بَوادرُ التّجديد عند شُعراء المغرب العربيّ

عباس الجراري والحديث عن الشعر

د. حفيظ اسليماني



افتتح الجراري حديثه بالقول أعني التجديد في مفهومه العادي البسيط المقابل للتقليد، أي تجاوز السابقين بالابتعاد عن النسج على منوالهم، والإتيان بما لا يطابق ولا يماثل ما أتوا به. وهو في الشعر يمس الشكل أو المضمون، وقد يمسهما جميعاً، انطلاقاً من تصور معين لمفهوم الشعر وطبيعته ووظيفته، وحسب طاقة الفعالية التي تجعل منه عامل تغيير للماضي وإنماء الحاضر، وربما استيعاب أبعاد مستقبلية قادرة على الإضافة والتأثير وتحويل الأنظار والآفاق.


في إطار هذا المفهوم يسوق لنا الجراري بوادر متخيرة من مسيرة الشعر في أقطارنا المغربية، وممثلة في نفس الوقت لمختلف أنماطه التعبيرية وهي:
1- فن التوشيح عند شعراء المغرب العربية.
2- الشعر الشعبي في تونس والمغرب.
3- إحياء القديم عند الشعراء الصحراويين في المغرب وموريتانيا.
4- تجديد الشعر التونسي الحديث.

بخصوص البادرة الأولى يؤكد الجراري قائلاً الذي ألفت النظر إليه هو أن المغاربة في إحيائهم لهذا الفن (الموشحات) تعاملوا معه بشيء غير قليل من الحرية، فهم من حيث الهيكل لم يتقيدوا بما قننه ابن سناء الملك للموشحة العادية، وهي ستة أقفال وخمسة أبيات، فجاءت موشحاتهم تتراوح بين قصر يصل إلى ثلاثة أقفال وبيتين كما عند الحراق، وطول يبلغ أربعة وأربعين بيتاً كما عند أبي العباس سيدي أحمد بن عمار صحاب "نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب".

كذلك نجد عند بعض الوشاحين المغاربة وحدوا قافية الأبيات، وتفننوا في تقفية الأغصان والأسماط توحيداً واختلافاً. كما أنهم حاولوا التلاعب بالمطلع والخرجة وأجزائهما، ولاسيما في المعارضات كما عند الغساني وابن زاكور، بل إن بعض الموشحات جاءت فيها الخرجة أطول من بقية الأقفال كما عند هذا الأخير، وبعضها جاءت بدون خرجة كما عند حمدون. أما عند آخرين كالسناني، فإننا نجد الموشحة تتخذ شكلاً خاصاً لا تراعى فيه مقاييس التوشيح المعروفة.

هذه وغيرها من الخصائص تثبت أن المغاربة تعاملوا بشيء من الحرية مع فن التوشيح، في محاولة لتجاوز مقاييسه المعروفة. ولا شك أن هذه بادرة للتجديد انطلقت من التوشيح، ولكنها وقفت عند هذا الحد ولم تتعده إلى ما ينتج نوعاً جديداً من الشعر.

والبادرة الثانية، متصلة بالشعر الشعبي، وخاصة النوع المعروف بالملحون أو القصيدة الزجلية، وهو نوع يمتاز في المغرب العربي بغنى مضامينه وتنوع أشكاله واطراد تجدده، فضلاً عن طبيعته التي تجعله في الإطار الشعبي أقرب إلى الشعر المعرب وإلى نفوس الشعراء المدرسيين، بل إن غير قليل منهم كانوا يبدعون فيه.

في تنوس مثلاً يذكر الجراري نجد أن هذا الشعر يتمثل في أربعة أنواع، تكشف عن مدى تطوره وتجدده، وهي:
1- القسيم.
2- الموقف.
3- المسدس.
4- الملزومة.

وهي أنواع يختلف بعضها عن بعض من حيث تشكيل الأدوار، أو الوحدات البيتية، وعدد الأشطر أو الأغصان داخل البيت، واتحاد القافية أو اختلافها داخل هذه الوحدات.

ولم يقف تطور الشعر الشعبي عند هذا الحد من التنويع – تشكيل الإيقاع والوزن- بل تعداه إلى أبعد من ذلك حيث نجد شاعرا يدعو في منتصف القرن العاشر الهجري إلى الثورة على قيود الوزن والقافية والإطار كذلك. هذا الشاعر هو إدريس المريني المغربي.

ثم تأتي البادرة الثالثة من شعراء الصحراء متمثلة في حركة إحياء للشعر القديم، سابقة على حركة البعث في مصر، وقد برز فيها شعراء كثيرون عرفهم الجنوب المغربي والقطر الموريتاني خلال القرن الماضي والقرن الحالي، أمثال لمجيدري بن حبيب الله، ومحمد بن الطالب، وعبد الله محمد الأديب، والبشير بن عبد الله الشمشاوي، وعبد القادر بن عبد السلام، وإبراهيم البواري والبشير الغلاوي، وأحمد اليعقوبي وغيرهم.

وقد تميزت مدرسة البعث الصحراوية هذه بأن شعراءها وجدوا في الشعر الجاهلي والأموي ما يوافق طبيعتهم، فانطلقوا يبدعون شعر نحس فيه مجالاً نفسياً يتلاءم والمجال المتسع عندهم في الزمان والمكان.

وهنا لا بُدّ أن أشير -يضيف الجراري- إلى أن مدرسة الإحياء المصرية، حيث حاولت بعث الشعر القديم كانت عاجزة عن تذوقه ونقده، ومن ثم اقتنعت بقراءة بعض نماذجه والانفعال بها، والتأثر بما فيها من أنغام وأوزان؛ أي أنها استوحت الجو الموسيقي للشعر القديم دون أن نعيش جوه المعنوي، وهذا ما مكن لغنائية الشعر عند هذه المدرسة، وجعلها لا تتخذ القديم نموذجاً ولكن مصدر إيحاء. ولو أنها فعلت، أي لو أنها اتخذته مثالاً على حد ما فعل شعراؤنا الصحراويون –وإن بالتقليد- لكان عطاؤها كثر، ولكن يبدو أن طبيعة الشعر القديم، ولاسِيما من حيث اللغة، كانت تطرح صعوبات على شعراء البعث المصريين. ولهذا رأيناهم يهملون الشعر الجاهلي والأموي ويتجهون للعباسي.

البادرة الرابعة، متعلقة بالتجديد عند شعراء تونس في أوائل هذا القرن المعروفين بنزعتهم الرومانسية، يدعون إلى الثورة على الأدب القديم، والتركيز على الوجدان وضرورة التعبير عن النفس وشعور الفرد، ومن وراء تلك النفس وهذا الشعور ضمير الشعب التواق للحياة الحرة الكريمة، أمثال عبد الرزاق كرباكة شاعر النفس والوجدان، ومحمد بو شربية، وكانت تطغى عليه روح الكآبة والتشاؤم، ومصطفى خريف الذي اعتبره الشابي شاعر تونس الأول.

إن الدراس للشعر التونسي الحديث حسب الجراري لا يلبث أن يلاحظ بوادر الشعر الميال إلى التحرر من القيود العروضية في سنوات الثلاثين، على يد شعراء كالشابي، ومحمد العريبي، والبشروش، ومصطفى خريف، والعروسي.

ويمكن تفسير قلة المحاولات التجديدية وبطء مفعولها، على هذه المحاولات –مع قلتها وبطئها- تنم عن الإحساس بضرورة التطوير، وهو إحساس مختزن في باطن الأجيال، تظهر بوادره فتثمر أو لا تثمر، ثم لا تلبث أن تختفي لتعيد الظهور مرة أخرى أو مرات.

يقول الجراري: فإننا لا بُدّ أن نلاحظ أن تطوير القصيدة من حيث مضامينها؛ أي في الخط الفكري، مرتبط بالتغير الثقافي الشامل، وهو مشكل ما زال مطروحاً على الثقافة العربية. هذا ما جعل شعراءنا خلال التاريخ يلقون بمحاولاتهم التطويرية على الشكل أكثر مما يلقونها على المضمون، لإمكان تحقيقها انطلاقاً من ذات الشاعر، لارتباط الإيقاع الموسيقي بنفسه، وما يتدفق فيها تلقائياً –بدون تدخل العقل- من عواطف وأحاسيس.

على أن ما نطمح إليه في نظر الجراري، هو أكبر من مجرد تغيير في الإيقاع واللغة والشكل عامة، إنه توسيع نطاق الوعي بالتجربة الوطنية والقومية والإنسانية، وفسح مجال آفاق الحساسية لما يتعدى مدارك الخيال العادي للفرد.

إن شعرنا الآن يعيش فترة مخاض، ولكن الشعراء مطالبون بأن يعوا القضايا المختلفة التي تولدت عن النهضة الشاملة في بلادنا، وأن يتجاوبوا معها، ويمارسوا التعبير عنها ليعكسوها. وبدون ذلك سيكون شعرنا برغبته التطويرية صناعة عقلية، أو عملاً تجريدياً لا صلة له بوجدان الشاعر ومجتمعه، فضلاً عن أن يفتح هذا الوجدان أو يعمقه ويكثفه، هكذا ختم عميد الأدب المغربي عباس الجراري قراءته لموضوع بوادر التجديد عند شعراء المغرب العربي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها