التّبْرِيزي في سوق "الخردة"

سعيد طلحا


في سوق الخردة، تنبطح الكتب كالجثث المتعفنة، تمر أمامھا عيون الزبائن دون أن ترمش، وتنقبض الأنوف لتسد الطريق أمام عبور الهواء! أجلس حیث یمرون. أمد یدي إلى الجثث! أشتم ریحھا، ثم أقلّب العناوین والصفحات. العیون الفاترة تلتمع فیھا الحیاة، تشخص إلي فجأة، وتنطق:
- من ھو ھذا المیت، یقلب بین دفاتر المیتین؟!

بعضھم یعرفني، بعضهم سبق أن رآني، وبعضٌ آخر لأول مرة. ربما أضایقھم رغم أني لا أزاحمھم ولا أشتري خردا. ربما أستفز حاستھم المعدنیة، فأنا مهووس بإنقاذ الأرواح من الأشلاء، هذه التي تنتشر في سوق الخردة كمخلفات الحرب. وفي كل إنقاذ لها إنقاذ لروحي الصغيرة. لذلك، فكلما خرجت في الصباح، قاصداً سوق الخردة، دعوت الله أن يمنحني فرصة إنقاذ روح هناك، علني أحيا من جديد وأسافر إلى آفاق جديدة، لم أرها من قبل. أما هم، زبناء سوق الخردة العاديون، فمھووسون باقتناء الأواني، ولا یتحملون رؤیة كتب ورقیة دوّنها رجال قضوا نحبھم، وبعضھم شبع موتا منذ مئات السنین!!

أحدس أن ھذه المشاعر تعتمل في صدورھم، فأزید في نكایتھم، أقول في نفسي: التضییق بالتضییق والبادئ أظلم.. ھم من نظروا إلي شزرا أول مرة، فلأرد الصاع صاعین.. إني أعرف كیف أستفزھم. أتطلع إلى البضاعة المنبطحة، مزیج من الملاقط والبراغي والعجلات والهواتف والكتب. یسبقني عشقي، فأتناول ديواناً لشمس الدين التبريزي، على الديوان صورته، كان منبطحاً هناك كالشلو، مضغوطاً بين الغرباء، وممزقاً من شظايا القذائف المعدنية. أنتصب واقفاً وأنظر في عیونھم المصوبة نحوي بإزعاج، أسأل البائع:
- بكم الكتاب؟
◅ خمسة دراهم
​- سأدفع فیه 20 درهماً، فھو یستحق ثمنه! أقول بخبث نبيل، ناظراً إلى عيونهم البلهاء.
تندّ عنھم جمیعم صیحة استنكار، وبصوت واحد مجلجل یصرخون:
◅ أغربْ عنا، فلا مكان للموتى بیننا، إنك تزھدنا في الدنیا!!

أضحك منتشیا، بل مقھقھاً ملء فمي، فلقد بلغت غايتي من استفزازهم!!

ثُمَّ یتفرقون عني مسرعین كأنهم یفرون من أجرب. یستأنفون اشتراء الفؤوس والمطاوي والملاقط. یعكفون على ذلك وھم یمسدون علیھا كأنھم یمسدون على الحریر. یقایضون. یدفعون ویقبضون. لقد استعادوا إیقاعھم حین ابتعدوا عني. استعادوا نبض الحیاة في نظراتھم.. كل شيء عادي اليوم بالنسبة إليهم: النهار أحد، والفصل خریف والجو بارد، ولَم يتغير شيء، تماماً كما لم يتغير شيء في الماضي. أما بالنسبة لي فقد تغير شيء، حصلت على ضالة جديدة، حصلت على صديق ثمين، بل وأنقذته من بين الأنقاض! ليس بالأمْر الهيّن أن تحصل على صديق جديد، حتى ولو كان هذا الصديق ورقياً، علاوة على أن تنقذه من مخالب الأنقاض.

أدفع ثمن الكتاب، وأضع الصديق في كمّ معطفي. لا بد أن أرجع إلى غرفتي سريعاً. لا بد أن أهرب بعد أن قضيت حاجتي. الجو بارد كأنه الصقيع، وأصقع منه هؤلاء الأحياء الأموات. في غرفتي هناك، ثمّة من ينتظر قدومي، أصدقاء أموات، ينتظرون أن أعود بغنيمة، ككلّ صباح، ككلّ سوق خردة، فينبعثون من كتبهم، ويعودون إلى الحياة.. أصدقاء تباعدوا في الأقطار، من جنسيات وأعمار مختلفة، أنقذتهم من ركام المعادن والأشلاء كما أنقذت التبريزي اليوم. قرَّبْتُ بينهم في غرفتي التي تحولت إلى كعبة: وايتمان والمتنبي، وهولدرين والمعري، وتولستوي وآخرون، يخرجون من كتبهم ويعودون..

أسرع الخطى متشوقا. على الغلاف، صورة الشاعر المجذوب. ألمسھا بأصابعي الباردة، بعد أن دسستها في جيبي، وأغادر السوق. في الطریق، أشعر من خلال أصابعي بالدفء یعود إلى وجه الشاعر، یخیل إلي أنه ینبض ویتعرق. أبتعد عن الضوضاء، مولیا ظھري للأحیاء الأموات. أمشي طویلاً ولا ألتفت. أمشي صوب الجدار الذي یفصل بيتي عن السوق. تتلاشى الضوضاء رویداً رویداً. أسرع الخطو أكثر كأني أركض. أجتاز الجدار وأقترب من الغرفة. يتحرك الشاعر في كمّ معطفي. يفتح فمه ليغني. يأتيني صوت جلبة من الغرفة هناك. لا شك أن الأصدقاء قد سمعوا صوت الشاعر وهاهم يتجاوبون معه، لا شك أنهم خرجوا من هياكل الكتب لينظموا استقبالا يليق به. أقول في نفسي وقد صرتُ أركض: هناك واحد سيكون أكثرهم فرحاً وعرفاناً. واحد تعرفونه أنتم أيضاً. لم أره يخرج من كتابه قط، ولكنه سيخرج اليوم لا شك! ها هي الجلبة تزداد. أفتح باب غرفتي. أجدهم قد نظموا أنفسهم في صفين متقابلين، فرشوا سجاداً فارسياً بديعاً، ووقفوا ينتظرون. في نهاية الصف، كان ذاك الواحد هناك، يقف منتصباً في هالة من النور، يحمل بين يديه كتاباً ضخماً جداً، خرج منه، وهو الآن يحضنه بين يديه. أشعر في جيبي بالتبريزي يرتعش، يقاوم ليتخلص من قبضتي، صارت قبضتي تلك اللحظة أثقل من أشلاء سوق الخردة. ينجح وينقذف من جيبي كالصاروخ. يركض نحو الرجل الذي يقف في الجانب الآخر، يصرخ:
​- مولانا! مولانا! اشتقتُ إليك!
​- تعال يا شمس! وأنا أيضاً اشتقتُ إليك. أين كنتَ كلّ هذا الوقت!؟

يشهق، يشهقان، يجري كل واحد نحو محبوبه. يلتقيان في الوسط، يتعانقان، ينصهران، يبكيان بحرقة. الحاضرون يبكون جميعاً، وببكائهم أبكي أنا أيضاً.

يندحر الصقيع إلى نقطة بعيدة، متراجعاً إلى السوق الذي خلفته ورائي.. يعود الدفء إلى قلبي. يعود الدفء إلى الغرفة. تشتغل حلقات الذكر والدرس، وتدور خمر الحب بين الأصدقاء. تدور إلى آخر الليل.

أتعب فأنام وأتركهم. لا بد أن أنام، غداً سأرجع إلى سوق الخردة. غداً سأبحث عن صديق جديد!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها