في الفيلم الإماراتي "فتى الجبل" (Mountain Boy، 2024)، تخوض المخرجة زينب شاهين تجربتها الإخراجية الأولى بثقة نادرة، مقدمة عملاً يُعدّ من أنضج المحاولات الفنية في السينما الخليجية خلال العقد الأخير. الفيلم ينسج سردية شاعرية حول طفل إماراتي مصاب بالتوحد، ينطلق في رحلة هروب نحو الجبال بحثًا عن معنى وجوده، في قالب يمزج الواقعي بالرمزي، والدرامي بالتأملي.
الفيلم من إنتاج "ديزرت روز فيلمز" و"فجيرة فيلمز"، مستلهم من الكتاب الذي كتبته ميشيل زيولكوفسكي عن تجربة ابنها "سهيل" مع التوحّد. ومنذ عرضه الأول، أثار الفيلم اهتمامًا واسعًا في المهرجانات الدولية، وحصد أكثر من 20 جائزة، منها أفضل فيلم في مهرجان سياتل للأطفال، وأفضل ممثل شاب لنجم الفيلم ناصر المصعبي.
سينما التوحد: من المرض إلى الذات
في معظم التمثلات الإعلامية العربية، يُقدَّم التوحّد إما من منظور طبي صرف أو في قالب الشفقة. لكن "فتى الجبل" يرفض هذه الثنائية، ليقترح مسارًا ثالثًا: التوحّد بوصفه نمطًا مختلفًا للإحساس بالعالم، ومساحة للتفرد وليست للعجز.
شخصية "سهيل" –الطفل الذي يُركَن على الهامش بعد انفصال والديه– تنبع من صمت كثيف لا يعني الغياب، بل الحضور المختلف. الكاميرا لا تتلصص عليه بوصفه "آخر" غريب، بل ترافقه من الداخل، وتُصغي إلى طريقته الخاصة في التواصل: من خلال صداقة الكلب "براكة"، والاندماج بالطبيعة، والتفاعل مع الضوء والماء والرمل، أكثر من اللغة والكلام.
المشهد الذي يضع "سهيل" في مواجهة الجبل، ليس مجرّد حركة درامية، بل لحظة تأملية فلسفية: الجبل لا يردّ، لكنه حاضر. تمامًا كالبطل. هنا تُلامس السينما الإماراتية لأول مرة تربة رمزية حقيقية.
التوحّد في السينما العربية: بين التمثيل والاختفاء
قلما نجد في السينما العربية معالجة جادة لاضطراب التوحّد. وإن وجدناها؛ فإنها تقع غالبًا في فخ الشفقة أو التفسير العلمي البارد. أما في "فتى الجبل"، فإن زينب شاهين تختار أن تُنصت. لا تشرح، لا تُعلّق، لا تبرر. فقط تعرض الطفل في لحظته، وتتيح للمشاهد أن يشعر بما يشعره دون وسيط.
هذا الخيار يضفي على الفيلم صدقًا نادرًا، خاصة وأن أداء الطفل ناصر صلاح المصعبي جاء طبيعيًا وعفويًا، لدرجة يصعب فيها الفصل بين الممثل والشخصية. وقد نال هذا الأداء جوائز متعددة، منها جائزة أفضل ممثل شاب في مهرجان تشيلسي السينمائي، وظهر في أكثر من 35 مهرجانًا عالميًا.
الذات المتوحدة كأفق جمالي
تمثل شخصية "سهيل" نموذجًا لما يسميه "جوزيف كامبل" بالبطل الهادئ، الذي لا يخوض صراعًا خارجيًا بل داخليًا. إن حضور التوحّد لا يقدَّم كإعاقة، بل كنافذة معرفية مختلفة للعالم، ولهذا فإن الفيلم لا يسعى إلى تفسير الحالة طبيًا أو مجتمعيًا، بل إلى تجسيدها بصريًا. فغياب الحوار في معظم المشاهد يُعوَّض بإيقاع الصورة، مما يجعل تجربة المشاهدة ذات طابع جسدي وحسي.
جغرافيا الفيلم: الطبيعة كبطل ثانٍ
تم تصوير "فتى الجبل" في مناطق مختلفة من الفجيرة والعين وأبو ظبي، ويمثل الجبل في الفيلم أكثر من مجرد خلفية طبيعية: إنه مرآة داخلية، ومكان للتحوّل، وتذكير بالثبات والصعود في آن واحد. التصوير يبتعد عن الزخرفة البصرية، ليركز على ضوء الفجر، انكسار الظلال، صمت الأفق… في تجربة بصرية ذات طابع روحي.
هذا الأسلوب البصري يذكرنا ببعض مدارس السينما التأملية – مثل سينما "أندريه تاركوفسكي" أو "عباس كياروستامي" – حيث تصبح الجغرافيا وسيلة لإبراز الذات، لا مجرد ديكور. وقد نجح مدير التصوير في ترسيخ شعور بالفراغ الحيوي، حيث كل لقطة تنطق دون حاجة لحوار.
التمثيل: حضور الصدق قبل الاحتراف
من اللافت أن يكون البطل ناصر المصعبي طفلًا يخوض تجربته الأولى في التمثيل، ومع ذلك تمكّن من حمل الفيلم بالكامل على كتفيه. لم يكن تمثيله مصطنعًا ولا متكلفًا، بل أقرب إلى أداء طبيعي، صادق، يشبه الوجود أكثر مما يشبه التمثيل. وهذا النوع من الأداء لا يُصنع بالتدريب فقط، بل بالإحاطة النفسية من قبل المخرجة وفريق العمل، وبفهم عميق للشخصية.
نجح ناصر في التعبير بنظرته، بطريقته في المشي، برد فعله الصامت تجاه من حوله، ليجعل من "سهيل" شخصية غير قابلة للشفقة، بل مثيرة للإعجاب والاحترام. لذا لم يكن غريبًا أن يحصد عدة جوائز دولية، ويصير أيقونة لطفل إماراتي مختلف.

سينما خارج العلبة الخليجية
عادة ما ترتبط السينما الخليجية –حين تُنتج– إما بالكوميديا الاجتماعية، أو بالملاحم البدوية، أو بالأفلام الوثائقية. "فتى الجبل" يخرج من هذه "العلبة"، ويقترح نموذجًا جديدًا: فيلم فني يتناول موضوعًا اجتماعيًا حساسًا، بلغة سينمائية خالصة، دون وعظ ولا خطب.
الفيلم لا يقدم "حلًا" للتوحد، ولا يعرض أطباء أو تقارير أو حملات توعية، بل يقدّم حياة. ومن خلال هذه الحياة، يدعو الجمهور إلى التأمل، إلى التقبل، إلى الصبر. لا بل يذهب أبعد من ذلك: يدعو إلى إعادة النظر في معنى "الطبيعي" و"الناقص".
هذه المقاربة هي التي جعلت الفيلم مقبولًا ومحبوبًا في الخارج، أكثر مما كان سيُفهم في سياق خليجي تقليدي قد يُفضل القوالب الجاهزة والرسائل المباشرة.
اختلال سردي لا يفسد النوايا
ليس معنى ما سبق أن "فتى الجبل" بلا عيوب. فالفيلم يعاني في بعض لحظاته من إيقاع بطيء أكثر مما يلزم، ومن بعض التكرار في المشاهد الخارجية. كما أن الحوارات الثانوية – خاصة حين يظهر البالغون– بدت أحيانًا مسطحة، تُقال من أجل الفكرة لا من أجل تطور الشخصية.
كما أن الجانب الرمزي –الذي يشكّل إحدى نقاط قوة الفيلم– قد يُنظر إليه من قِبل بعض المتفرجين على أنه غامض أو غير ضروري، خاصة من جمهور يبحث عن حبكة واضحة وبناء كلاسيكي. لكن هذه الملاحظات لا تقلل من القيمة الفنية للتجربة، بل تضعها في سياق النضج الأولي، والمغامرة المبررة.
التلقي والتحديات الإنتاجية
رغم بساطة الإنتاج، نجح الفيلم في فرض نفسه في مشهد المهرجانات الدولية، وهو ما يدل على تعطّش السوق الفنية العالمية لخطابات سينمائية غير استهلاكية قادمة من الخليج. غير أن هذا النجاح لا يخفي تحديات حقيقية، أبرزها هشاشة البنية النقدية داخل السوق الإماراتي، وغياب جمهور معتاد على سينما فنية ذات إيقاع بطيء وغير خطابي.
خاتمة: خطوة فنية في طريق وعر
يمثل "فتى الجبل" لحظة نادرة في السينما الخليجية: فيلم مستقل، ذو رؤية، يعالج موضوعًا حساسًا بعمق إنساني وأسلوب بصري ناضج. لا يراهن على أسماء نجوم ولا على تقنيات فائقة، بل على الصدق والإيمان بالفن كوسيلة للتعبير عن المختلف والمنسي.
في وقت تبدو فيه معظم الإنتاجات الخليجية أسيرة السوق أو المناسبات، يأتي هذا الفيلم كتأكيد على أن السينما يمكن أن تكون بيتًا لمن لا بيت له، ومنبرًا لمن لا يتكلم. و"سهيل"، في صمته الطويل، قال لنا كل شيء.