشاف أعماق هويتنا، والنظر في تأثير التكنولوجيا، وفهم ترابطنا العالمي، وإيجاد المرونة والأمل في مواجهة التحديات. هذه القيم تجعل من الأدب المعاصر مرآة لعصرنا ودليلاً للإبحار في عالم دائم التغير.
فالأدب المعاصر، الذي تثريه التيارات الفلسفية وما بعد الحداثية، يقدم تأملات عميقة حول الحقيقة والهوية والواقع والأخلاق. باستخدام هياكل سردية مبتكرة واستكشاف موضوعات معقدة، يعكس هذا البراديغم الأدبي التحديات والمفارقات في عصرنا، ويدعو القراء إلى إعادة النظر في تصوراتهم والانخراط في التفكير النقدي في العالم من حولهم. إذ يستكشف الأدب المعاصر، المتأثر بقوة بالاتجاهات الفلسفية ما بعد الحداثية، موضوعات عميقة ومعقدة، وغالبًا ما يتحدى المفاهيم التقليدية للحقيقة والهوية والواقع.
تسعى ما بعد الحداثة إلى تمثيل "جنون العالم"، الجنون الفوكوّي (نسبة لفوكو)، إن صحّ التعبير. فالأعمال الأدبية ما بعد الحداثية تبرز كل حالات اللااسقرار واللاتوازن واللايقين والنسبية -فلم تأتِ ما بعد الحداثة لنشر أو تبليغ حقيقة معينة؛ وأيضاً فهي تسعى إلى إبراز حالات الكاووس (الفوضى العارمة)، وجنون العظمة والأنتروبيا (الفوضى الكونية)، والبارانويا… وغيرها، وكلها حالات لا تحضر عبر السرد فحسب، بالنسبة إلى العمل الأدبي السردي، بل داخل المستوى اللغوي أيضا. إذ "باتت اللغة في مرحلة ما بعد الحداثة تميل إلى ما هو تراجيدي بسبب انفجار وتمزق المحتذيات"1. ما جعل من الصعب الإمساك بالمعنى الذي يحضر متشظياً ومتعدداً وغير واضح، حيث يتحول المعنى إلى أثر.. "أثر يدل دون أن يظهر"2 بتعبير لفيناس؛ وهو أثر يستدعي الغائب (الآخر) الذي لا يوجد إلا محايثاً. ولا يتحقق الوجود بالتالي، إلا عبر الأثر، عبر المحو والاختفاء، وضمن الغامض، الذي لا ينكشف كاملًا، وإن حدث وظهر بعضها صعب معرفة أجزائه الخفية.. فيصير المعنى مرجأً دائماً وغير قائم في الحاضر والظاهر.. مما يفتح الأفق للتأويل والتأويل المضاعف، وهو ما يجعل الفكرة والمفهوم أهم من الشكل المادي. ومعه تصير كل عملية فهم، هي ممارسة لتفكيك اللغة (المكتوبة والبصرية) وتمزيقها وإعادة كتابة مفرداتها.
بينما المعاصرة، أدباً وفناً، ليست تحقيباً كرونولوجياً بقدر ما هي جزء من جنيريك الفن والأدب، أو بالتدقيق إنها براديغم من البراديغمات الثلاثة: الكلاسيكي والحديث والمعاصر. واليوم تتعايش هذه النماذج الكبرى فيما بينها. إلا أن الجمالية المعاصرة هي حساسية وانفعالات "تعمل بطريقة إدراكية". إنها تستند، بصورة أكثر اتزاناً، إلى قدرتنا على رؤية ما الذي يجعل العمل الفني نسقاً رمزياً، أليغورياً (allégorique) إن أردنا القول، وفهم كيف يشتغل نسق الرمز هذا. كما الحال هنا عند نيلسون غودمان، إذ حسب هذا الفيلسوف، إذ ما عادت الجمالية التحليلية تحدد الفن بالقياس إلى ما هو عليه في ماهيته المفترضة أو الآتية، ولكن حسب ما تلفظ من وجود وفي ما نقوله فيه. ما يعبّر عنه العمل الفني والأدبي، ومضمونه، وفكرته، لا يحسب لها، إذن، أي حساب3.
◄ تعدد الأصوات: الشتات والاغتراب
يقدر الأدب المعاصر تنوع الأصوات، ويسلط الضوء على وجهات نظر متنوعة على أساس العرق والجنس والتوجه الجنسي والطبقة والثقافات. يقدم مؤلفون مثل تشيماماندا نجوزي أديتشي، وأوشن فونج، وجومبا لاهيري روايات غنية توسع فهمنا للتجربة الإنسانية. فتعدد الأصوات في الأدب المعاصر ظاهرة تعكس تنوع العالم الحديث وتعقيده. تتجلى هذه التعددية في العديد من الطرق وتشمل مجموعة متنوعة من العناصر، مثل وجهات النظر الثقافية، وأساليب السرد، والأصوات المهمشة، والإبداعات الشكلية.
يأتي الكتاب المعاصرون من جميع أنحاء العالم إلى عالم الأدب، محملين بوجهات نظر فريدة حول موضوعات عالمية ومحلية: إنسانية مشتركة وأخرى متفردة. يثري هذا التنوع الثقافي الأدب من خلال تقديم قصص وأصوات كانت في السابق ممثلة تمثيلًا مهمشاً أو تم تجاهلها. على سبيل التمثيل، يقدم المؤلفون المنتمون لشعوب نازحة أو الهاربة من ويلات الحروب والشتات والكتاب الأصليين وآخرون من مجتمعات الأقليات العرقية وغيرها، وجهات نظر جديدة ومتطرفة أحيانا، حول قضايا الهوية والهجرة والعدالة الاجتماعية. وهو ما يغني مواضيع الأدب المعاصر ويفتح أفاقه على القيم غير المسموعة سابقاً، ويجعلنا ننبه إلى مصائب وكوارثة إنسانية لم ننتبه لها قط، فليس دور الأدب الإمتاع فحسب، بل جعلنا ننخرط في العالم بعواطفنا وأفكارنا وأحاسيسنا، وكامل جسدنا. لهذا يتم التركيز، من قبل مجموعة من الأدباء المعاصرين، على الإدماج والتمثيل العادل لجميع الفئات الاجتماعية. ليحارب الأدب المعاصر، بالتالي، الصور النمطية ويعزز رؤية أكثر عدالة وشمولية للعالم.
وإجمالًا، يمنح الأدب المعاصر صوتًا متزايدًا لأولئك الذين تم تهميشهم أو إسكاتهم في الماضي. مما يتيح للكتاب مطارحة تجارب العرق والقمع والتحرر بطرق عميقة ودقيقة في قالب متجدد، يتكئ على ثنائية الخرق والتجاوز، لغة وشكلا. وغالبًا ما يتلاعب الكتاب المعاصرون بأشكال السرد التقليدية4 ليعكسوا بشكل أفضل تعقيد الواقع الحديث. يعد استخدام تعدد الرواة، وتجزئة السرد، والسرد غير الخطي من الأساليب الشائعة. يستخدم مؤلفون أمثال جنيفر إغان Egane في عملها السردي "زيارة من الزمرة البلهاء" وديفيد ميتشل Mitchell في كتابه "أطلس السحاب" هذه التقنيات لنسج روايات معقدة ومترابطة تتحدى التوقعات التقليدية. إذ تركز إغان على حالة الانعزال الفردي، في عملها هذا، في ظل التطور التقني الموحش، مما يضع الفرد في اغتراب ذاتي، استثمرته الروائية عبر عدم التركيز على شخصية واحدة رئيسة على امتداد صفحات الرواية، متيحة تعدداً شخوصياً وصوتياً هاماً. إذ تعمل الأصوات المتعدد، على إثراء البانوراما الأدبية من خلال تقديم روايات حقيقية ومؤثرة في كثير من الأحيان عن تحديات وانتصارات المجتمعات المهمشة، وذلك من خلال تسميع الحكاية أو القصة من زوايا مختلفة، ومن قبل ألسن متنوعة، مما يضع القارئ أمام لعبة متعددة أبعاد، ينظر من خلالها لكل الاحتمالات ويسمع جل الأصوات.
يتجلى أساساً تعدد الأصوات حيث تتعايش عدة أصوات متميزة في النص الواحد نفسه. ويسمح هذا النهج للكتاب بتمثيل العديد من وجهات النظر، وإنشاء أعمال غنية ومتعددة الأبعاد. ويستخدم مؤلفون أمثال ألكسندر هيمون وجونوت دياز Díaz تعدد الأصوات لاستكشاف تقاطعات التاريخ الشخصي والجماعي، غالبًا في سياقات الهجرة والشتات.
ومن ثمة ينبغي التأكيد على أن تعدد الأصوات في الأدب المعاصر ليس فقط انعكاساً لتنوع العالم الحديث، بل هو أيضاً مصدر غنى وحيوية للأدب نفسه. ومن خلال احتضان هذا التنوع، يقدم الكتاب المعاصرون وجهات نظر جديدة وغالبًا ما تكون جذرية حول العالم، مما يتحدى القراء لرؤية ما هو أبعد من تجاربهم الخاصة، وتقدير تعدد الأصوات التي تشكل عالمنا الأدبي.
◄ الالتزام الاجتماعي والسياسي:
يستخدم العديد من المؤلفين المعاصرين أعمالهم لمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية الحاسمة، مثل العنصرية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، والبيئة. على سبيل المثال، تستكشف أعمال مارغريت أتوود، مثلما نقف عنده في عملها الأدبي الموسوم بـ"حكاية الخادمة"، موضوعات الشمولية وحقوق المرأة. هذا وتمتلك المشاركة الاجتماعية والسياسية جانباً أساساً من الأدب المعاصر. يستخدم العديد من الكتاب رواياتهم ومؤلفاتهم الأدبية لمعالجة القضايا الحاسمة، وإدانة الظلم، وتعزيز التغيير الاجتماعي. ليصير بالتالي، الأدب وسيلة للتعبئة والوعي، وتشجيع القراء على التفكير والتصرف بشأن القضايا الاجتماعية الملحة. غالبًا ما يجمع كتاب مثل أرونداتي روي وتا نيهيسي كوتس بين الكتابة والالتزام الاجتماعي والسياسي.
إذ يقدم المؤلفون الملتزمون سياسياً -أو اجتماعياً- نقدًا لاذعًا لهياكل السلطة والظلم المنهجي. على سبيل المثال، تستمر رواية جورج أورويل "1984"، على الرغم من كتابتها في منتصف القرن العشرين، في التأثير على الأدب المعاصر بتأملاتها حول الشمولية والمراقبة. وهو ما استثمره العديدون في روايتهم، للحديث عما يعانيه جيل التقنية والأنترنيت من حالة مراقبة رهيبة لكل تفاصيلهم اليومية، بشكل قصري أو طواعية، داخل فضاءات افتراضية تفرض نفسها بوصفها هي الواقع البديل؛ حيث تحولت هذه الأفضية السحابية، بصيغة ماكلوهان، إلى كونها "هي الرسالة". مما ينهي الواقع ويقتل المعنى. وهو ما يعبر عنه جان بودريار بقوله: "إن ما يتربص بنا فعلا هو كارثة المعنى"5.
تعمل المؤلفات المنتمية لهذا الحس الالتزامي السياسي والاجتماعي بالوقوف ملياً عند بعدين هامين، بعد القمع وما تسميه المدن الديستوبية الوليدة للكارثة والسيطرة والاحتقار والإخضاع، حيث يصير الكل مراقباً للكل ومتوجساً من الكل، وبعدُ غياب المعنى ونهاية الحقيقة في إطار عام يتخلله موت الفرد وانصهاره في عالم منطبع بالمراقبة القصوى والتحكم المطلق بأفكاره ومساعيه وأحاسيسه. لهذا غالبًا ما يعطي الكتاب المعاصرون صوتًا للمجموعات المهمشة، وبالتالي يسلطون الضوء على نضالاتهم ووجهات نظرهم. استكشف مؤلفون مثل توني موريسون وجيمس بالدوين تجارب الأمريكيين من أصل أفريقي، في حين تناول كتاب مثل أرونداتي روي وسلمان رشدي تعقيدات ما بعد الاستعمار. وبالنسبة لبعض الكتاب، الكتابة هي عمل مقاومة ضد الظلم. وتشكل أعمال سفيتلانا ألكسيفيتش، التي توثق حياة الناس العاديين في الاتحاد السوفييتي وروسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، مثالاً قوياً على هذا الشكل من الأدب الملتزم.
تُعد المشاركة الاجتماعية والسياسية في الأدب المعاصر قوة دافعة تلهم القراء وتعلمهم وتعبئهم. ويستخدم الكتاب عبرها، فنهم لاستكشاف القضايا المعقدة، وتحدي الأعراف الاجتماعية، والدعوة إلى عالم أكثر عدلاً وإنصافًا. ومن خلال قصصهم، يلهمون القراء للتفكير النقدي والانخراط بنشاط في المجتمع.
◄ استكشاف الهوية:
على المستوى الفلسفي يكشف لنا ميشيل فوكو كيف تقوم هياكل السلطة والخطابات الاجتماعية ببناء الهويات، فـ"الخطاب خاضع لقوانين [مؤسساتية]"6. وغالبًا ما يدرس الأدب المعاصر الهويات المهمشة وكيف تتشكل من خلال دينامية السلطة المحتكرة للخطاب عبر مؤسساتها الرسمية. ليبرز لنا الأدب المعاصر قضايا الهوية بعمق، بما في ذلك حركية الهوية العرقية والهوية الثقافية. حيث تستكشف أعمال جونوت دياز وزادي سميث، على سبيل الذكر، تعقيدات الهوية في عالم مُعولم.
يعمل الأدب المعاصر عملا قيميّاً، حيث تتحول مجموعة من الأعمال الأدبية إلى ساحة أكورا تتطارح فيها الأفكار المركزية والهامشية، في الوقت الذي يعلى فيه من قيمة الهامش بكل أبعاده سواء على مستوى الكتابة أو الخطاب. فالحقيقة المركزية لم تعد وحدها السائدة، فالحقيقة الواحدة منتهية ومقتولة بلا رحمة ولا شفقة من قبل الأدب المعاصر. لهذا يقترح دريدا أن النصوص الأدبية يمكن أن يكون لها تفسيرات متعددة، وأنه لا توجد "حقيقة" مطلقة واحدة. يؤثر هذا النهج على الأدب المعاصر، حيث غالبًا ما يتلاعب المؤلفون بالبنية السردية ووجهات النظر لإنشاء روايات مجزأة وغامضة، قادرة على أن تؤول بطرق متنوعة7، في خدمة استمالة القارئ ووضعه إزاء تفاعل فكري مع المواضيع المطروحة.
في عالم بلا حقيقة، تطفوا إلى السطح خطابات الهوية، والتعدد والتنوع الثقافي والعرقي، وهو ما يدعمه الأدب بقوة، ويروج لقيمه. لا تجد الأقليات في عالم عائم ومتبخر إلا العودة إلى ثقافتها وهويتها طوف نجاة، للتخلص من السلط المركزية والتعبير عن ذاتها التي ظلت منصهرة في قلب المجتمع ومؤسساته. فتغدو بالنسبة لبعض الأدباء، الكتابة عمل مقاومة ضد الظلم ومسعى تحرر هوياتي. تشكل أعمال سفيتلانا ألكسيفيتش، التي توثق حياة الناس العاديين في الاتحاد السوفييتي وروسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، مثالاً قوياً على هذا الشكل من الأدب الملتزم الذي يعمل على الاستبطان واكتشاف الذات، وذلك عبر قصص السعي الشخصي واستغوار الذات المقموعة والتائهة، وتقديم وجهات نظر حول التنمية الفردية والبحث عن المعنى في عالم سريع التغير. ويستمر هذا الاستكشاف في تحدي الحدود وإعادة تعريف معنى أن تكون إنسانًا في السياق المعاصر.
من هذا المنطلق يسلط الكتاب المعاصرون الضوء على قضايا الهوية الثقافية والعرقية. ويبرزون كيفية تنقل الشخصيات بين الثقافات المختلفة، الذي يكون في الغالب بسبب الهجرة أو الشتات. مثلما نقف حدّه في منجز "أمريكانا" للنجيرية تشيماماندا نجوزي أديتشي تتناول الهوية النيجيرية الأمريكية وتحديات الاستيعاب الثقافي. ومن زاوية أخرى، يدرس الكتاب المعاصرون كيفية بناء الأفراد لهوياتهم من خلال تجاربهم وعلاقاتهم وصراعاتهم الداخلية. يتعمق مؤلفون مثل الإيطالية إيلينا فيرانتي، في سلسلتها "الصديق المذهل"، في دينامية الشخصية والهويات المتطورة لشخصياتهم. كما ومع ظهور التقنيات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، يستكشف الكتاب المعاصرون أيضًا كيفية تأثير هذه الابتكارات على الهوية. تدرس أعمال مثل "Super Sad True Love Story" بقلم غاري شتينغارت Shteyngart تأثيرات التكنولوجيا على العلاقات الإنسانية والهوية الشخصية في مجتمع شديد الترابط.
◄ التكنولوجيا والإنسانية:
وهو ما يقودنا إلى الوقوف عند القيم التي يوفرها الأدب المعاصر في عصر التكنولوجيا وتجاوز الإنسان. إذْ يهتم المؤلفون المعاصرون بتأثير التكنولوجيا على حياة الإنسان، ويتناولون موضوعات مثل التجريد من الإنسانية، والمراقبة، والذكاء الاصطناعي. يدرس كتاب مثل ويليام جيبسون Gibson وديف إيجرز Eggers الآثار الأخلاقية والاجتماعية للتكنولوجيا الحديثة. كما يدرس الأدب البائس والمستقبلي إمكانيات ومخاطر المستقبل، ويحذر من التجاوزات التقانية والأزمات البيئية8. تشجع هذه القصص على التفكير في الخيارات المجتمعية وعواقبها طويلة المدى.
تبرز مجموعة من المؤلفات الأدبية المعاصرة المعضلات الأخلاقية المعقدة. مثلما يتناوله العمل السردي "لا تسمح لي بالرحيل" للياباني كازيو إشيغورو Ishiguro، الذي يدرس الآثار الأخلاقية للاستنساخ البشري، ويطرح أسئلة حول معنى أن تكون إنسانًا وحدود التلاعب الجيني. دونما التغافل عما تفعله التكنولوجيا بشكل عميق من تأثير على الهوية الشخصية والجماعية. مثلما يكتبه غاري شتينغارت Shteyngart في إحدى أبرز أعماله، حيث يسلط الضوء على تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والمراقبة الرقمية على الهوية الفردية، ضمن ما يصطلح عليه بيونغ تشول هان بـ"مجتمع الشفافية"9، حيث يفقد السرد قيمته ويصير دوماً إيجابياً لا سلبية [ملمحه النقدي] فيه، وهو ما يوضح كيف تعيد التقنيات الحديثة تعريف الطريقة التي ينظر بها الناس إلى أنفسهم ويتواصلون مع بعضهم البعض10. وفي المقابل تسلط مجموعة من المنجزات الأدبية والسردية الضوء على مرونة الإنسان في مواجهة التغير التكنولوجي السريع. في "المحطة الحادية عشرة" للكاتبة الكندية إميلي سانت جون ماندل St. John Mandel، يتم تعويض الوباء العالمي وانهيار الحضارة من خلال قدرة الإنسان على التكيف وإيجاد معان جديدة وإعادة بناء المجتمعات.
◄ النقد البيئي والأخلاق البيئية:
يدرس النقد والأدب البيئييْن العلاقة بين الأدب والبيئة، ويطرحان أسئلة أخلاقية حول مسؤولية الإنسان تجاه الطبيعة. وهذا المنظور حاضر بشكل متزايد في الأدب (وحتى الفن) المعاصر. ومثال على ذلك قصة "The Overstory" لريتشارد باورز Powers التي تعدّ تمظهراً للحياة البشرية المترابطة مع الأشجار والطبيعة، وتطرح أسئلة عميقة حول الأخلاقيات البيئية والحاجة إلى الحفاظ على نظامنا البيئي. حيث تتحدى النظرية النقدية البيئية المركزية البشرية، وهي فكرة أن البشر هم مركز الكون وأن الطبيعة موجودة في المقام الأول لاستخدامهم.
وعموماً ما تؤكد الأعمال المعاصرة على الترابط بين البشر والطبيعة. وهي توضح كيف تؤثر تصرفات الإنسان على النظم البيئية، وبالتالي، كيف تؤثر التغيرات البيئية على المجتمعات البشرية. على سبيل المثال، يُبرز، على سبيل التمثيل، كتاب "Flight Behavior" لمؤلفته الأمريكية باربرا كينغسلفر Kingsolver آثار تغير المناخ على المجتمعات الريفية ومجموعات الفراشات الملكية. وتتناول الأدبيات المعاصرة بشكل إجمالي، عواقب تغير المناخ بالتفصيل، وتستكشف الآثار البيئية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية. حيث نقرأ في "سكين الماء" بقلم الأمريكي باولو باتشيجالوبي Bacigalupi عالماً يتخيّل ويجسّد المستقبل القريب حيث تتسبب ندرة المياه في الصراعات والهجرة الجماعية، مما يسلط الضوء على الأزمات البيئية والإنسانية. بينما تحذر الرواية الديستوبية "أوريكس وكريك" لمؤلفتها الكندية مارغريت أتوود Atwood من مخاطر التلاعب الجيني وعدم المسؤولية البيئية، بينما تستكشف موضوعات الأخلاق والبقاء. إذ تستخدم الكاتبة موضوعات بيئية للتشكيك في مسؤولية الإنسان عن تدمير الكوكب، ولكن أيضًا لتخيل حلول طوباوية محتملة11. يعكس هذا النوع من الأدبيات المنخرطة في المجال البيئي وعيًا متزايدًا بأزمة المناخ الحالية، مع استكشاف نماذج بديلة للتفاعلات البشرية مع الطبيعة. فرع من فروع النقد البيئي الذي يسعى إلى تحليل ليس فقط التمثيلات الأدبية للطبيعة، ولكن أيضًا الطريقة التي تعكس بها اللغة نفسها العالم الطبيعي وتتفاعل معه. ووفقاً له، فإن الشعرية البيئية تذهب إلى ما هو أبعد من الوصف البسيط للطبيعة لتتساءل عن الطريقة التي يمكن بها للكلمات والأشكال الأدبية أن تعمل كمظاهر للبيئة.
خاتمة:
تتعدد إذن، تلك القيم التي يتيحها لنا الأدب المعاصر، في تفاعل الكبير مع متغيرات العالم المحتدمة والمتسارعة، والتي لا تفتأ تعيد تشكيل معالمه بشكل مخيف ومشحون باحتمالات سوداوية أحياناً.. ولا يتوارى أدباء معاصرون خلف خطابات التجديد اللغوي والألاعيب الجمالية، التي تقبر دور الأديب في التفاعل إيجاباً ونقداً مع محيطه وعالمه المعاصر. فإلى جانب تلك القيم الأدبية مثل التفكيك والتشكيك والارتياب وغياب اليقين وموت الحقيقة وبروز مفاهيم الشتات والتشظي والانفصال والانقطاع والتواصل الخفي والجذموري... يعمل الأدباء المعارون على الإعلاء من القيم الفردية والتعددية والهوياتية المحلية والعرقية، والانتصار لثقافات الهامش في مواجهة التسلط المركزي، وإبراز مخاطر التقنية التي تستحوذ يوماً بعد يوم على مجمل تفاصيل حياتنا، ويقفون بجانب البيئة في مواجهة الشر المحدق بها. فألاعيب اللغة والتجاوز الأدبي وكسر جدران وأسوار السرد الكلاسيكي والحديث، لم يمنع هؤلاء الأدباء عن الخوض في قضايا الراهن، والسمو بالقيم التي تخدم الإنسان في ظل عالم مُعَوْلم ومهدد بالكارثة.
الهوامش:
1. إدريس كثير، بديع الإنسان الجمالي، منشورات مقاربات، ط. الأولي، 2018. ص. 113.
2. Emmanuel Levinas, en découvrant l'existence avec Husserl et Heidegger, éd. Librairie Philosophique, Paris, 1967, p. 199
3. Nelson Goodman, Langages de l’art, trad. Jacques Morizot, éd. Jacqueline Chambon, Nîmes, 1990.
4. يقول إيهاب حسن: "عندما يتلطف الكاتب بوضع كلمات على الورق، فهو ميال لتصوّر ما ضد الأدب، إما بحدث صرف أو بلعب غير ذي جدوى". أنظر كتاب: إيهاب حسن، منعطف ما بعد الحداثة، ترجمة محمد عيد إبراهيم، كتاب الهلال-دار الهلال، فبراير 2016، ص. 29.
5. جان بوريار، المصطنَع والاصطناع، ترجمة جوزيف عبد الله، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008، ص. 153.
6. مشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، دار التنوير، بيروت، 2007، ص. 6.
7. غير أن "القول بلانهاية النص، [مثلما يخبرنا إيكو] لا يعني أن كلّ تأويل هو بالضرورة تأويل جيد". أنظر: أمبرتو إيكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط. 3، 2016، ص. 18.
8. يكتب عمر العسري: "إن الكتابة المعاصرة يجب أن تسائل تغيير الممكن، وهو استعداد كتابي لمرحلة مراجعة الشاهد الواقعي، والنموذج الوجودي مراجعة كلية، تلتفت إلى المعرفة والتقنية والتجريب، إلى حدود حركة ارتداد هدم الحدود الفاصلة بين الأزمنة والأمكنة، وكذا إعلاء الإحساس بالنسق السردي العام كضرب من الترسيم الذي يتخذ له شاكلة هندسية تفتح أفق الكتابة القصصية على اللانهائي من العلوم والفنون المختلفة". أنظر: عمر العسري، القصة القصيرة المعاصرة، الوعي والرؤية والتقنية، دار خطوط وظلال، الأردن، 2021، ص. 48.
9. بيونغ تشول هان، مجتمع الشفافية، ترجمة بدر الدين مصطفى، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط، 2019، ص. 64-65.
10. أو مثلما يكتب مارك دوغان وكريستوف لابي: "يشبه أسرى الداتا عصافير تلتقط، بهوس يصل حد الألم، فتات الزمن مدفوعة بوهم القدرة على إيقاف الكرونوس". أنظر كتابهما: الإنسان العاري، الدكتاتورية الخفية للرقمنة، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، 2020، ص. 43.
11. Alain Suberchicot - Littérature américaine et écologie, éd. L’Harmattan, Paris, 2002, p. 89