قراءة مضيئة فـي رواية "كوم الخادم"

لـ عبدالعليم حريص

محمد نجيب قدورة

كنتُ ولا أزالُ مشغوفاً بقراءة الروايات الخالدة، وهذا ما ولّد في نفسي ميلاً ورغبةً لقراءة الجديد من الروايات، التي تشكل حدثاً فنياً يتمخض عن ابتكار في السرد أو الرؤية أو التصوير، عسى ولعلّ أن تتربع إحدى هذه الروايات البكر على عرش الخلود، فليس الخلود الأدبي حكراً على من سبق فلبق.


ومما لا شك فيه أن النقاد ليسوا وحدهم من خلد الروايات، بقدر ما كان للجمهور العريض من القراء دوره في استساغة الأصول العلمية لكتابة الرواية، مقارناً ذلك بانطباع وذوق ودهشة جعلت الناقد الذكي يبحث عن معطيات الإعجاب والتأثر والتشويق، كلما هم بالحكم على براعة النصّ الروائي الملهم.
 

لقد حاول كاتب رواية (كوم الخادم) عبدالعليم حريص انتقاء الحوادث، وطرح الآراء والنظريات على ألسنة الشخصيات وملامحها، وهو يؤسس حبكة رواية تسرد عن طريق التداعي والاسترجاع والحلم الاستباقي، طارحاً معرفته الثقافية من بيئة يعرفها يقيناً، مقارناً بين سلوك وسلوك، كاشفاً لطبائع الاستبداد والإفساد في رؤية شمولية، تشير من عتبات المكان إلى تصاريف الزمان.

إنه السرد الذي يقول لنا: إن من الناس من ينسجون الخرافات والأساطير من كل ما يجهلونه، ثم ما يعرفونه، حتى تصبح الخرافات قائدة موجهة لأفكار أصحاب الهيمنة والنفوذ في المدن والقرى، جرياً وراء الثروة أو المنصب أو الوهم.

كما تتجلى للكاتب أن يكون منسجماً بعقله مع عواطفه في لا وعيه، لكن عقله كان أسرع من ريشة الأديب، فكشف لنا عن أعماق شخصية (غانم) المحورية، في حين أنه يمكن استكشافها واستنتاجها من أفعاله، حتى في القضايا التي ضخها الكاتب كحدث الولادة والمحيا والممات، والإيمان والحلم المستحيل، الذي لا يمسك خيطه بعلم سوى ما يشاع في النظر إلى اللقى وغنائم العصور البائدة، وواضح أن الرواية تكاد تشكل (سيناريو لفلم وثائقي)، تشاهد فيه حكايات أيام زمان (فحسن ونعيمه) هنا أحمد وحورية، إضافة إلى ما تستشف من شبه بيوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم، في حدوث المستغرب والمستطرف في سرد صحفي لأحداث هي حديث كل ساعة في الروايات التاريخية والاجتماعية المبطنة بالمعتقدات الشعبية المتوارثة. فالسارد يضيء أسلوب عرضه بتشبيهات واستعارات ورموز موحية بإشارات وتأويلات يستوعبها الشكل الفني، ومن جهة أخرى تغذي المحتوى والمضمون. وقد أجاد الكاتب في تصوير الانتهازي حازم بك وجرجس الراعي، والمدبر المتحكم غانم والمحتال حاييم، والحاضر الغائب في النص نواف.

ومن الجدير بالإشارة أن ذكر شجرة الجن يرد ذكرها في التراث الشعبي العربي، خاصة إذا كانت منفردة في مكان وعر غير مطروق؛ فإذا استظل بها عابر سبيل مصادفة فمن المنطقي أن تكون حركة الريح فيها، أو حركة طير متعب في رحلة ليل مصدر قلق وخوف... ثم تكبر الكذبة ويستفحل الشؤم على سطح الفكرة في المعتقد الشعبي بلا منازع أو منكر.

وهنا نلاحظ أن الكاتب (حريص) أشبه بالباحث الاجتماعي أو المؤرخ النفسي، فالرواية تحكي وقائع قروية قبلية تتحدث عن سلطة المجهول، الخادم للرغبة في صراع الخير والشر والقبح والجمال واللعنة والكرامة، حيث يتجاوز الخيال الواقع في البستان والمحطة كمكانين مفتوحين على أسرار الفرجة الشعبية في المهجورات والمسكونات، كأماكن مغلقة تحتفظ بأسرار جمل يركض على سطح أو تحت أرض.

أما فضاء النص فهو من عنوانه (كوم الخادم)، يكشف تشكيلاً هندسياً لمجرى الخطاب، إذا علمت أن الخادم كامن في مرصود من حجر يملأ فجوات الذاكرة؛ كأن يقول لك العنوان: لا تخدشوا أثر من قبلكم له ما له وعليه ما عليه.. تأملوه فقط.

ومما يلفت النظر في رواية كوم الخادم؛ هو كشف الشخصيات الإمعة التي تنساق وراء المصالح دون بعد نظر، حتى على حساب المبادئ. والمثل التي يحملها الشيخ فاضل أمام حازم بك، ومثله ما تم بين جرجس وفاضل وجرجس وحاييم، أو التستر على قضايا وكسر بيضة الحقيقة أمام إدارة الشرطة، التي توافق على زيف حصل من مقتل حورية ونسبة المولود إلى غانم، وتسميته بدياب لنكون نحن أمام حكاية كنز مدفون على مقربة من معبد سيتي الأول، وذكر لآثار وأنفاق تربط مصر شمالاً وجنوباً، حيث في الرصد القديم تحمي القرية من العقارب والثعابين، واعتقادات أن قبور الأولياء تحرس القرية والمنامات تغير واقع الحال؛ إذ تحلم زوجة غانم أنها ستلد من يخلصها من نهش الأفعى حيث لا أفاع، والمهم أن يجري البحث عن اللقية المباركة، ومشاورة الجازية ذات الحجة القوية في حل المشكلات، والمليحة الجميلة في عيون غانم الذي يستغل الظروف الطارئة من الإصلاح الزراعي إلى النعرات القبلية، وسيادة المجلس العرفي والرايات على المزارع. وفجأة يقتل مهران بواسطة غانم، وتلقى جثته على أطراف القرية نفاق تربط مصر يغسله غانم بنفسه؛ لنفاجأ بحريق يلتهم وخوف نواف من فقدان السيطرة، فابنه نواف يكره سلوكه، وكثيرون يصابون بمس من الجنون أثناء البحث عن اللقية، وغانم موقن أنه وحده من سيهتدي إلى الكنز بسر المسبحة والغلام، فهما صولجان الحكم ليسود قومه وتزداد النذور، حتى أحلام وكوابيس حاييم تتحقق فيفقد عقله، والعاشق أحمد يهذي، والشيخ فاضل والسنوسي يطلبان من غانم أن يبتعد، والطفل دياب عن موقع الحفر ظناً أن الكنز لن يفتح ما دام الطفل الذي أكل أوراقه (السجبة) حيّاً.

وتطول رحلة البحث عن أهل دياب.. ورحلة الحلم في تأسيس مملكة غانم بين السودان ومصر في أرض لا يسر أحداً امتلاكها... وهذه سخرية حلم لمملكة بلا رعية في صحراء جرداء، إلا أن الحدث المفاجئ كان في قرية كوم الخادم، حيث الخربة عند بئر فيه سمك، ثم الأرض تنشق فتبتلع الهدهد والمسبحة والغلام دياب المسكون، لتعود الأرض كما كانت فلم تحقق الجنية وعدها بأن تحرس دياب، ولا غانم فاز باللقية، ولا المملكة المزعومة أقيمت أسوارها، ولا نفع الحجاب ولا الحنش، ولم يبق في أذهاننا إلا فرحة نوّاف بذكرياته عن عرسه، والحصان ومنديل الدم، وطفل اسمه صالح على اسم جدّه ليترك نواف كُنيتُه القديمة (أبو الغائب) لحكايات العجائز والمعدمين، أمام شمس الحقيقة الحاضرة في ثوب جديد.

أما بعد؛ فالقراءة الواعية بين صفحات رواية كوم الخادم ممتعة مشوقة في أحداثها وشخوصها وأساليب عرضها، وتضمين الحكاية بمعلومات وإشارات تصلح أن تكون شهادة على عصر ممتد، حيث كانت الألقاب والمناصب تُشترى بأحمال الجمال من ذهب وكنوز، وحيث كان الاحتيال سيد الموقف والخرافات قائدة للسلوك، ربما هذا ما أراده الأستاذ عبد العليم حريص في سرد رواية كوم الخادم، وهو يكتب عن سرّ المكان الذي عايشه بدقائقه وتفاصيله مسلطاً عليه دائرة الضوء.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها