فـي ذكرى لو شيون Lu Xun!

مويـان: لو شيون شخص يعيش للأبد

ترجمة: مي ممدوح

 نقلاً عن: https://mp.weixin.qq.com/s/lcZnqu8o2uHYsTJd72lT1Q 


تحل اليوم الذكرى الـ84 لوفاة الكاتب والمفكر الشهير لو شيون Lu Xun. وفي نفس اليوم من عام 2005 ألقى مو يان Mo Yan خطاباً بعنوان: "حديث عن ستريندبرغ" في ندوة ستريندبرغ بجامعة بكين.
 

قال مو يان: "يصادف اليوم الذكرى السنوية لوفاة لو شيون، وها نحن هنا نعقد اجتماعاً، بما يعني أننا لا نحيي ذكرى ستريندبرغ فحسب، بل كذلك نحيي ذكرى لو شيون... لقد داخلني شعور قبل سنوات طوال بأن هذين الكاتبين تربطهما علاقة متناغمة بين الصوت وصداه.. لا يتمتع لو شيون وستريندبرغ بمكانة أدبية متساوية في الصين والسويد فحسب، بل يشتركان أيضاً في الروح ذاتها".


 

حديث عن ستريندبرغ Strindberg

خطاب بندوة ستريندبرج بجامعة بكين (19 أكتوبر 2005)
 

إنه لشرف عظيم بالنسبة لي أن أتمكن من المشاركة في مثل هذا الاجتماع، وأن تتاح لي الفرصة للحديث. ومن أجل التحضير لهذا الخطاب، فقد بحثت في الانترنت، فوجدت ما يربو على أربعين ألف معلومة عن ستريندبرغ.. وكثرة المعلومات المتعلقة به تجعل الكثير من الكتاب المشهورين حالياً عاجزين عن اللحاق به، ويمكن ملاحظة أن "شعلة السويد الأكثر تأججاً"، والمتمثلة في ستريندبرغ، تتوهج نيرانها في الصين بالفعل.

لقد طالعت مرات عديدة في الانترنت وفي الصحف قول سفير مملكة السويد بالصين السيد بوروي ليونغرين (Börje Ljunggren) إن: "ستريندبرغ هو لو شيون السويد" وهذا التشبيه مقنع للغاية، مما يجعل أولئك الذين ليسوا على دراية بأعمال ستريندبرغ، يدركون جيداً مكانته الأدبية في السويد، وكذلك مكانته في الأنماط الكبرى للأدب العالمي.

أنا لست خبيراً في دراسات لو شيون، ولا في دراسات ستريندبرغ كذلك، غير أنني وقبل سنوات طوال، داخلني شعور بأن هذين الكاتبين تربطهما علاقة قوية متناغمة بين الصوت والصدى.

ووفقاً لمذكرات لو شيون، فقد اشترى في أكتوبر 1927 أعمال ستريندبرغ مثل: "مسرحية الحلم"، "الطريق إلى دمشق"، "مرافعة مجنون"، "مزارعو الجزيرة"، "العلم الأسود" وغيرها. لا يمكننا القطع بما إذا كان إبداع لو شيون قد تأثر بستريندبرغ من عدمه، غير أن لو شيون كان على دراية كبيرة بأعمال ستريندبرغ، وهذا أمر مؤكد.

تُبرز أعمال لو شيون وستريندبرغ نوعاً من الروح القتالية التي لا تقهر ولا تساوم قوى الظلام. فكل واحد منهما مُجِد يمكنه النفاذ إلى أغوار الروح البشرية بعين ثاقبة، وكلاهما يمتلك روحاً مضطربة لا تهدأ، وهما قويان يمكن لصيحاتهما أن تُسمع الأصم وتوقظ الغافل.

لقد تحديا معاً الأشكال الفنية القديمة وأبدعا أشكالاً فنية جديدة.. وهما أستاذان قد أسهما في إثراء لغة أمتهما، وهما حداثيان ورائدان حقيقيان قد تجاوزا زمانهما.

وما تزال الكثير من المشكلات التي أثيرت في أعمالهما هي نفسها التي نواجهها الآن. وما يزال العمل الذي شرعا فيه آنذاك غير مكتمل حتى اليوم، وما تزال أعمالهما تحمل بين طياتها معان واقعية قوية.

عندما قدم السفير السويدي لدى الصين السيد بوروي ليونغرين ستريندبرغ للقراء الصينيين، قال: "إن ستريندبرغ هو لو شيون السويد"، أعتقد أن السفير الصيني لدى السويد يمكنه القول إن: "لو شيون هو ستريندبرغ الصين".

لقد قرأت رواية ستريندبرغ "الغرفة الحمراء" في ثمانينيات القرن الماضي، وشعرت حينها أن روايته مملة نسبياً، حيث تتشابه بعض الشيء في بنيتها مع الرواية الكلاسيكية الصينية "العلماء"، ومن ثم، لم تضم بين دفتيها ما يثير الإعجاب.. لم يمض الكثير من الوقت حتى شعرت بما يُطبق عليه من عمق وعظمة، تجلى بعدما قرأت مسرحية "الأب"، و"الآنسة جولي". وبالعودة للوراء وقراءة الغرفة الحمراء ثانية، طالعت نوعاً من القوة الروحية التي تختلف عنها تماماً في الروايات التقليدية، حيث لا تجتذب القارئ من خلال الحبكة، بل تحكم قبضتها عليه من خلال عمق ودقة التحليل العقلي.

أخيراً قرأت "الأعمال المجمعة لستريندبرغ" بمجلداتها الخمسة، والتي ترجمها مترجمنا المميز السيد لي تشي يي، ونشرتها دار نشر أدب الشعب. كان مؤلماً للغاية أن أحترق من هذه "الشعلة المتأججة"؛ وبطبيعة الحال، ألمَّ الحرق بروحي لا بجسدي.

فلو عاش ستريندبرغ المولود عام 1849 لليوم لبلغ 156 عاماً. وبالحساب قياسًا على جيله في العشرين من العمر، فينبغي أن يكون جد جدي، فهو سلف في حقيقة الأمر، لكن عندما قرأته لم يداخلني على الإطلاق شعور بأنني في مواجهة الأسلاف. شعرت أنه من أبناء جيلي.. يذكرني ألمه وغضبه بألمي وغضبي، وبعبارة أخرى، أثارت أعماله صدى قوياً يتردد بأعماقي.

أحسسته خليطاً من التناقضات الهادرة الملأى بالدوامات، فهو ليس شعلة من النيران المتأججة فحسب، بل نهراً عظيماً تتدفق به موجات الماء العكر، فتنطوي روحه على العديد من الأضداد، والتي تتحاك وتتصادم، وتتفكك وتتآلف، مثل نهر يتدافع فيه الطمي والحصى، والأعشاب، والأسماك والروبيان وجيف الحيوانات، ومثل قفص حديدي في حديقة الحيوانات يحبس فيه الأسود والنمور، والذئاب الشريرة برفقة الأغنام. ودائماً ما تتوق تلك التيارات المتدافعة لاختراق السدود على النهر الكبير، ودائماً ما تطمح تلك الحيوانات لتحطيم أغلال القفص الحديدي، بينما صارت الكتابة هي القناة الوحيدة لتصريف هذه الطاقة الضخمة. لذا، فأعماله تمثل صرخات حقيقية تنطلق من أغوار الروح.

شعرت أنه كاتب لا يمتلك الجرأة على استنطاق الآخرين بتعذيب أرواحهم فحسب، بل يجرؤ كذلك في الوقت ذاته على تعذيب روحه واستنطاقها. فقد أحرقت النيران المنبعثة من شعلته الكثيرين، بينما يبقى هو ذاته الأكثر تعرضاً للاحتراق.. خالجني شعور دونما سبب بأن ستريندبرغ يرتدي لباساً أسود، وله بشرة حالكة شبيهة بالفحم، تشبه شخصية يان تشي، أو تُشبّه بقصة "صقل السيوف".

قال يان تشي أو تشه: "ثمة الكثير من الندوب بروحي... أنا بالفعل أكره نفسي". وهذا الـ"يان تشي أو تشه" هو تصوير لحالة لو شيون المزاجية آنذاك. أعتقد أن الحالة المزاجية لستريندبرغ في سنواته الأخيرة كانت مشابهة للغاية لحالة لو شيون المزاجية في سنواته الأخيرة: فقد عانى أشد المعاناة من الافتراء والهجوم، حارب أعداءه بموقف "لن أغفر شيئاً"، وبينما كان يكن الكراهية لأعدائه، كان يكره نفسه.. وفي بعض الأحيان، تجاوزت كراهيته لذاته كراهية لو شيون لذاته.

غالباً ما طرح ستريندبرغ الحجة القائلة بأن: "معاناة الجلاد أكثر إيلاماً من الضحية"، فأعماله تلك والتي يزعم أنها: "تشريح للأجساد الحية"، ليست تشريحاً للآخرين بقدر ما هي تشريح لذاته. قبل أن أقرأ ستريندبرغ بشكل أكثر شمولاً، تعرضت روايتي "الموت على خازوق خشب الصندل"، والتي تصور الجلادين والتعذيب الوحشي لانتقادات من قبل كثيرين، فقد قالوا إنني أفتقر لـ"روح التعاطف"، وإنني "أُبرز القسوة"، وما كنت لأتقبل مثل هذا النقد، ذلك أنني أشعر بتعاطفي الشديد، فأنا أرى أن التستر على القسوة هو القسوة الحقيقية، غير أنني لم أعثر على سلاح يمكنني من دحض هذه الانتقادات.

والآن، وجدت السلاح لدى ستريندبرغ هنا، متمثلاً في مقولته: "معاناة الجلاد أكثر إيلاماً من الضحية"، فالجلاد ومن أجل تخفيف معاناته لا بد من أن يجد طريقة لخلاصه الروحي. في سنواته الأخيرة، غالباً ما حلم ستريندبرغ بأنه قد وُضع على طاولة التشريح في كلية الطب بجامعة أوبسالا وتم تشريحه، ويعد هذا تحديداً رمزاً لشجاعته في انتقاد نفسه.

أعتقد أنه كاتب ينطلق من ذاته، متخذاً من تجربته الشخصية مصدراً للإبداع.. فثمة كثير من الأشياء المعتلة في طبيعته، ذلك أن حياته الشخصية كانت تعج بالتعقيدات، والتي تمخض عنها ثراء هائل بموارده الإبداعية، وبطبيعة الحال انطوت تجربته الشخصية على طاقة فنية هائلة؛ ولأن حياته الشخصية تتشابك مع الحياة الاجتماعية.. ولأن تناقضاته الشخصية وآلامه تتوافق وتناقضات العصر وآلامه، لذا، فإن أعماله -حتى تلك التي تحمل الطابع القوي للسير الذاتية- تخترق الحيز الضيق للتجربة الشخصية وتكتسب معنىً اجتماعياً عالمياً، فصراخه المنطلق من أعماق روحه، صار هو صراخ الناس والصراخ من أجلهم كذلك.

أعتقد أن ستريندبرغ كاتب معتاد على أحلام اليقظة، فهو غالباً ما يخلط بين الواقع والأحلام، كما يخلط بين شخصيات أعماله وذاته، فكما قال: "يبدو أنني أسير في حلم، ويبدو أن الخيال ينصهر في الحياة".

لذلك؛ كتب السير الذاتية على هيئة روايات، وكتب الروايات والمسرحيات كسير ذاتية. حاكت بعض من أعماله حياته الشخصية، بينما غدت حياته في بعض الأحيان مماثلة لأعماله. صحيح أن الكثير من الناس قد آلموه، إلا أنني أشعر أنه قد آلم نفسه بدرجة أعمق مما آلمه الآخرون. ومثل هذا الشخص، سيكون من المزعج حقاً ألا يكون كاتباً.

كثير ممن لم يقرؤوا أعمال ستريندبرغ يعرفون أنه شخص كاره للنساء.. بعدما انتهيت من قراءة أعماله المجمعة، داخلني شعور عميق بأن تلك النتيجة عارية من الصحة، فقد شعرت أنه شخص محب للنساء بشدة، ومقدس لهن ومعتمد عليهن كثيراً، لقد طالعت رسائل الحب التي كتبها للنساء، يا إلهي! إنه حقاً الكاتب السويدي الذي يمتلك أكبر حصيلة من المفردات، يبدو وكأنه قد استنفذ كل الكلمات المعسولة في العالم. كانت رسائله ملأى بالمشاعر الحقيقية الملتهبة، والتي لم تكن بالتأكيد بغية اصطياد النساء بمعسول الكلام، أعتقد أنه مهما كانت المرأة نبيلة وغير مبالية، فإنها سترفع راية الاستسلام في النهاية عندما تلتقي بخاطب مثل ستريندبرغ.

لقد استخدم بالفعل أقذع لغة لسب المرأة التي كان قد أثنى عليها فيما مضى بأعذب لغة، لكنني أعتقد أن هذا لا يمكن أن يكون دليلاً على كراهيته للنساء، تماماً مثلما لا يمكننا أن نستنتج أن ذَم شخص للطعام يعني أنه كاره له. فالذواق حتماً هو الشخص الأكثر انتقائية بشأن الطعام.

أعتقد أنه شخص متطرف في مثاليته، فهو يرغب في أن تكون المرأة كاملة دونما نواقص، لكن النساء في الحياة الزوجية المألوفة المبتذلة لسن محبوبات مثلما هن في الحب، فستريندبرغ عاطفي متقد المشاعر في الحب، مجنون موتور في الزواج.. أَخَالُ أن صورة النساء في روايات ومسرحيات ستريندبرغ كانت ستتغير تماماً لو لم يتزوج وعاش مغرماً فحسب.. وبهذه الطريقة، ما كان ليحمل سمعة كراهية النساء السيئة، بل ربما غدا أنموذجاً للهيام بالنساء.

أعتقد كذلك أن أعظم أعمال ستريندبرغ تتمثل في حياته كلها: حبه، زواجه، كفاحه، مقاومته، مجده، عاره، كتاباته، أبحاثه، ثراؤه قصير العمر، تشرده البائس، أنصاره غير المحدودين، أتباعه الذين تنكروا له... كل هذه الأمور شكلت عملاً عظيماً شبيهاً بالسيمفونية. وهي ليست "دراما تنسج خيوطها الأحلام" فحسب، بل هي "سوناتا تعزفها الأشباح"، والأكثر من ذلك أنها تاريخ روح ثرية لا مثيل لها.

كتب الشاعر الصيني الشهير تسانغ كه جيا تخليداً لذكرى لو شيون: "ثمة شخص يموت، بينما يبقى حياً للأبد، وثمة شخص على قيد الحياة، بينما قد مات منذ زمن بعيد". يستحق ستريندبرغ مثل هذا التأبين عن جدارة.
وعلى الرغم من وفاة لو شيون وستريندبرغ، إلا أنهما سيبقيان أبداً.. سيعيشان في أعمالهما، مما يُشعر القراء جيلاً بعد جيل بحياتهما.

تم تضمين المقال كتاب "كلنا أطفال مستبدلون" بـ(المجموعة الكاملة لخطابات مويان).​
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها