مدينة شنترين
شنترين (Santarem) تقع في البرتغال على بعد 67 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من لشبونة؛ فوق ربوة مرتفعة، تقع على الضفة اليمنى لنهر التاجه، أمام حنية نصف دائرية للنهر؛ واستولى عليها الفونسو الخامس القشتالي سنة 485هـ؛ فاضطر ابن بسام إلى الفرار عنها. وقد كانت في الوقت الذي غادرها ابن بسّام من أعمال مملكة بطليوس. واستولى عليها ألفونسو السادس في سنة 486هـ/ 1093م، وذلك خلال غزو المرابطين لمملكة بطليوس، وعجز المسلمين عن المسير للدفاع عنها، واستردوها بعد ذلك؛ غير أنها سقطت في أيدي البرتغاليين عام 542هـ/ 1147م، واستولى عليها ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال، بمُعاونة حليفه الفارس الشهير جيرالدو سمبافور1.
وقد غادر ابن بسام شنترين مع من غادرها من بنيها، خوفًا من سقوطها في أيدي البرتغاليين، وتوجه إلى مدينة إشبيلية؛ ثم انتقل إلى قرطبة عام 494هـ، ودرس على شيوخها، وظلَّ بها بقية عُمره2.
ووصفها الحميري في الروض المعطار بقوله: "مدينة معدودة في كور باجة، وهي مدينة على جبلٍ عالٍ كثير العلو جداً، ولها من جهة القبلة حافة عظيمة ولا سور لها، وبأسفلها ربض على طول النهر، وشرب أهلها من العيون ومن ماء النهر، ولها بساتين كثيرة وفواكه ومباقل، وبينها وبين بطليوس أربع مراحل. وهي من أكرم الأرضين، ونهرها يفيض على بطحائها كفيض نيل مصر3.
ويقول عنها الدكتور عنان: "وشنترين مدينة قديمة ترجع إلى العهد الروماني؛ وهي من مُدن ولاية إسترمادوره البرتغالية، تقع في شمال شرقي أشبونة. وكانت أيام المسلمين نظرًا لحصانة موقعها في مُنعطفِ النهر، وتحتل شنترين ربوة عالية تُطل على بسائط خضراء يانعة، تُغطيها المحاصيل، والحدائق وغابات الزيتون، وهي مدينة متوسطة الحجم مُشرقة الطالع، بها شوارع، وميادين حسنة، ومنازلها مُنخفضة ذات طابقين أو ثلاثة، هادئة الحركة، جافة الهواء، ويبلغ ارتفاعها فوق سطح الوادي 300 متر؛ ويقع قسم من المدينة على ربوة مُقابة أخرى، أقلّ ارتفاعًا من الربوة الرئيسة، وبعض أحيائها على السفح المنحدر نحو السهل4.
شنترين مدينة ذات طابع أندلسي خاص
تبدو المدينة ذات طابع مُميز، بدروبها الضيقة المُتفرعة من شوارعها الرئيسة، وتبدو على المدينة ملامحها الأندلسية، يتجلَّى ذلك حين تنحدر إلى أزقتها الصاعدة الضيقة، وتتأمل طراز عمائرها القديمة. ولا تزال شنترين تحتفظ ببعض معالمها الأندلسية، فتظهر أسوارها القديمة في بعض المواضع، حيث بقي منها جزء يقع في طرف المدينة الشمالي، وراء الكنيسة العُظمى.
وتحت السور في نهاية الحديقة يُوجد عقد عربي يُسمى عقد "أتمارما" ويُطلق عليه بالإسبانية Arco d' Atamrma. كما تضم المدينة عدة كنائس أثرية، منها: الكنيسة العُظمى والمعروفة باسم سان فرنسسكو، وهي كنيسة ضخمة ذات عقود قوطية الطراز، وترجع إلى القرن الثالث عشر الميلادي؛ وقد جُددت بكاملها غير أنّ إفريز مدخلها قديم؛ والظاهر من خلال الأسوار الأندلسية أنها بُنيت فوق موقع جامع القصبة.
ومنها كنيسة القديس يُوحنا Sao Joao، وهي اليوم متحف، ويدل بُرج أجراسها أنها كانت منارة مسجد قديم؛ وكنيسة بيدادي وهي صرح صغير ذو عُقود عربية5.
ابن بسّام الشنتريني صاحب الذخيرة
ترجمته:
هو أبو الحسن علي بن بسّام الشنتريني، ولد بمدينة شنترين، ولا يُعرف تاريخ ميلاده على وجه التحديد؛ وأصله من قبيلة "تغلب" ذات الشأن العظيم، وهي التي أنشد فيها ابن بسّام مُفتخرًا بأصله، فيقول:
يهني قدومك كلاً يا أبا الحكم ... يا دوحة العلم والآداب والحكم
مذ غبت ما رنقت عيني إلى سنةٍ ... يا عمرو إلا لكي ألقاك في الحلم
إن كنت من تغلب في بيت سؤددها... وكنت من مذحج في السؤدد العمم
فلم يضرنا تنائي النسبتين وقد ... رحنا نسيبين في علم وفي فهم6
عن سبب تأليف الذخيرة:
يقول ابن بسّام عن مُؤلفِه هذا: "وعلم الله تعالى أن هذا الكتاب لم يصدر إلا عن صدرٍ مكلوم الأحناء، وفكرٍ خامد الذكاء، بين دهر متلون تلون الحرباء؛ لانتباذي كان من شنترين قاصية الغرب، مفلول الغرب، مروع السرب؛ بعد أن استنفد الطريف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، بتواتر طوائف الروم، علينا في عقر ذلك الإقليم؛ وقد كنا غنينا هنالك بكرم الانتساب، عن سوء الاكتساب، واجتزأنا بمذخور العتاد، عن التقلب في البلاد؛ إلى أن نثر علينا الروم ذلك النظام، ولو ترك القطا ليلاً لنام؛ وحين اشتد الهول هنالك، اقتحمت بمن معي المسالك؛ على مهامه تكذب فيها العين الأذن، وتستشعر فيها المحن"7.
تقدِمَة الدكتور طه حسين لكتاب الذخيرة "طبعة لجنة التأليف والنشر عام 1939م":
يقول الدكتور طه حسين في تقدمته لهذا الكتاب: "هذا أصل من أصول الأدب العربي الأندلسي، ومرجع من أهم مراجعه، دفع صاحبه إلى تأليفه أمران: أحدهما حُبه لوطنه الأندلس، وحرصه على أن يُثبت لها تفوقها في الأدب والعلم، وأن يُثبت هذا التفوق لمُعاصريه؛ والثاني حرصه على تقليد الثعالبي في كتاب اليتيمة الذي صوّر فيه أدب معاصريه من الشعراء والكتاب؛ وهو قد سار سيرة الثعالبي في العناية بالملوك والأمراء والرؤساء وما يكون من تأثيرهم في الأدب، وما يكون من إنتاجهم الأدبي الخاص. غير أن عنايته كانت أشدّ وأقوم، وأجدى من عناية الثعالبي؛ وقد قام بعرض تاريخهم عرضًا مُفصَّلاً، ويرد آثارهم الأدبية إلى مصادرها.."8.
دوافع تأليف ابن بسّام لكتابه الذخيرة ومنهجه:
قسّم ابن بسّام كتابه لأربعة أقسام على نحو ما فعل الثعالبي؛ وتقسيم ابن بسّام وفقًا للأقاليم:
القسم الأول: لقرطبة وما يُصاقبها من وسط الأندلس ويضم 34 شاعراً.
القسم الثاني: لإشبيلية وما يُصاقبها من غرب الأندلس، ويضم 46 أديبًا وسياسيًا.
القسم الثالث: لبلنسية وما يليها من الجانب الشرقي للأندلس، ويضم 33 أديبًا وسياسيًا.
القسم الأخير: للملمين بالأندلس والطارئين عليها من أهل الشرق عامة، ومن أهل أفريقيا بنوعٍ خاص، ويضم 32 أديبًا وسياسيًا9.
وقد سار سيرة الثعالبي في العناية بالملوك والأمراء والرؤساء، وما يكون من تأثيرهم في الأدب، وما يكون من إنتاجهم الأدبي الخاص، ولكن عنايته بهذه الناحية من الحياة الأدبية كانت أشدّ وأقوم، وأجدى من عناية الثعالبي؛ فهو لا يكتفي بعرض مقتطفات من الآثار الأدبية للملوك والوزراء، لكنه يعرض تاريخهم عرضًا دقيقًا مُفصلاً، ويردُّ آثارهم الأدبية إلى مصادرها.
جهود المستشرق ليفي بروفنسال لنشر كتاب الذخيرة في القاهرة
تمكّن قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة (فؤاد الأول وقت نشر الكتاب عام 1937م)، بمعاونة الأستاذ ليفي بروفنسال مع مجموعة من شباب كلية اللغة العربية وقتها منهم محمد عزام أفندي، وخليل عساكر أفندي، وبخاطره الشافعي أفندي؛ وقاموا بتهيئة نصّ الكتاب للطباعة، وقد قاموا بتصحيح ما اعوجَّ على النُساخ من الألفاظ، وصححوا ما بالنسخ من أخطاء. ثم تألفت لجنة من أساتذة الكلية منهم: أحمد أمين، وعبد الحميد العبادي، وعبد الوهاب عزّام، وليفي بروفنسال، وطه حسين، وكُلفت بقراءة ما رتبته اللجنة الأولى من النص؛ يقرأ كل منهم منفردًا؛ ثم مُجتمعين، ويعرض كل منهم ملاحظاته، حتى إذا أقرّوا النص أذنوا بطباعته10.
ولم يُرتب ابن بسّام تراجمه حسب السنين؛ وإنما رتبّها حسب مكانة المُترجم له كما رآها، وكان عادةً ما يبدأ بترجمة العلم المُراد، شاعرًا أو كاتبًا أو سياسيًا، في نثرٍ بديعٍ مسجوعٍ، ثم يذكر مؤلفاته، ويُطري مواهبه الأدبية، ثم يعرض لمقتطفات من شعره ونثره. كما قصر مُؤلفه على أهل زمانه من منتصف القرن 5هـ/ 11م وحتى منتصف القرن 6هـ / 12م. وأجمعت المصادر أن تاريخ وفاة ابن بسّام الشنتريني سنة 542هـ بإشبيلية.
المصادر والمراجع: 1 - محمد عبد الله عنان، تراجم إسلامية، ص: 299. ┋ 2 - محمد عبد الله عنان، تراجم إسلامية، ص: 299.┋ 3 - الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق إحسان عباس، مؤسسة ناصر الثقافة، بيروت، 1980م، ص: 346؛ الحميري، صفة جزيرة الأندلس، الطبعة الثانية، دار الجيل، بيروت، 1988م، ص: 113.┋ 4 - محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، ج8، الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال، مكتبة الأسرة، 2003م، ص: 425.┋ 5 - عنان، دولة الإسلام في الأندلس، ج 8، ص: 428.┋ 6 - ابن بسّام، الذخيرة، ج4، طبعة لجنة التأليف والنشر، 1358هـ/ 1939م، ص: 597.┋ 7 - ابن بسام، الذخيرة، ج1، ص: 19.┋ 8 - ابن بسام الذخيرة. ┋ 9 - بغداد عبد الرحمن، ثقافة التأليف ودوافعه في التراث الأدبي الأندلسي، مجلة التعريب، المركز العربي للتعريب والترجمة والنشر، المجلد 28، العدد 55، 2018م، ص: 287؛ الطاهر أحمد مكي، دراسة في مصادر الأدب، دار الفكر، ط 8، 1999م، ص: 318-319.┋ 10 - ابن بسام الذخيرة، القسم الأول، المجلد الأول.