يعدُّ التراث (بأشكاله المتنوعة) من أكبر الروافد الفنية التي يستمد الشاعر العربي المعاصر منها مادته الفنيّة، وتختلف طبيعة التفاعل مع التراث باختلاف الرؤى والاتجاهات الشعريّة، ومن ثمَّ يتفاوت الشعراء ما بين محاكاة تقليديّة مجافيةٍ لطبيعة عصرنا واهتماماته وقضاياه، واستلهامٍ يستوحي التراث في رؤى جديدة مشغولة بقضايا عصريّة.
ومن أوجه التفاعل مع التراث: (استخدام القناع التراثيّ)، إذ "يُمَثِّل القناع شخصية تاريخية –في الغالب– يختبئ الشاعر وراءها ليعبر عن موقف يريده، أو ليحاكم –من خلالها– نقائض العصر الحديث"1، والقناع يُعدُّ وجهًا من أوجه التوظيف الدراميّ يحول دون تدفّق الرؤية الذاتيّة الخالصة، فالشاعر يحتال بالقناع التراثيّ لكي لا يفرض رؤيته الذاتيّة الخاصة على المتلقي، ونحن حين نقرأ قصيدة القناع نجد الشخصية التراثيّة التي استدعاها الشاعر تتحدث عن نفسها بضمير المـُتكلم دون أن يكون الشاعر طرفًا في هذا الحديث؛ "لكننا ندرك شيئًا فشيئًا أن الشخصية في القصيدة ليست سوى قناع يتحدث الشاعر من ورائه؛ فيتجاوب صوت الشخصية المـُباشر مع صوته الضمنيّ"2.
ومن القصائد الجيدة التي تصطنع هذه الحيلة الفنيّة: قصيدة: (ليالي أبي عبد الله الصغير- غرناطة لي)3 للشاعر السعوديّ: زياد آل الشيخ4.
والمعهود في (قصيدة القناع) بشكل عام أن تجعل من عنوانها جسرًا كاشفًا عن: (النص الغائب) الذي تستلهمه، ومن ثمَّ تحقيق التواصل مع المـُتلقي حتى تتيح له الدخول إلى عالمها؛ ومن ثمَّ نجد أن اسم الشخصيّة التراثية التي يتقنَّع بها الشاعر في القصيدة التي ندرسها (وهي شخصيّة: أبي عبدالله الصغير) مذكورةً في العنوان، فضلاً عن كون العنوان الفرعيّ: (غرناطة لي) متضمِّنًا القضيّة أو السياق العام الذي ظهرت من خلاله هذه الشخصيّة التراثيّة التاريخيّة، وهو عين ما تمارس من خلاله شخصيّة القناع دورها المنوط بها في القصيدة، فأبو عبد الله الصغير هو ملك غرناطة الأخير، وهو آخر ملوك الأندلس عمومًا، ذلك الذي سلم آخر المعاقل العربيّة لملوك النصارى مُنهيًا ثمانية قرون من الوجود العربي.
إن القناع –كما سبق أن ذكرنا– وسيط فنيّ بين الشاعر والمـُتلقي، والقناع يحجب صوت الشاعر المـُباشر ليعيد صوغه على نحو مستقلٍّ منفرد جديد، وهو مما "يفرض على القارئ تأنيًّا في الفهم، وتأملا يوازن بين الدلالات المـُباشرة وغير المـُباشرة، على نحو يجعل المـُتلقي طرفًا فاعلاً في إنتاج الدلالة الكلية للقناع، وليس مجرد مستهلك سلبيٍّ للمعاني"5، ولذا فمن الممكن (اعتمادًا على الخلفية التاريخية لقناع أبي عبد الله الصغير) اتخاذ شخصيّته رمزًا فنيًّا للنكبات العربيّة المعاصرة التي تتهدد بضياع الهويّة والوجود.

يقول أبو عبد الله الصغير في مطلع القصيدة متحدِّثًا من منفاه بعد رحيله عن الأندلس:
لا أُنادِي مِنْ هُنَا
خشيةَ أنْ يُرْجِعَ صَوْتِي مَعَهُ شبَّاكَ قَصْرِي
لأرى أُمِّي تُنَاِدي
وأرى من مجلسي رائحةَ الريحانِ شَرْقاً
وأَرى غَرباً خلاخيلَ الجَوَارِي
لا تملك شخصية أبي عبد الله (كما تصورها القصيدة في حاضرها المنكوب) إلا استرجاع الماضي المــُــتَفَلِّت، ولا شك أن هذا الماضي يحمل أوجاع الذكريات ومآسيها، لاسيما صوت (الأم التي تنادي)، وفي هذا الموضع من القصيدة على وجه التحديد: يزداد ثراء النص الشعريّ الماثل بين يدي القارئ حينَ تُستدعى شخصية عائشة الحرّة (والدة أبي عبد الله الصغير)، وتُسترجع مقالتها لابنها عندما رأت بكاءه على مشارف الرحيل عن غرناطة بعد تسليم المدينة: "أجل: فلتبكِ كالنساءِ مُلكًا لم تستطع أن تدافعَ عنهُ كالرجال"6.
والنص الشعري –بطبيعة الحال- لا يُبَلِّغ (هذه الدلالات التراثيّة) لمتلقيه بشكل مباشر؛ وإنما تُسْتَجْلَبُ المعاني من (نص غائب) مُختزن في ذاكرة القارئ، ويعمل (النص الشعريّ الماثل) على تحفيز المتلقي لاستدعاء الأحداث المـُضمرة المطمورة، وهكذا تكون ممارسة القراءة بمثابة "أخذ وعطاء: أخذ من النص، وعطاء له من قبل المخزون الأدبي والثقافي للقارئ، وهكذا يتفاعل النّصّان: (الغائب) و(الماثل)، من أجل إنتاج نصّ جديد، يشكل في الوقت نفسه تناصّاً مع مكنونات الثقافة والقارئ"7
على أنَّ مطلع القصيدة الذي ذكرناه لا يعدو مرحلةً أولى يحاول فيها الشاعر: (تثبيت القناع) من خلال الإدلاء باسم الراوي (أبي عبد الله) صراحةً في العنوان، واستدعاء الإيحاءات المتعلقة بوجوده الواقعي التاريخي، ثم تبدأ مرحلةٌ جديدةٌ يعمل الشاعر فيها على بناء (جسر التماهي بين الذات الشاعرة والقناع)؛ ومن خلال هذا الجسر تستطيع شخصية القناع (التي تم استدعاؤها من التراث) العبور إلى عالمنا المعاصر.
وفي هذه المرحلة الجديدة لا تتخلى شخصية القناع عن أبعادها التراثية بشكل مطلق؛ وإنما تتراوح فيها الشخصية بين (التاريخية) و(المعاصرة)؛ وذلك لإحكام التـقَنُّع، يقول الشاعر:
ثَمَّ أَرى غُصْنِي الذي يحرقُه الوقْتُ
أرى مئذنةً تُفْلتُ مني
بابَ نجدٍ فاتحًا نافذةَ التاريخِ كي أخرجَ مِنْها
من المعروف –تاريخيًّا– أنَّ أبا عبد الله الصغير قد استقرَّ في مدينة فاس المغربيّة بعد سقوط الأندلس؛ ولم يكن ثمّة علاقة لأبي عبد الله الصغير بـ(نجد)، وإنما هي موطن الشاعر السعودي المعاصر مبدع هذه القصيدة، فالذات الشاعرة المــُقَنَّعة –إذن– هي التي تقول: (أرى.. بابَ نجدٍ فاتحًا نافذةَ التاريخِ كي أخرجَ مِنْها)، بيد أنَّ من أوجه القصور في القراءة أن نعوَّل على هذه الذات الشاعرة فعليًّا على نحو ما نفعله في قراءتنا للشعر التقليدي أو الرومانسي؛ فالذات الشاعرة –هنا– ليست إلا نموذجًا تمثيليًّا عامًّا للعربي المعاصر الذي لا يجد لنفسه موضعًا بين صُنَّاع التاريخ؛ ومن ثمَّ يخرج حاملاً أمجاده الغابرة التي تحترق وتذوي، وتنفلت معها (المآذن) بما تحمله من أبعاد ودلالات الانتماء والهويّة.
وتمضي القصيدة –عبر أبياتها المتوالية– مُصوّرةً للقارئ تلك: (الزفرةَ الأخيرةَ) التي تحمل كل أوجاع الهزيمة والانكسار، وتمضي ملاحقةً أبا عبد الله:
لحظةً أنصتُ لا أسمعُ إلا زفرةً تلحقُنِي
أخلعُ مُلكيَ ثُمَّ أجْرِي
تَتَقَفَّـانِي كَظِلِّي..
أتَخَفَّى غَابةً
تَمْتَدُّ في إثْري حَريقَا
وفي ظل هذا الانكسار المروّع تتجلى مهمة الذات الشاعرة المـُتَلبِّسة بالقناع في التمسَّك بالهويّة، والتفاني في استرجاع (غرناطة) التي ترمز للكيان العربي المسلوب:
وأنَا أهمسُ "غرناطةُ لِي"
يَصْعَدُ غيمٌ من فَمي
يصْعَدُ منِّي هَكَذَا: "غِر... نَا... طَتِي"
غينًا تسلُّ الرّاءَ مِنْ رُوحِي
ونوناً خرجَتْ تترفُ مِنّي أَلِفٌ الآهِ التي في خَصْرِهَا
طاءٌ تجرُّ التَّاء أُنْثَاهَا التي أعْقِد يَائي حولَها شالاً
إذا أمْسِكُهُ تُفْلِتُ غِرْنَاطةُ مِنّي
بينَما تَحْمِلُهَا الريحُ بعيداً كوكباً فوقَ البراري.
وفي هذا المقطع الأخير من القصيدة يحاول الشاعر التعبير عن ضياع الهويّة العربيّة التي يتّخذ من (غرناطة) رمزًا لها من خلال (التشكيل البصري)، وتقطيع حروف الكلمة (غِر... نَا... طَتِي)، وهذا الابتداع الكتابيّ مما شاع في الشعر العربي المعاصر، إذ يُمَزِّقُ الشاعر المعاصر في قصيدته المكتوبة بعض الكلمات للتعبير عن دلالات التبعثر والتشظيّ والتناثر، أو للإيحاء بحالات نفسية ترتبط بالزيف والانهيار والاضمحلال وما شابه ذلك8.
غير أن الحيلة الفنيّة الجديدة التي يستخدمها الشاعر هي: التعبير عن التشبث بـ(غرناطة/ الهوية) من خلال إعادة جمع هذه الحروف المـُبعثرة، وهو يجعل من تلك الحروف كيانات منفردة مستقلّة في حد ذاتها، يتفاعل مع كل حرف منها على حدةٍ؛ ولعله في هذه التجربة الفريدة يستلهم ما يُعرف بــ(الحروفية) التي يقول بها بعض الصوفيين كابن عربي وغيره9، فالحروف عند هذه الطائفة الصوفيّة تحمل هالات من الرموز الكونيّة؛ وهم يزعمون أن الله قد أودع فيها علم الأولياء بما تنطوي عليه من خصائص ومعاني ظاهرة وباطنة في اجتماعها أو انفرادها على حدةٍ10.
وباستثناء (أَلِفِ الآهِ) لا يجعل الشاعر لكل حرف من حروف (غ، ر، ن، ا، ط، ـة) دلالة بعينها؛ وإنما يكتفي بتجسيمها وإبراز معاناته في ملاحقتها وتطويقها بيائه (ياء المتكلم الدالة على الذات)، لتكون: (غرناطتي)، لتكون كما يقول العنوان الفرعيّ: (غرناطة لي)، ولعل في استخدام الحروف على هذا النحو دلالة إشاريّة لدور المثقَّف والأديب الذي تعبّر عنه الذات الشاعرة بشكل ضمنيّ؛ فالشاعر الأديب المثقف عدته وبضاعته وآلته الحروف والكلمات، ومن خلال هذه الحروف والكلمات يمارس دوره في استراد الهوية واسترجاع المكانة العربيّة الآفلة، ويمارس هذا الأمر من خلال تفاعله مع تراثه العربي على وجه الخصوص.
ومع أنَّ القصيدة تحمل في نهايتها ما يدل على أنَّ المعاناة التي بذلتها ذات الشاعر المـُقَنَّعة بقناع أبي عبد الله الصغير قد باءت بالفشل؛ لأن غرناطة: (تَحْمِلُهَا الريحُ بعيداً كوكباً فوقَ البراريْ)، تظل هذه المحاولة قابلةً للتكرار، ولا تغيب عنها بوادر الأمل؛ لأن غرناطة لا تزال مُطلَّةً على براري الحاضر المنكوب كوكبًا يحمل هالات الذكرى التي تشيع الضوء في النفق المظلم.
الهوامش: 1. اتجاهات الشعر العربي المعاصر، د. إحسان عباس، سلسلة عالم المعرفة الصادرة عن: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1978م، ص: 121.┇2. أقنعة الشعر المعاصر، د. جابر عصفور، مجلة: فصول (في النقد الأدبي)، تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد الأول، العدد الرابع (رمضان 1401هـ/ يوليو 1981م)، ص: 123.┇3. نُشرت القصيدة في مجلة العربي الكويتية، العدد (589)، (ذو القعدة 1428هـ / ديسمبر 2007م)، ص: 147.┇4. ولد في: (شوال 1394هـ / أكتوبر 1974م)، وتخرج في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران، وحصل عل الدكتوراه في البرمجيات، وهو: كاتب في جريدة الرياض، وله مشاركات أدبية واسعة، صدرت له أربع دواوين شعريّة: (هكذا أرسم وحدي 1424هـ/ 2004م)، (سنابل حب 1427هـ / 2007م)، (مدونة لبيروت 1428هـ / 2008م)، مدوّنة لميدان التحرير (1432هـ / 2011م).┇5. أقنعة الشعر المعاصر، د. جابر عصفور، ص: 123.┇6. راجع: دولة الإسلام في الأندلس، محمد عبد الله عنان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة (1423هـ - 2003م)، (7/267). وقد أَطلقَ الإسبان على الهضبة التي شهدت هذه الواقعة اسمًا شعريًّا يعبر عن هذا الحدث هو: (زَفْرَة العربيّ الأخيرة)، ومنها استوحينا عنوان هذه الدراسة، والبعض يشكك في هذه القصة؛ لكنها –سواء صحت أم لم تصح– ركيزة ثقافية في التراث العربيّ.┇7. النــَّصُّ الغـائب - تجلّيات التّناص في الشعر العربي، محمد عزَّام، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق (1421هـ/2001م)، ص: 12.┇8. راجع: التجريب في القصيدة المعاصرة، وليد منير، مجلة: فصول (في النقد الأدبي)، تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد 16، العدد الأول، (1418 هـ / صيف 1997 م)، ص: 181 وهو يسمي هذه التقنية الكتابية: (التشذير).┇9. لا يعني استلهام الشاعر بعض الأقاويل الصوفيّة وإعادة توظيفها في القصيدة إيمانه بها من الناحية العقديّة أو الفكريّة؛ وإنما هو بالأحرى يُجرد تلك الأقاويل من دلالاتها الصوفيّة المرتبطة بالدين، ويعيد صوغها على نحو جديد يخدم به رؤية القصيدة، فاستلهام البعد الصوفي في الشعر يكون –في المقام الأول– استلهامًا فنيًّا لا تسليمًا عقديًّا. 10. راجع كتاب: حقيقة التصوف بين التأصيل والتأثير، د. بشير جلطي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى (1433هـ / 2012م)، ص: 129 و130.