يمّم وجهه صوب المتوسط، وحلم برؤية أشجار النخيل التي تتراءى له خيالاتها من وراء أُفق ضفة الشمال، وتاقت روحه لمعانقة الشرق الجميل واكتشاف أسرار ثقافته وحضارته العريقة.
كما قاده اهتمامه باللغات القديمة إلى العربية منذ خمسينيات القرن العشرين، الكاتب والمترجم والمؤرخ والمستشرق الفرنسي الشهير أندريه ميكيل الذي وُلِدَ في ريف ميز عام 1929م، ظهر أول شغف له في العالَم العربي عام 1946م، إثر رحلة قام بها إلى شمال إفريقيا حين كان طالباً، وبعد رحلته المغاربية الروحية والصوفية، إلى مدينة مراكش، عكف ميكيل على دراسة القرآن الكريم وتفاسيره باللغة الفرنسية، مما أثّر ذلك كثيراً على مساره الأكاديمي والبحثي الذي أدى إلى تعلقه بلغة الضاد في فترة لاحقة، كما يعترف في إحدى حواراته.
التحق بمدرسة المعلمين العليا في باريس، ودَرَسَ الأدب على يد المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير (1900-1973م)، أصبح في عام 1950م أستاذاً لتعليم اللغة العربية التي أتقنها إلى جانب اللاتينية واليونانية القديمة. وحصل على التبريز في النحو، ثم الدكتوراه في الآداب، وتخصص في الأدب واللغة العربيين الكلاسيكيين. ارتبط اسمه بترجمة متميّزة لكتاب "ألف ليلة وليلة" والتي أنجزها مع جمال الدين بن الشيخ، إلى جانب الكثير من ترجماته ودراساته في أدب العرب وتاريخهم وجغرافيتهم، حصل أندريه ميكيل على دكتوراه الدولة في الآداب عام 1967م عن أطروحته في الجغرافية البشرية عند العرب، وكان مدخله إليها ترجمته لمؤلف شمس الدين المقدسي "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، يُعدُّ أندريه ميكيل من رعيل العلماء الغربيين الكبار الذين تبحّروا في اللغة العربية، وكّرسوا حياتهم وأبحاثهم للكشف عن كنوز تراثها.
يقول أندريه ميكيل André Miquel: "اقتنيتُ نسخة من القرآن الكريم، مترجمة إلى اللغة الفرنسية. وهي الترجمة التي أنجزها كلود إتيان سافاري. عندما شرعت بقراءة النص القرآني، انجذبت إلى الآيات الأولى، التي قوّتها الرمزية والإيحائية. بعد ذلك، سجّل مساري صوب العالَم العربي". تنقل أندريه ميكيل بين العديد من المدن العربية بيروت، دمشق والقاهرة، وأقام ميكيل عاماً في سورية، كمبعوث للمعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، وعاماً آخر كسكرتير للبعثة الثقافية والأركيولوجية بإثيوبيا، وأخذته عصا الترحال إلى بيروت التي درس فيها العربية لمدة عام، ثم سافر إلى مصر عام 1961م حيث كان يرغب بتقديم أطروحة دكتوراه عن "الأدب والسينما في مصر المعاصرة" ولكن القدر كان يخبئ له مفاجأة جديدة، حيث اتهم بالتجسس لصالح الغرب، وأودع السجن بين خريف 1961 وربيع 1962م.
عَمِلَ ميكيل في جامعة فانسان، وجامعة السوربون الجديدة، ثم شغل منصب مدير معهد لغات الهند والشرق وشمال إفريقيا وحضاراتها في جامعة باريس الثالثة قبل أن يُنتخب أستاذاً لكرسي الأدب العربي في الكوليج دي فرانس عام 1975م. يُذكر أنَّ أندريه ميكيل قدَّم من خلال دراساته صورة شاملة عن الإسلام وأثره في الحضارة الإنسانية، كم تميّز ميكيل بموضوعتيه المتفهّمة التي جعلته مستعرباً ناقداً مواقف المستشرقين ونظراتهم الاستعلائية والانتقائية. وببحثه الدؤوب عن نقاط الضوء الكثيرة في التراث العربي الضخم، كما تولى ميكيل تدريس الأدب العربي في الجامعات الفرنسية منذ عام 1968م. ما يقرب الستين سنة كاملة قضّاها المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل في تدريس تاريخ العربية وآدابها في "كولّيج دو فرانس" 1975، المؤسسة البحثية العريقة الواقعة في قلب باريس. حيث شغل منصب مدير معهد لغات الهند والشرق وشمال إفريقيا وحضاراتها في جامعة باريس الثالثة، وفي سنة 1984م اختير مديراً للمكتبة الوطنية في باريس.
لميكيل أكثر من ثلاثين كتاباً في مجالات مختلفة؛ الشِعر والنقد والفكر والجغرافية. وتوزّعت مؤلفاته بين دراسات علمية، وروايات، ومذكّرات، وخواطر أدبية، وفي الشِعر أصدر: "الابن الراحل قبل أوانه"(1971م)، و"الابن اللامتحقق"(1989م)، ووجبة المساء"(1964م)، و"الرجل العجوز والريح"(2007م)، وكانت مجموعته الشعرية "قصائد متبادلة" التي أصدرها عام 2020م وهو في سن الــــ 91 عاماً، خير دليل على علاقة العشق النادرة الفريدة هذه، حيث كتبها بلغة المتنبي أولاً ثم ترجمها إلى الفرنسية. وهو إلى ذلك مترجم مرموق. اتجه إلى الترجمة للحفاظ على علاقته باللغة العربية حيةً، بسبب فتنة الشرق التي تسكنه. ففي الترجمة من العربية إلى الفرنسية، قصد ميكيل نقل شغفه وإعجابه بنوع معيّن من الشِعر، ولا سيّما شعر الغزل، متمثّلاً بـــ "مجنون ليلى"، وفي النثر نقل نصوصاً مختارة من "ألف ليلة وليلة"، و"الأنطولوجية الشعرية: من صحراء العرب إلى حدائق الأندلس". و"العرب والحب"، ونقل 1205 قصائد من الشِعر العربي إلى الفرنسية، من أبرز مَن اهتمّوا في فرنسا بأعمال الرحَّالة المسلمين، حيث شكّل ميكيل حالة ثقافية فرنسية وغربية فريدة، فكان لمنجزه الفكري والعلمي دور مشهود في تصحيح الصورة السلبية السائدة عن الاستشراق. لا باعتباره خلفية معرفية وثقافية للاستعمار، وإنما وسيلة تتيح فهماً أكثر إنصافاً لثقافة الآخر وحضارته. وقد مكّنه تحليه بالاستقلالية والموضوعية العلمية وعدمُ انجراره خلف القرارات الاستشرافية الأيديولوجية من امتلاك رؤية متوازنة لقضايا التراث العربي.
انشغل ميكيل بتبيان خصائص الأدب التراثي، بغضّ النظر عن اتجاهاته، إلى جانب الإطار الحضاري الذي هيّأ لنموّ هذا الأدب؛ فكان "الإسلام وحضارته" في جزأين، (1968م)، ومصنفه الضخم ''الجغرافية البشرية للعالم الإسلامي حتى منتصف القرن 11 الميلادي" الذي نُشر في أربع مجلدات بين 1973 و1988م، وكتاب "الأدب العربي" (1981م)، وكتاب "العرب والإسلام وأوروبا" (19991م) الذي أصدره باشتراك مع المؤرخ الفرنسي دومينيك شوفالييه. وفي سياق ولعه بالتراث الشعري العربي القديم، من مؤلفاته: كتاب "المجنون وليلى، جنون الحب"، وهي دراسة في شِعر قيس بن الملّوح، أنجزها مع الكاتب بيرسي كيمب (1984م)، و"من الخليج إلى المحيطات"، و"العرب: من الرسالة إلى التاريخ"، و"حكايتا عشق: من المجنون إلى تريستان". كما يبرز هنا كتاب ابن المُقَفَّع "كليلة ودِمنة" (1957م).
ترك أندريه ميكيل إرثاً فكرياً وعلمياً زاخراً شمل مجالات كثيرة، وكان ميكيل قد عنون سيرته الذاتية "شرق حياتي" في إشارة واضحة إلى الشرق الذي شكّل تلك الحياة، وقد ابتدأت من إشارة إليه من قبل المستعرب الشهير ريجيس بلاشير، بترجمة "كليلة ودِمنة"، وقد فعل.
بقيّ المستشرق أندريه ميكيل وفياً حتى آخر رمق من حياته لحبه الأول للشرق بكل سحره وألقه، واشتهر في السنوات الأخيرة من حياته بتواضعه واستقباله للأساتذة العرب وتبادل الحديث معهم في مقاهي ساحة السوربون. يُذكر أنَّ أندريه ميكيل، رحل عن عالمنا في نهاية عام 2022م، عن 93 عاماً.