بائعة الورد

محمد سرور


إنها قصة افتراضية؛ أي أنها لم تقع بالفعل. استوحاها الكاتب عندما وقف قليلًا ليشتري الزهور ليضعها على قبر زوجته - التي كانت تحب الزهور كثيرًا - في ذكراها السنوية، تسمَّر الكاتب قليلًا، ليس فقط لحسن البائعة، التي كانت جميلة بالفعل، بل أيضًا لأنها بدت له مألوفة، ولأن هذا المشهد -وهي تسقي أصص الزرع، في فستانها الأبيض المرصَّع بالزهور، وتزيح بيدها خصلات شعرها الحريري من على كتفها- قد رآه من قبل.

تأمَّل الكاتب حسناء الورد وهي تقفز برشاقة وخفة، لتخطف وردة من هنا وأخرى من هناك، لتشكِّل بيديها باقة يبدو من ألوانها الزاهية أنها ستكون بديعة مثلها.

ظلت صورتها لا تفارقه، حتى بعد أن رجع إلى البيت واستلقى على سريره يدخن وعيناه تتطلعان إلى سقف الغرفة، الذي احتلته حسناء الورد، أدرك الكاتب أنه لن يرتاح حتى يكتب قصة عنها.

فلنفترض أن هناك فتاةً جميلة تعيش في مدينة بعيدة، اسمها «ياسمين» أو «وردة» أو «عبير».. تعيش «ياسمين» في مدينة ضبابية، ولأنها رقيقة كالنسمة، فهي تحب الزهور، والزهور أيضًا تحبها، ولديها حلم وحيد، وهو أن تمتلك متجرًا صغيرًا تبيع فيه الزهور، ولـ«ياسمين» عدة حكايات، بعضها مبهج وبعضها حزين؛ فحُسنها وحده حكاية مبهجة، يحكيها أي أحد ببسمة خفيفة، وهو يصف شعرها البني الحريري، أو عينيها الخضراوين كلون الزرع، أو رقة صوتها الهادئ، أو عطرها الذي يشبه الورد في رائحته كثيرًا.. يحكي ذلك أي أحد وهو يتنهَّد تنهيدة قصيرة كمحبٍّ ولهان.

أما حكايتها الحزينة، فإن لـ«ياسمين» حبًّا وحيدًا، جمعتها به أيام الجامعة الجميلة، ولأنها كالزهرة فلطالما كانت تخشى البرد، وكان «عامر» يذكِّرها دائمًا بالبيت والمدفأة والشمس والمعطف، أي شيء يقيها برد الشتاء وريحه. فكانت دائمًا تقول له:
- أنت شمسي.. أنت بيتي.. أنت معطفي المفضل.

وعلى الرغم من غرابة التعبير، كان ذلك يُسعد «عامر»، ويجعله يضمها إليه أكثر، ويلف ذراعيه حولها، ليرسم بجسده وذراعيه معطفًا بشريًّا.

ستمر سنوات الجامعة في خِفَّة فراشة، وفي السنة الأخيرة، وحين يكون حلم «ياسمين» قد اقترب من البلوغ، سيقف القَدَرُ عائقًا، حين يقع «عامر» في غيبوبة سكر، لا يُفيق منها مرة أخرى. فهمت «ياسمين» الرسالة المرسلة عبر بريد الحياة، وأنه ليست بالضرورة أن تكون الحكايات كلها مبهجة، أو أن تكون الأيام كلها جميلة كالورد.

بعد الجامعة، ستحكي «ياسمين» لوالدها عن حلمها، فيمنحها المال، وستشتري متجرًا أبيضَ جميلًا وسط المدينة، لتنبت حوله الأزهار، ويتلوَّن كل ما حوله بالأخضر، ولتفوح رائحة الورد في كل مكان حوله طول اليوم، وسيحب الكل «ياسمين»؛ لجمالها ورقتها ولأنها بائعة ورد، هل يقدر أحد على كره بائعة ورد؟!

ولنفترض أن هناك صبيًّا اسمه «عمر»، يعيش في مدينة «ياسمين» نفسها، لا يتجاوز العاشرة، وبالمصادفة يقع متجر «ياسمين» بين بيته ومدرسته؛ لذلك فهو في كل يوم يمر في طريقه من البيت إلى المدرسة بمتجر «ياسمين»، ويراها وهي تنسِّق الزهور وتسقي أصص الزرع وينجذب إليها.. لا يعرف بالتحديد لِمَ هو منجذب إليها بهذا الشكل، ربما طريقتها في العناية بالزهور والاهتمام بها، ربما شعر بالغيرة لحاجته إلى مثل هذا الاهتمام، ربما جعلَه فقدُه أمه صغيرًا منجذبًا إلى كلِّ امرأة أو فتاة تكبره، لا يعرف، لكنه كان يسير كل يوم في طريقه المعتاد، حتى إذا وصل إلى متجر الزهور، أبطأ حركته وعبر الجانب الآخر من الطريق، وظل يراقب الفتاة، حتى إذا شعر أنها انتبهت إليه أو تأخر الوقت، يكمل الطريق إلى المدرسة، وفي طريق عودته لا يشغل باله كثيرًا؛ لأنه غالبًا ما يجد المتجر مغلقًا، ليس مغلقًا تمامًا، فقط بابه الزجاجي، وعُلِّقت لافتة صغيرة عليه، جال بخاطره أكثر من مرة أن يتقدم ويقرأ ما هو مكتوب، لكنه كان يخشى أن تعود بائعة الورد في أي وقت وتظن أنه لص؛ لذا فقد كان شغفه وحماسه دائمين في رحلته الصباحية، التي كان حريصًا على عدم تفويتها.

وفي مرة، وهو على الجانب الآخر يراقبها كعادته، وجدها تنظر نحوه وتلوِّح له.. تلفَّت حوله فلم يجد غيره، نظر إليها مرة أخرى، وجدها ما زالت تلوِّح له وتحرِّك يدها بإشارات فهم منها أنها تريد أن يعبر إليها، دق قلبه الصغير في خوف، فكَّر هل ستنهره على وقفته اليومية، هل ستهدده! دق قلبه في عنف، وفكَّر أن يهرب، لكن وجهها المبتسم وتلويحها الودود له شجَّعَاه على التقدُّم، عبر الطريق إليها في بطء، سار صامتًا حتى وصل إليها، وجدها تمد يدها إليه بوردة حمراء، وهي تقول بابتسامة:
- لا داعي لأن تقف على الجانب الآخر بعد ذلك، يمكنك المرور من هنا والجلوس إذا أحببت.

أومأ بخجل وتناول الوردة، وذهب مسرعًا.

في اليوم التالي، مرَّ كعادته من الطريق، لكنه لم يعبر للجانب الآخر، بل وقف عند المتجر ليلوِّح لها، لكنه وجدها تشير له بأن ينتظر، رآها وهي تسحب وردة صفراء من الداخل، وتقدمها له وهي تسأل:
- ما اسمك يا جميل؟

أجابها:
- «عمر».

يومًا بعد يوم، يقطع «عمر» الطريق من بيته إلى المتجر مفكرًا في نوع الزهرة التي ستهديها إليه «ياسمين»، ويقطع الطريق من المتجر إلى المدرسة مبتسمًا ويشم الزهرة بين كل خطوة وأخرى.

يومًا بعد يوم، يحصل «عمر» على هديته من الورد، كما كانت هناك صداقة صغيرة تنبت بين الطرفين؛ فكان يحكي لها عن والده ومدرسته وأصدقائه، وكانت تحكي له عن الزهور وأنواعها وألوانها.

أحب «عمر» الزهور، ربما لأن «ياسمين» أيضًا تحبها، وربما لأن الزهور جميلة بالفعل، فتحول بيته يومًا بعد يوم إلى بستان صغير.

وعلى الرغم من أن هدية «عمر» من الورد لم تنقطع، فإن شيئًا غريبًا كان يطرأ على «ياسمين».. في البداية لم ينتبه الصغير، ولكن مع كل يوم، كان الأمر يزداد وضوحًا، فكانت «ياسمين»، الجميلة المتورِّدة، تزداد شحوبًا وهزالًا، نحف جسدها، وضعفت قوتها، فأصبحت الحركة لديها واهنة، ذهبت الخفة والرشاقة، وعندما لاحظ الصغيرُ ذلك وسألها، أجابت وهي تجاهد لرسم ابتسامة:
- أنا بخير، لا تقلق.

حتى ذات صباح، و«عمر» في طريقه المعتاد إلى المدرسة، وقف عند المتجر، ليُفاجأ بأن المتجر مغلق تمامًا، وليس الباب الزجاجي فقط، حتى إن كل أصص الزرع، التي كانت تُترك في الخارج من قبل، غير موجودة، وبدا أن أحدهم قد جمعها وأغلق المتجر عليها. فكَّر «عمر»: إن «ياسمين» ربما تكون مريضة، وإنها ستغلق المتجر عدة أيام للراحة، مر يوم، واثنان، وأسبوع، والمتجر مغلق كما هو. بدأ «عمر» يسأل الناس حولها، في المحلات المجاورة، حتى أخبره أحدهم أنها مريضة بالفعل، لكنها تُعالَج في المستشفى، وللمصادفة كان هذا المستشفى قريبًا من بيته، ذهب «عمر» ليزورها، وفكر في أن دوره الآن أن يمنحها الورد. اشترى بكل ما لديه من مال وردًا، لم تكن تتعدى الوردات السبع، ذهب إلى المستشفى وسأل عنها، وهناك في الاستقبال أخبروه أنه سيجدها في الدور الثاني، في قسم الأورام.

عامًا بعد عام، بعد رحيل «ياسمين»، ظل «عمر» يشتري الورد ويضعه على قبرها في ذكراها.. لم يفوِّت عامًا، وكأنه كان يرد الجميل أو الدين، وكأن عهدًا سريًّا ضُرب بينهما وهو صغير، عهدًا لم يبُح أيٌّ منهما به، لكنهما فهماه وحدهما. حتى ذات يوم، عندما وقف «عمر» قليلًا ليشتري الزهور ليضعها على قبر «ياسمين» في ذكراها السنوية، تسمَّر «عمر» قليلًا، ليس فقط لحسن البائعة، التي كانت جميلة بالفعل، بل أيضًا لأنها بدت له مألوفة، وكأن هذا المشهد - وهي تسقي أصص الزرع، في فستانها الأبيض المرصع بالزهور، وتزيح بيدها خصلات شعرها الحريري من على كتفها - قد رآه من قبل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها