يعني "موت المؤلف" أن يُقرأ النص الشعري بمعزل عن تأثيرات الشاعر ووجوده الجبري في النص الشعري، كسيرته الذاتية، وخلفيته النفسية والاجتماعية، ومرجعيته الفكرية، ومقصديته من بناءاته المضمونية والرمزية والمجازية؛ لأن كل ذلك يؤثر سلبًا في قراءة النص، وموضوعية هذه القراءة، فهذه التأثيرات تشدنا إلى أحوال الشاعر وتصرفنا عن أحوال النص، تأخذنا إلى أوهام ليست مقيمة سوى في ذهن الناقد الذي يستمدها من حواشي النص الشعري وهوامشه، وتصرفنا عن جوهر الرؤية النصية، تقربنا من شخصية الشاعر خارج نصه، وتبعدنا عن تقاطع النص بالذات الشاعرة المقيمة في النص على هيئة شبحية تمثل لحظة استثنائية عابرة.
إن موت المؤلف يعني أن نغلق النص بإحكام على محتوياته المؤكدة، واحتمالاته التأويلية بعيدًا عن التاريخ والجغرافيا، ونقرؤه انطلاقًا من درجة الصفر وقد خلت أذهاننا من الأحكام المسبقة، والظروف التي توجه النص توجيهاتٍ غيرَ موضوعية، وتلوي عنق النصوص لإصدار أحكام متعلقة بالشاعر لا بالنص.
لقد أثرت مقالة "موت المؤلف" التي ظلت تتوسع وتتمدد حتى لامست حدود النظرية في طريقة قراءة النص الشعري، فقد زلزلت أركان النص، وبدلت موقف القارئ، وحولت فعل القراءة، وبات النص الشعري تتسع أركانه، وتتضاعف مساحاته، وتتعدد فضاءاته، أما القارئ فقد اتسعت دائرة صلاحياته، وبات مهيمنًا على النص، ليس بينه وبينه وسيط، فزادت لديه ممكنات القراءة، وراح يتحرك في النص بكل اتجاه، دون رقيب أو حسيب.
لقد كان موت المؤلف حدثًا استثنائيًا نتجت عنه ارتدادات عديدة على النص الشعري الذي بات عليه أن يكون وحيدًا بعد موت شاعره، وبات عليه أن يقف وجهًا لوجه أمام القارئ، وقد ترتبت على هذا الفعل آثار عديدة في النص الشعري وفي فعل القراءة ومنها:
أولاً: القارئ التابع والقارئ العمدة
كان القارئ قبل موت الشاعر محافظًا حذرًا مترددًا، فقد كان يقبع تحت نير سلطة الشاعر وإكراهاته القرائية؛ إذ كان عليه أن يقرأ النص بما سمح به مؤلفه، وبما تجول به قريحته، والبحثُ عما عناه الشاعر، وما أراد أن يعبر عنه من أفكار، وليس عليه أن يخرج على ذلك أو يتجاوزَه، ذلك لأن الشاعر يكتب نصه ويقيمُ فيه رقيبًا على القارئ فلا يبرح، وعلى القارئ أن يقيم الاعتبار لوجود الشاعر، ويفسرَ النص بما يرضي الشاعر، وعليه أن يلقى العنت القرائي في رحلة البحث عن مقصود الشاعر فلا يحيد عنه، ولهذا ألفينا النقاد السابقين يتسابقون في تأويل النص بما يخدم أفكار الشاعر وما يذهب إليه من معان ومضامين، ولا يجوز الخروجُ على ذلك إلى معان أو دلالات لم يقصدها أو لم يرم إليها الشاعر، وبهذا كان القارئ مقيدًا مكبلا لا حيلة له في قراءة النص إلا بما سمح شاعره، وما رمى إليه من معان ودلالات، وويل لقارئ يخرج على هذه الحدود، أو يقولُ في النص الشعري ما لا يُرضي الشاعر، وما لا يتطابقُ مع مقصوده.
وحين مات الشاعر وجد القارئ فجأة نفسه أمام تركة هائلة، وصلاحيات متعددة، فقد تخلص تمامًا من شبح الشاعر المهيمن على نصه، ولم يعد يقيم وزنًا لوجوده الوهمي، فبات أكثر حرية في أن يرى في النص ما يقوله النص لا ما يقوله الشاعر، وكان عليه أن يثبت وجوده وقدرته على التصرف بالنص، فبات النص الشعري أكثر اتساعًا، وبات القارئ يتحرك فيه بكل اتجاه، دون أن يعيق حركته أحد، أو يمنع حركته مانع.
إن فعل القراءة بات مفتوحًا على كل الاحتمالات، وللقارئ أن يرى في العبارة الشعرية ما يريد أن يراه هو، حتى لو لم يكن الشاعر يعنيه، فالعبرة فيما يقوله النص ويحتمله، وليس ما كان الشاعر يعنيه؛ إذ إن الشاعر قد يقول شيئًا ويعني شيئًا آخر، وقد يعجز عن التعبير عن فكرته، وقد يموه على الفكرة أو يداجي فيها، فينحرف النص عن مساره، ويخرج عن سكته، والقارئ غير مجبر على الضرب بالمندل في رحلته للبحث عن المعنى الغارق في لجج الشاعر الحالكة.
بل لعل القارئ يذهب أبعد من ذلك حين يسعى إلى اكتشاف أسرار النص وخباياه، تلك الأسرار التي حرص الشاعر على إخفائها عن قارئه لما قد تشكله من فضائح محتملة، تعرّض بالشاعر، وتبرز عيوبه، وتطيح بأسراره، فالناقد النفسي تحديدًا قادر على أن يتتبع مكنوناتِ اللاوعي، وأثرَهُ في مسار النص الشعري، مما لا سلطة للشاعر عليه، فإذا الشاعر يفاجأ بتمرد نصه عليه، وخروجه على إرادته، وانحرافه عن مساره، وبوحِهِ بما لا يريده.
إن موطن الحقيقة في النص الشعري هو النص نفسه وليس الشاعر، فمعرفة الشاعر بنصه تبقى محدودة بإزاء ممكنات النص، ومهما حاول الشاعر أن ينفي حقيقة النقد في نصه فستبقى هذه الحقيقة هي الطاغية على مزاعم الشاعر التي يتحكم بها الأنا الأعلى، ويخشى أن يبوح النص بها فيكشف ما لا يريد الشاعر كشفه من أسرار.
ثانيًا: فعل القراءة الحر: قراءة الشاعر أم قراءة النص
مع موت المؤلف تغير الفعل القرائي واستدار استدارة كاملة، فلم يعد القارئ ملتزمًا بما يلزمه به الشاعرُ، الذي كان يمارس سلطة عنيفة ضد القارئ حين كان يجبره على الالتزام بالبحث عما عناه الشاعر في نصه، وإن أي انحراف قرائي قد يعد فشلًا غير مسبوق في الوصول إلى جوهر النص؛ إذ يغدو جوهره ما عناه الشاعر وأراده.
لقد كان الاهتمام بالشاعر استثنائيًا قبل موته، فقد كان على القارئ أن يعرف نبذة عن حياته، لما لهذه النبذة من دور في فعل القراءة، فالقارئ التقليدي مغرم بالمقايسة والمقاربة حد التماهي بين الشاعر في حياته والشاعر في قصيدته، حتى كأنهما كائن واحد، فراح القارئ التقليدي يسحب أفعال الشخصية الشعرية على الشاعر، ولم يكن من حرج لديه في أن يدرس ملامح من حياة الشاعر من خلال شعره وقصيدته، حتى راجت دراساتٌ تذهب مذهب "حياته من شعره"، والحق أن في هذا شططًا عظيمًا، ومجانبة للصواب، وتحويل للنص الشعري من معلم جمالي، إلى سجل مدني، أو كتاب تراجم، ومع موت المؤلف بات يتضح لنا أن الشاعر إذا مات خلا نصه منه، ولم يعد له فيه أثر، وأما ما بقي من أثر فهو لا يزيد على ظل شبحي لا يكاد يبين، ورحنا نفرق بين الذات الشاعرة في النص، والشاعرِ خارج النص، فالشاعر خارج نصه كائن بشري عادي يمارس حياته كسائر البشر، وأما الشخصية الشعرية أو الذات الشاعرة فهي التي تمارس أفعال القصيدة، وتمثل لحظة استثنائية لا يقاس عليها من حياة الشاعر، وحين تقول الذات الشاعرة "عشرين ألف امرأة أحببت"، كما قال نزار قباني، فمن الخطأ والتجاوز أن تصدقه، إن هذا الفعل ينتمي للذات الشاعرة الماكثة في القصيدة، وليس للشاعر البشري الماكث خارج النص الشعري.
ومعنى ذلك أن موت الشاعر أتاح لنا أن نفرق بين الشاعر في قصيدته، والشاعر في حياته، فكلاهما مختلف عن الآخر، وإن من شأن الخلط بينهما أن يوقع في مفارقات قرائية مضحكة ومربكة في آن معًا.
إن شخصية الشاعر في نصه هي شخصية تمثيلية مختلقة من قبل الشاعر، إنها كالممثل الذي يؤدي دورًا على خشبة المسرح، وحالما تؤدي دورها وتخرج من القصيدة تعود إلى طبيعتها البشرية العادية، فتتبرأ من أفعالها الشعرية، وتتنازل عن أقوالها وسماتها، ولهذا أجازوا للشاعر ما لم يجيزوه لغيره من الأدباء، فالشاعر في حياته لا يتبنى أفعال الذات الشعرية في النص الشعري، ولا يعترف بها، وهذا ما عناه من قال: "إن أعذب الشعر أكذبه"، فالكذب هنا ليس مرتبطًا بالمبالغة أو المجاز، بقدر ما هو مرتبط بأفعال وأقوال منسوبة للشخصية التمثيلية الماكثة في النص وليس بشخصية المؤلف الذي بات موته سبيلا لفهم هذه المعادلة.
إن تبرؤ الشاعر من أفعاله الشعرية منطقي تمامًا، فهو في لحظة الإلهام تغيم رؤيته، وتقوى بصيرته، ويشحب وعيه، وتنفتح نوافذ اللاوعي، فيقول ما يشاء منسوبًا إلى الذات الشاعرة، وحالما تنضب لحظة الإلهام يعود الشاعر إلى طبيعته، إنسانًا عاديًا لا تمثله تلك اللحظة العابرة، أو الشخصية التمثيلية.
إن هذا التفريق بين الشخصيتين يعود الفضل فيه إلى موت المؤلف؛ إذ حالما يفارق الشاعر قصيدته، وتنطفئ جمرتها، يموت ولا يعود له وجود، وإن ما يتراءى لنا وما نتوهمه من وجود الشاعر هو وجود لتلك الشخصية الوهمية أو التمثيلية التي تمارس أفعالها بجرأة وتحدٍّ، على مسرح الوهم.
ثالثًا: براءة الشاعر
بهذا المعنى يغدو الشاعر بوصفه شخصية إنسانية حقيقية مبرأ من أقواله وأفعاله؛ إذ تنسب تلك إلى الذات الشاعرة الماكثة في النص، وبهذا قد تبدو الذات الشاعرة في النص غارقةً في العشق دون أن يكون الشاعر نفسه عاشقًا، وقد يكتب الشاعر معبرًا عن حال الأسرى في سجون الاحتلال وكأنه واحد منهم دون أن يكون قد جرب تجربة السجن، ذلك لأن الشعر فعل تخييلي، وتجربة مجازية تنتسب للشخصية القابعة في النص الشعري، وليس شرطًا أن يكون الشاعر نفسه قد عانى تلك التجربة.
وتلك هي عظمة الشعر، إذ يغدو الشاعر ناطقًا باسم الجمهور بقدراته الشعرية اللامحدودة، من خلال توظيف الشخصية الشعرية التي تقوم بتلك الأفعال، وتعفينا هذه النظرية من البحث عن تفاصيل حياة الشاعر لفهم قصيدته، مما ينبني عليه سوءُ فهم كبير، ولعل أحدنا يَعجبُ من نقاد يبحثون في حياة الشاعر من أجل أن يعرفوا حقيقة تجربته في العشق مثلا بحجة أنه كتب شعرًا في الحب أو العشق.
ولعل من اللافت أن براءة الشاعر من أفعاله المستقبحة قد ألمح إليها القرآن الكريم في أواخر آيات سورة الشعراء بقول الله تعالى: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون}، فليس كل ما يقوله الشاعر يفعله، وليس كل الأقوال المنسوبة للشاعر يتم ترجمتها إلى أفعال؛ لأن الفعل الشعري ليس فعلا حقيقيًا، بل هو منسوب للفعل التمثيلي الذي تمارسه الشخصيةُ الشعرية المنحوتة من الوهم.
رابعًا: انحراف النص الشعري
إن حرية القارئ في التصرف النقدي المنضبطِ بقواعد النقد في النص الشعري يمكِّنُ الشاعر من فحص ممكنات اللاوعي متجاوزًا مناطق الوعي، فيقف على ظواهر بنائية لا يقصدها الشاعر لكنها موجودة بقوة العقل الباطن في قصيدته، كمواصفات البناء الإيقاعي والمجازي، فلعل الشاعر يقصد بوعيه وُجهة معينة، لكن اللاوعي يحرفه بعيدًا عن مقصده، فينتج لدينا ما أسميه "الانحراف النصي" حين يفقد الشاعر السيطرة على نصه الشعري، ولعل فيما يسمى بالمقدمات الطللية والغزلية شيئًا من هذا الانحراف، فهي وافدة إلى النص بفعل اللاوعي الممتلئ بالرغبات المكبوتة، وبدلا من أن يذهب الشاعر مباشرة بوعيه إلى موضوعه الرئيس من مدح الممدوح أو وصف الناقة، يذهب إلى المرأة التي تمثل بؤرة مركزية، وحاجة منسية في زوايا العقل الباطن، الذي يجد متنفسه في لحظة الإلهام التي يضعف فيها الوعي لتنفتح نوافذُ اللاوعي على تلك الحاجات التي تفرض نفسها على النص الشعري.
إن موت المؤلف يتيح للقارئ أن يعاين هذا الانحراف الطارئ على النص الشعري بعيدًا عن ادعاءات الشاعر الزائفة، التي يتخذها ستارًا يخفي وراءه هواجسه الحقيقية، ورغباتِهِ المدفونة، والقول بوجود المقدمة في القصيدة يحولُ النص من لحظة مكثفة مختزلة إلى موضوع إنشاء له مقدمات وخواتيم، وهو ما تنفيه حقيقة لحظة الإلهام باهظة الثمن التي لن ينفقها الشاعر الملهوف على مقدمات أشبه بالنافلة من القول الشعري.
إن مطالع القصائد هي أهم ما فيها لأنها تنطلق من لحظة الإلهام وهي في أوج قوتها، وما يأتي به المطلع هو جوهرُ النص الشعري، وجمرتُهُ المتقدة، ثم تتوالى الأولويات الأهمُّ فالأقلُّ أهمية، ولا يمكن أن يكون الخليفة في العرف الشعري أهم من المحبوبة للشاعر، مما يثبت هذا الانحراف النصي ويؤكده.
وبهذا يتضح أن سلطة الشاعر على نصه، وبقاءه حيًا فيه، يقضي على العديد من فرص القارئ واحتمالاته النصية، وأن التحرر من ظله المهيمن يجعل القارئ يحظى بفرصه العديدة والمثالية في كشف أسرار النص الشعري وهتك حجبه الكثيفة، شاء الشاعر أم أبى.