تصحيح الوعي عن طريق الثقافة

الفلكلور كنسق هيمني عند غرامشي

عارف عادل مرشد

يُعتبر مفهوم الهيمنة ("Cultural "Hegemony) مركزياً في الدراسات الثقافية والمُخصصة للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci) )1891 – 1937)، فقد ارتبط التداول العام لمفهوم الهيمنة في السياق العريض للعلوم الإنسانية باسمه، حتى باتا كأنهما صنوان. وعلى الرغم من أن إضافة غرامشي لمفهوم الهيمنة أمر لا يمكن إغفاله، إلا أنه ينبغي الأخذ في الحسبان أن الهيمنة كأداة استراتيجية للتحليل والعمل المهتم بآليات التغيير السياسي لها تاريخ يسبق غرامشي، كما أنها لها تطورات جذرية، بالمعنى المنهجي وليس الزمني فقط، فيما بعد غرامشي.

يستخدم غرامشي مفهوم الهيمنة للإشارة إلى حالة لا تكون فيها طبقة مسيطرة، بالتحالف مع طبقة أخرى، مجرد حاكمة لمجتمع ما بل تسعى لكسب موافقة المجموعات التابعة في المجتمع، من خلال ممارسة "القيادة الفكرية والأخلاقية".
فالهيمنة بالنسبة لغرامشي مفهوم سياسي طوره ) مع الأخذ بالاعتبار الطبيعة الاستغلالية والقمعية للرأسمالية) لتفسير غياب الثورات الاجتماعية في الديمقراطيات الغربية الرأسمالية.

فهو يرى أن أي طبقة تسيطر على السلطة السياسية في أي مجتمع من المجتمعات، لا تكتفي بأن تعتمد في سلطتها على قهر الطبقات الأخرى؛ وإنما تتطلع إلى أن يتقبل أفراد الطبقات الأخرى طواعية حكم هذه الطبقة، وعندما يتحقق هذا القبول فإن أساس حكم هذه الطبقة يتحول من السيطرة إلى الهيمنة. وحتى يتحقق ذلك فإن الشرط الضروري هو أن تسود نظرة هذه الطبقة إلى المجتمع والدولة والعالم بين أفراد الطبقات الأخرى، فتصبح رؤيتهم واحدة للعالم. والذي يحقق هذه الهيمنة هم مثقفو هذه الطبقة الساعية إلى الهيمنة، فالدور الذي يقوم به هؤلاء المثقفون هو بمثابة التسأسيس لهذه الطبقة الساعية إلى الهيمنة. بل ولما كان هذا الدور ضرورياً لمثل هذه الطبقة؛ فإن ارتباطها بالمثقفين هو ارتباط عضوي ولازم. ومن ثم يُطلق غرامشي على هؤلاء المثقفين مصطلح "المثقف العضوي". والذي يقوم دوره في المجتمع على تنظيم وصياغة مجموعة الأفكار والعلاقات المؤسسية والاجتماعية، التي كان غرامشي يسميها بالهيمنة، والتي كان تحليلها أهم إسهاماته في الفكر السياسي.

تبعاً للسياق الغرامشي هذا في مفهوم الهيمنة، يمكن القول إن الفلكلور أصبح حلقة مركزية مهمة في الجهاز المفاهيمي الغرامشي.

فغرامشي هو المفكر الوحيد الذي أعطى بُعداً نظرياً لمسألة الفلكلور بعد أن كان هذا الأخير عنصراً ضمن المهملات الثقافية والسياسية، يُرى بوجهة غير نقدية، تصنفه ضمن ما هو أصيل وجميل ومثير للإعجاب في مجتمع ما؛ فقد حذّر غرامشي من النظر إلى الفلكلور بوصفه طرفة، أو بوصفه أمراً مثيراً للعجب، فالحقيقة أنه شيء جاد جداً، ويجب التعامل معه بجدية، إنه تصور للعالم وللحياة، خاص ببعض الفئات الاجتماعية (محددة بالمكان والزمان)، أي أنه خاص بالشعب، ويمتاز بالتعدد والتنوع الشديد، ويقف في تعارض وتناقض ضد التصورات الرسمية، وضد تصورات "الطبقة الحاكمة"، وضد تصورات "الفئات المتعلمة في المجتمع"، أي أن الفلكلور يتناقض مع (المجتمع الرسمي) بشكل عام.

وبما أن الشعب –وفق غرامشي- لا يستطيع امتلاك تصورات واضحة ومنتظمة سياسياً، يصبح الفلكلور -الذي هو انعكاس لشروط الحياة الشعبية- امتداداً للثقافة المسيطرة، تلك الثقافة التي يسميها غرامشي بـ"الثقافة العالمة". يقول غرامشي: "لقد كان الفلكلور مرتبطاً دائماً بثقافة الطبقة المسيطرة"، مما يجعل منه نوعاً معيناً من "الثقافة" له وظيفة سياسية ذات أهمية قصوى.

فبما أن النسق الهيمني للمجتمع عند غرامشي يعطي أولوية للأيديولوجي والثقافي عن السياسي، تصبح مسألة الفلكلور ذات أبعاد مهمة تكشف لنا عن حقيقتين أساسيتين:
الحقيقة الأولى: بما أن دراسة غرامشي للفلكلور تنطلق من تفاعلات نسق هيمني ما، باعتباره نظرة مفبركة من طرف طبقة مهيمنة لها نظرتها المعرفية الخاصة، نظرة جمعت كل شتات ما هو تقليدي لدى حقبة تاريخية قديمة؛ فإننا نجد أن غرامشي قد دعا إلى ضرورة دراسة الفلكلور دراسة تفحصية في جوهره ومكونه، والاهتمام بمضمون عناصره، وتعرية الحقيقة بدل النظر إليه كشيء جميل وجذاب له أصالته.
الحقيقة الثانية: أن الفلكلور نوع من "الثقافة" له وظيفة سياسية أساسية تكمن في جعل الفئات الشعبية في موقع المُهيمَن عليها ثقافياً وسياسياً، وبتعبير آخر، هو تصور الفئات المُهيمَن عليها، ويكون في تضاد مستمر (ما دام هو موجود في المجتمع) مع الأيدولوجيا المُهيِمنة.

هذا التضاد ينطلق من انتماء اجتماعي وطبقي واضح، يبين مدى تناقض نظرتين أو تصورين للعالم على المستوى الأيديولوجي والثقافي.

أخلص إلى القول؛ إنه على الرغم من اعتقاد غرامشي بوجود عناصر جيدة في الفلكلور، تدفع إلى القول بشعبويته، إلا أن التقييم السائد في كتاباته حول الفلكلور كان سلبياً، وذلك يعود إلى سببين أساسيين: أولهما، أنه عادة ما كان يخلط بين مادة الفلكلور كما هي، وتصور العالم التي تعبر عنه؛ فكان تشوش المادة وتبعثرها واختلاطها يخفي عن عينه تماسك تصور العالم المتضمن فيها وتقدمه من نواحي عديدة.
ثانياً، أن الهم السياسي لدى غرامشي كان طاغياً، بحيث جعل أبحاثه في موضوعات الثقافة الشعبية مبتسرة ومتعجلة، يسودها الطابع الاستهدافي الذي كان يدفع به عادة للانتقال السريع إلى وضع خطط وتوصيات لتطوير تلك الثقافة، بحيث تتطابق مع الوعي الصحيح كما كان يتصوره آنذاك.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها