
"مكناس".. مدينة الحضارة العربية والإسلامية، التي تتمتّع بتاريخٍ عريقٍ ترويه أسوارها، وأبْراجها، ومزاراتها التاريخيّة العتيقة، التي تعبر عن انتمائها للحضارة الإنسانية المتجذرة في عمق الثقافة المغربية الأصيلة بفضل ثراء تراثها الحضاري الأمازيغي، والصحراوي، والجبلي، والريفي، والأندلسي. تطفو فوق الأرض مثل "ربوة خضراء"، تضرب أوتادها في العمق، وتلامس السحاب في الأفق، فتبدو مرصعة بكنوز الطبيعة البكر، التي تلفها من كل صوب كـ"أسطورة قديمة" ما تزال تبوح بأسرارها، ويملأ عبقها المكان.
وصفوها بـ"معشوقة الشعراء"؛ فعندما سُئل الشاعر العراقي "سعدي يوسف" عن أحب المدن التي زارها إلى قلبه، أجاب: "مكناس؛ إنها توازي باريس بالنسبة لي.. مدينة الأسوار والجمال والساحات". لُقِبت أيضاً بـ "مدينة السفراء"، حيث وجد فيها السفراء ضالتهم، فكانت تعبر عن عظمة الحضارة المغربية أصدق تعبير، فضلاً عن كونها مركزاً علمياً يقصده مئات العلماء وطلبة العلم، للتدريس والنهل من ينابيع المعرفة، إلى جانب ما تحويه من حدائق وقصور، وديار معدة للضيافة على الطّراز المغربي الأنيق، حيث تحولت مكناس إلى قبلة للبعثات الأجنبية في عهد السلطان إسماعيل العلوي.
وصفها -أيضاً- ابن الخطيب، وزير غرناطة الشهير، في مواضع كثيرة من مؤلفاته، وأثنى عليها نظماً ونثراً وأنشد، قائلاً:
أن تفتخر فاس بما في طَيِّها .. وبأنها في زيها حسناء
يَكْفيكَ من مكناسة أرجاؤها .. والأطيبان هواؤها والماء
وقال عنها أيضاً: "مكناسة مدينة أصيلة وشعب للمحاسن وفضيلة، فضَّلها الله تعالى ورعاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، فجانبها مريع وخيرها سريع".
ونظم فيها أيضاً الأديب "ابن زيدان" أبياته الأتية :
دارُ الخِلافة لاح نور قبابها .. تختالُ بين رياضها وهضابها
فكأنّمَا الأنهار في جناتها .. يمنى الميك الفخر يوم عبابها
يارصداً لطوالع من سعدها .. فنظام شملك في عضادة بابها

تقع "مكناس" في الشمال الشرقي للمملكة المغربية، على بعد ما يقارب من 140كم إلى الشرق من العاصمة الرباط؛ إذ تبلغ مساحتها ما يقارب من 79210كم²، وتحتل حوالي 11% من إجمالي مساحة المملكة المغربية. وتستقر على هضبة "سايس" على ارتفاع خمسمائة متر، بين الأطلس المتوسط جنوباً، وتلال ما قبل الريف شمالاً. يعبر المدينة نهر "بوفكران" الذي يفصل المدينة القديمة عن المدينة الجديدة. وهي تتوسط منطقة فلاحية خصبة، تمتاز بأشجار الزيتون وحقول العنب. تتميز "مكناس" بالتنوع التضاريسي، حيث تضم سهولاً وودياناً وجبالاً؛ إذ تُطل على مناظر جبلية رائعة، وأهمها "إفران" التي تستأثر بإطلالات شبيهة بجبال الألب. كما تتميز بمناخها المعتدل صيفاً، والمائل إلى البرودة شتاءً، وقد جرى إدراجها ضمن المواقع التراثية التاريخية التي أعلنتها منظمة اليونسكو منذ عام 1996.
تأسست المدينة في عام 711 على يد قبيلة "مكناسة" الأمازيغية، وسميت بهذا الاسم نسبةً لمؤسسيها. وهي واحدة من مدن الإمبراطورية الرابعة في المغرب. أسَّسها المرابطون في القرن الحادي عشر لتكون مقراً عسكريًا. وفي سنة (1082ه- 1671م) تُوفِّي المولى الرشيد ثاني ملوك الدولة العلوية، وبعد وفاته اجتمع الناس على مبايعة أخيه المولى إسماعيل، وهو مؤسس الحكم العلوي. وبعد أن تولَّى المولى إسماعيل الحكم قضى على بعض الفتن الداخلية التي ظهرت في بداية حكمه. وأسس "مكناس" كمدينة مذهلة على الطراز الإسباني المغربي، وأحاطها بالأسوار العالية التي تخترقها بواباتٌ أثريّة تمزج بين المعمار الإسلامي والأوروبي، الذي كان سائداً في المغرب في القرن السابع عشر.

أسس أيضاً المسجد الأعظم بداخل القصبة، ليكون مجاوراً لقصر النصر، الذي كان قد أسَّسه في دولة أخيه المولى الرشيد، ثم أسس الدار الكبرى. عكف السلطان المولى إسماعيل على بناء حضارة "مكناس" بنفسه، وكلَّما أكمل قصراً أسَّس غيره. ولمـَّا ضاق مسجد القصبة بالناس أسَّس الجامع الأخضر، وجعل له بابين؛ باب يفضي إلى القصبة وباب يفضي إلى المدينة. وجعل لهذه القصبة عشرين باباً في غاية السعة والارتفاع، وفوق كلِّ بابٍ برجٌ عظيمٌ عليه من المدافع النحاسيَّة والمتاريس الحربيَّة ما يثير العجب. كما صنع في هذه القصبة بركةً عظيمةً تسير فيها الفُلك والزوارق للنزهة، وجعل بها هرياً عظيماً لاختزان الطعام من قمحٍ وغيره يسع زرع أهل المغرب، وكان بجواره سواقٍ للماء، وفي أعلاها برجٌ ضخمٌ لوضع المدافع الموجهة إلى كلِّ جهة، فضلاً عن إسطبل شاسع لربط خيله وبغاله. يُقال: إنَّه كان يضم اثني عشر ألف فرس.
تميزت المدينة بأنها تقع عند ملتقى الطرق التجارية بين كلٍ من الرباط، والقنيطرة، والدار البيضاء من الغرب، وفاسو، والناظور، والحسيمة من الشرق، بالإضافة إلى طنجة، وتطوان، ووزان، وشفشاون في الشمال، وكذلك إفران، والرشيدية، وخنيفرة، وبني ملال، ومراكش في الجنوب، مما جعلها منطقة عبور واستقرار منذ عهدٍ قديم، خصوصاً في العصر الوسيط. وفي العصر الحديث أصبحت من أبرز العواصم التي لعبت دوراً هاماً في تاريخ الغرب الإسلامي، مما أكسبها أهميةً كبيرة عند حكام المغرب المتعاقبين.
كما استأثرت "مكناس" بعدد من العلماء الأجلاء، من أشهرهم: الشيخ الفقيه القاضي الصالح محمد بن ورياش، ومحمد بن أبي الفضل بن الصباغ، والحافظ محمد السطي، وغير ذلك من الفقهاء والعلماء المؤثرين. تتميّز المدينة أيضاً باحتوائها العديد من الآثار التي تُدهش زائريها من جميع أنحاء العالم؛ أهمها القصر الملكي بأسواره العتيقة، بالإضافة إلى ضريح سيدي عثمان، وضريح مولاي إسماعيل، ومسجد بريمة، فضلاً عن الأبراج التاريخية، ومجموعة الأبواب الضخمة؛ إضافةً إلى مربط للخيول، وصهريج الصواني. فلا تزال آثار بعض المعالم التي كانت موجودة فيها تشكل دلالة على أهميّتها التاريخية كالقصور والدور القديمة، والقباب والمساجد والمآذن، والزوايا والكنائس، والأزقة والساحات.

تعد "ساحة الهديم" بمثابة القلب النابض لمدينة مكناس المغربية العريقة. وهي مقصد هام للزوار من داخل المغرب وخارجه، وأحد أهم المواقع الأثرية التي تزخر بها المدينة، نظراً لموقعها الاستراتيجي بالقرب من باب منصور العلج، ووجودها بين القصبتين المرينية والاسماعيلية. شهدت هذه الساحة أيضاً العديد من الأحداث التاريخية، لعلّ من أبرزها معركة " بوفكران" الشهيرة يوم 2 سبتمبر أيلول 1937، وهي معركة دامية عرفتها ساحة الهديم، حيث يقام فيها كل خميس سوق يقصده الناس من كل حدبٍ وصوبٍ لتسجية الوقت في التراث الشعبي الشفهي والحكايات القديمة، فكانت فضاءً للاحتفالات الشعبية، والحكواتيين. وبمجرد أن يَسدِل الغروب أشعته على الأسوار، يلتف عشاق فنّ "الحلقة" في الساحة، لتغمرها دقات الطبول التي تجذب الجميع على نغم آسر.
هناك أيضاً مجموعة من المزارات ذات الأهمية الكبيرة في مكناس؛ منها : سيدي بوزكري، وهي أكثر الأماكن السكنية اكتظاظاً بالناس، كما تتضمن منطقة صناعيّة؛ لذلك تعتبر العمود الاقتصاديّ للمدينة بأكملها. هناك أيضاً المنطقة التجارية "حمرية"، التي شُيد أول مبنى فيها خلال فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب، ومن أهمّ مبانيها الكنيسة الكاثوليكية، وسينما ريجان، ومحكمة الاستئناف، وعمارة بيرنار، والقصر البلدي، والمعهد الفرنسي، والمعهد الموسيقي، والسوق المركزي، وعمارة الزموري. توجد أيضاً مجموعة من الحدائق التي أسسها المولى إسماعيل والمعروفة باسم "الحبول"، فضلاً عن المدينة القديمة الموجودة داخل نطاق السور القديم للمدينة، وتتضمن العديد من المعالِم أهمها شارع الروامزين، ومنطقة تسمّى بالسكاكين. أما مسجد الزيتونة فهو أقدم مسجد في المملكة المغربيّة، ويتميز باحتفاظه بطابعه الأصلي، إلى جانب قصر السلطان إسماعيل العلوي.
"باب المنصور" هو المعبر الأول للزوار بوسط المدينة، ويقع بساحة الهديم في شرق المدينة القديمة، ويُعدُّ أيقونة المدينة السياحية لأنه أكبر أبواب القصبة وأقدمها. ويتميز بضخامته، وارتفاعه الشاهق، إضافةً إلى أنه مليء بزخارف الفسيفساء، والخزف الملون ذي الطابع المغاربي. وبالقرب من باب المنصور توجد المدرسة "البوعنانية" - التي أسسها السلطان المريني أبو الحسن- بأعمدتها وأبوابها المزخرفة بزخارف رائعة، ونقوش وكتابات على الخشب والجبس. وهي مدرسة علميّة قديمة مثلها مثل مدرسة فيلالة، ومدرسة العدول.
هناك أيضاً ضريح مولاي إسماعيل، الذي يعد أحد أهم مزارات المدينة، ويضم ساعة شمسية، ونوافير مائية متقنة بطريقة هندسية دقيقة تبعث الزائر على التأمّل في تفوق المسلمين فى مجال الهندسة والعمارة آنذاك. وبالقرب من الضّريح توجد سوق قديمة يمكن التجول فيها لاقتناء الهدايا التذكارية. ولمحبي المتاحف والتعرف على الفنون والحياة التقليدية في المدينة هناك مأوى مفضل في قصر دار الجامعيّ الذي بُني خلال القرن 19، وتم تحويله إلى متحف في سنة 1920 تحت اسم متحف الفنون المحلية، ويُعرف اليوم باسم "متحف دار الجامعيّ". ومن أهم المعالم التاريخية أيضاً في مدينة مكناس "برج بلقاري" الذي بني في القرن الثامن عشر، ضمن مجموعة من الأسوار والأبراج التي كانت تحيط بالمدينة، وهو اليوم يحتضن متحف مولاي إسماعيل.

يغلب على المدينة الطابع الروحاني، حيث تستأثر بعدد كبير من المساجد والزوايا، فقد كانت مهداً للعديد من الطوائف الدينية، واستقطبت العديد من المجتمعات الصوفية التي تتجمع لممارسة شعائرها. كما تعد المدينة موطناً لأتباع الطريقة الوزانية، فيما ساهمت طوائف أخرى في ميلاد زوايا عريقة، مثل حمادشة وسيدي علي، وسيدي أحمد دغوغي. تجتمع أيضاً طائفة "عيساوة" الصوفية كل عام من جميع أنحاء المغرب، والجزائر، وتونس، وليبيا، حول ضريح الشيخ "الكامل"، مؤسس المركز الروحي لزاوية "مكناس".
تشتهر "مكناس" أيضاً بثراء فعالياتها المتنوعة التي تُعبّر عن تقاليد وعادات المدينة على مر العصور، فضلاً عن موسيقاها العربية الأندلسية والفن العيساوي، الذي أبدعته الطائفة الصوفية العيساوية التي تأسست في القرن السادس عشر. أما الموسيقى الأمازيغية، فهي مستوحاة من جمال الطبيعة القروية المغربية، وصدى البندير الذي يتحكم في إيقاع الأغاني والرقصات الاحتفالية. كذلك يعد "المهرجان الدولي للثقافات الحضرية لمكناس" الحدث المرجعي الثقافي الأكثر أهمية في المدينة، حيث يضم رقصات فلكلورية متنوعة، ويستضيف فنانين من مختلف دول العالم. هناك أيضاً "المهرجان الدولي لسينما التحريك"، و"مهرجان الرسم الصحفي والفكاهة"، إلى جانب "الملتقي الدولي للفلاحة للمغرب SIAM"، الذي أصبح في غضون سنوات قليلة بمثابة منصة دولية حقيقية تستقبل، ضيوفاً مميزين وفاعلين من منظمات هامة؛ مثل "الفاو"، و"الاتحاد الأوروبي"، و"الاتحاد الإفريقي"، ومختلف المؤسسات الدولية الفاعلة في القطاع الفلاحي العالمي.