يعتبر التعليم -دون شك- أحد أهم ميكانيزمات الوعي والمعرفة، وإن كنا لا نزعم إطلاقاً أنه بإمكاننا الإحاطة بجميع العلوم والفنون، إلا أنه من الضروري لكي نواكب ما يتم إنتاجه ولو بشكل مسحي، من أن ننخرط في التعلم المستمر، وأن لا نتوقف أبداً عن التعلم، وفي هذا الصدد سنحاول توضيح هل الأمر يتعلق بترف وكمالية من الكماليات؛ أم أن الأمر يتعلق بالواجب الذي لا محيد عنه من أجل مواكبة زمن تدفق المعلومات وعصر الرقمية الذي يمطر عيلنا كل يوم بملايين؛ إن لم نقل ملايير المعلومات الجديدة في شكل كتب أو مجلات، أو مقالات منثورة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أكدت بعض الدراسات أن المعرفة الإنسانية تتضاعف كل يوم تقريباً، أو في أقل من يوم واحد بسبب كثرة ما ينشر عبر البوبات الرقمية التي تعمل على نشر كل شيء، والتي رغم عدم مصداقيتها وعلميتها في كثير من الأحيان، إلا أنها تدعونا إلى الإلمام بها.

المعرفة والتجدد المستمر
من بين الأسباب الرئيسة التي تدعو إلى التعلم مدى الحياة، والتكوين المستمر، أنه لا بد من مواكبة المستجدات التي تتضاعف كما أسلفنا كل يوم تقريباً، وأن الإنسان إذا لم يواكب ولو جزئياً ما ينشر، أو على الأقل يعرف رؤوس الأقلام حول ما استجد في حقله المعرفي، وفي تخصصه على الأقل، لا يمكن أن نعتبره حياً بالمفهوم العميق للكلمة، أي متجدداً، وسيذهب ضحية الجهل؛ أي أنه ببساطة سيكون تقليدياً، أي إنساناً من عصر آخر غير العصر الذي نعيشه اليوم، وهو ما يدعو إلى التعلم المستمر وإلى التكوين الدائم.
التعليم حياة
عندما أتعلم فأنا أحيا من جديد، من خلال تجديد الصلة بالعلم، ومن خلال العمل على مواكبة المستجدات وتجديد المعلومات؛ أي أن الإنسان بالعلم خاصة منه العلم النافع، ومن خلال القراءة وغيرها يمكنه أن يتعلم الجديد عبر الاطلاع على ماجد في عالم النشر وفي عالم المعرفة فالعلوم نفسها تتجدد، ومن خلال قراءة الإنسان حتى في ما يرتبط بالقراءة الحرة في الآداب والسير؛ فإنه يقرأ وهو ما جعل توفيق الحكيم يعتبر أن القراءة تجعل الإنسان يعيش حياة الآخرين؛ أي حيوات الكتاب والعلماء والمبدعين، من خلال التواصل الدائم مع آثارهم العلمية والأدبية والفنية.

تجدد العلوم وضرورة المواكبة
الحق أن العلوم تتجدد وتنقسم على ذاتها، بشكل دائم، كما أن النظريات العلمية والكشوفات العلمية، يفند بعضها البعض أحياناً، فالحاصل عل الدكتوراه مثلاً في فيزياء نيوتن قبل نسبية آينشتاين، سيدرك من خلال قراءته لهذا الأخير خطأ نظرية نيوتن، والذي جايل آينشتاين وما يزال بيننا، سيدرك أننا أصبحنا نعيش نسبية النسبية ذاتها، وأن الحقائق التي كانت بالأمس كذلك، أصبحت مجالاً للنقد والتغيير والتجدد اليوم.
لقد انقسمت العلوم الإنسانية مثلاً على نفسها إلى علم جزئية متعددة، ولنأخذ علم الاجتماع مثلا، فبغض النظر عن التجديد الذي حدث لهذا العلم انطلاقاً من دوركهايم وماكس فيبر مع الاختلاف بينهما، وتطوره مع من جاؤوا بعدهما، إلا أننا اليوم لم نعد نتحدث عن علم الاجتماع العام، أو نشتغل به في دراسة الظواهر الاجتماعية على اختلافها؛ وإنما انتقلنا إلى التخصص، بحيث إن الظاهرة الاجتماعية الواحدة يمكن أن نتناولها من خلال تخصصات متعددة من داخل علم الاجتماع نفسه، وبالمنهج نفسه، فنتناولها من جانب علم الاجتماع السياسي، أو علم الاجتماع الثقافي، أو علم الاجتماع النفسي، أو الفني، أو الآلي، بحسب طبيعة الظاهرة، وقس على ذلك جميع العلوم الأخرى؛ ففي اللسانيات مثلاً لا قيمة لقراءة نظرية تشومسكي اللسانية مثلاً خارج إطارها التاريخي، ولذلك فإن تشومسكي 1956 يختلف تماماً عن تشومسكي 1964، ويختلف عنه في الثمانينيات؛ وعلى هذا النحو انتقلت اللسانيات من إطارها التوليدي التحويلي إلى اللسانيات الوظيفية.
التعلم المستمر تجديد للشباب
إن الإنسان الكهل الذي يدرس والشيخ الذي يدرس وهو يتلقى المعارف من الكبار ومن المدرسين الشباب؛ ويقعد في مقعده الدراسي مع الشباب ومع المراهقين أحياناً، لا بد أنه يعيش نفسياً زمناً مختلفاً، فتغدو معه حياته إلى شبابها؛ والعقل الذي يتفكر في العلوم الجديدة لا بد أنه يعود إلى شبابه؛ والقلب الذي يتنفس جمال الأشياء أيضاً لا بد أنه يعود إلى نضارته وشبابه في تأمله لما يقرأ ويدرس، وكذا هو الحال لجميع الحواس الأخرى، فالتعليم يعيد إلى الإنسان شبابه سواء أكان هذا التعلم رسمياً أم كان تعلماً ذاتياً؛ والعكس صحيح، أيضاً، فالذي يتوقف عن التعلم إنما يشيخ، بينما يبقى الإنسان المتعلم شاباً في وضعه كمتعلم مثل الأطفال والشباب.
كيف نحقق هذه الغاية؟
إن الوقوف على قيمة العلم باعتباره ضرورة حياتية، ومن ثمة فلا بد لمن كان مقبلاً على الحياة راغباً في تحسين مستواه العلمي، طامحاً إلى التفوق من الانخراط في التكوين المستمر، وفي التعلم الذاتي، وفي القراءة الدائمة لأمهات الكتب، كما أن هذا الطريق في الحقيقة ليس سهلاً هيناً، وليس هبة وإنما يتطلب مكابدة وجهداً، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "إن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك"، بمعنى آخر على الإنسان أن يتفرغ للعلم والتعلم تفرغاً نفسياً من خلال الارتباط بالمعرفة والعلم.
ولا يكفي للإرادة الشخصية للإنسان أن تحقق هذه الغاية، بل على الدولة أيضاً أن تشجع على التعلم والتكوين، من خلال إجبارية التكوين وتوفير الظروف المناسبة لذلك من خلال تيسير التكوين المستمر، خاصة في المجالات الاجتماعية كما هو الحال للصحة والتعليم، وفي المهام ذات الارتباط بالصناعة والتكنولوجيا؛ وذلك لما لهذا التكوين المستمر من عائدات إيجابية على الدولة أولاً؛ كما هو الحال لليابان مثلاً، والدول الغربية المتقدمة التي جعلت التعليم في ناصية اهتمامها.
لا بد من فتح الباب أمام الموظفين خاصة في القطاعات الاجتماعية للتعليم والتكوين، حيث نرى في الدول العربية صعوبة الولوج إلى الدراسات العليا، والذي تعزوه الدولة في الغالب إلى ضعف البنية التحتية للجامعة، وندرة الموارد البشرية، وذلك راجع بالأساس إلى استمرار النظرة الدونية للجامعة والتعليم، باعتباره قطاعاً غير منتج رغم أنه مدخل التنمية وطريق الإنتاج.
فضلاً عن فتح أبواب الجامعة، لا بد من الاهتمام بالتكوين المستمر من خلال التكوين في المستجدات للموظفين في مختلف الميادين، من أجل التعرف على المستجدات، وفي الوقت نفسه من أجل تحقيق الجودة على مستوى العمل.

تكوين المدرسين
لعل المدرسين الذين هم محرك التعليم هم أولى الموظفين بالتكوين المستمر، سواء كانوا في المدارس أو الجامعات، فكم من مدرس في الجامعة توقف به قطار التعلم في التسعينيات من القرن الماضي، وكم من مدرس في الثانوية أو الجامعة لا يعرف شيئاً مما استجد في مادته، وكم من مدرس في الثانوية أو الجامعة ما يزال إلى اليوم يحرم على الطلبة العودة إلى المراجع الإلكترونية، أو إلى المقالات الرقمية؛ لأنه في الواقع لا يعرف التعامل مع الرقمية؛ وكم فضحت أزمة كورونا اليوم المدرسين في الجامعات حول ضعف انخراطهم في التعليم عن بعد، فضلاً عن تواضعهم المعرفي والعلمي حتى في مجال تخصصهم من خلال متابعة إنجازاتهم عبر البوابات التعليمية الرقمية؛ وفي في هذا الصدد يبدو أنه لا بد من أن تعمل الدولة على تشجيع المدرسين على التسجيل في الجامعات، من أجل التكوين المستمر في الدراسات العليا لتعميق التخصص، فضلاً عن تكوينهم من طرف متخصصين في الرقمية والتكنولوجيات العالية.
تعميم التكوين الجامعي في الدراسات العليا
لقد دأبت الدولة للأسف الشديد على إغلاق أبواب الجامعات في وجه الموظفين، وقد كان لذلك آثار سلبية على الموظفين خاصة في قطاع التعليم، حيث كرست العملية الجهل من خلال حرمان الموظفين من التعلم، ومن نشر الوعي الذي تخشاه الدول غير الديمقراطية، التي لا تدري للأسف الشديد أن الجهل هو الخطر الذي نعيش اليوم في العالم العربي ويلاته.
أهمية التعلم الذاتي
لا يكون التعلم فقط من خلال التربية النظامية، بل إن المدرسة تبقى مجرد وسيلة، فاكتساب العلم يتم بشكل مواز من خلال التعلم الذاتي، والذي لا بد منه لضمان هذا النوع من التكوين المستمر الذي يجعل الإنسان يمتطي صهوة العلم ليصل إلى مبتغاه؛ وهذه العملية أيضاً هي بمثابة كفاية من الكفايات التي يجب أن يتربى عليها المتعلم في المدرسة من خلال التشجيع الدائم على القراءة والبحث والتعلم الذاتي.
التعلم عن بعد خاصية العصر الرقمي
يمكن أن تحدث عن نافذة أخرى كمدخل للتكوين والتعلم الدائمين والمستمرين، وهي التعلم عن بعد الذي اهتدت إليه عدد من الجامعات الغربية، مثل السوربون التي تفتح الباب دائماً أمام الطلبة من مختلف البلدان للتعلم، كما اهتدت إليه المؤسسات والمعاهد الخاصة في كثير من الدول الغربية، والذي يستطيع من خلاله الطالب أن يتعلم عن بعد بمقابل رمزي، وهو وسيلة تكوين ناجحة تمكن الموظف والعامل عموماً من ممارسة عمله في ظروف عادية، والتعلم من عين المكان، وهو الصيغة التي صارت اليوم تعتمد كبديل للتعلم المدرسي والجامعي في جل دول العالم، مع انتشار وباء كورونا.

والواقع أن التعامل مع التعليم عن بعد في تباين بين الدول التي استعملت هذه الصيغة من قبل، والتي اصطدمت بواقع توقف الدراسة بسبب الخوف من انتشار الوباء؛ وهو ما يعني أن التكوين والتعليم عن بعد يمكن أن يشكل بديلاً أساساً في المستقبل القريب، وقد أصبحت العمليات الجراحية تجرى عن بعد، كما أن الصفقات التجارية والمضاربات المالية صارت تتم عن بعد.
تأسيساً على ما سبق؛ يبقى التكوين المستمر ضرورة أساسية، وليس مجرد كمالية من الكماليات؛ إنه البوابة التي يمكن بها أن نحقق التفوق الدائم للمهنة التي نزاولها، كما أنه وسيلة ارتقاء بمهارات الإنسان الحياتية، ومدخل من مداخل تجديد أنفسنا والسمو بأرواحنا نحو القمم.