الشعر يحفر فيما نجهله عن أنفسنا؟

حـوار مع الشاعرة إدا فيتالـي

ترجمة: عبد اللطيف شهيد



تبلغ من العمر أربعاً وتسعين عاماً، كانت نجمة معرض الكِتاب بمدريد، وتوصي أولئك الذين يبحثون عن صوتها الشعري: "عليكم أن تقرؤوا الكثير إذا أمكن".
 

إيدا فيتالي Ida Vitale آخر شاعرة لِما يسمى بـ"جيل 45" -الذي يضم مؤلفين مختلفين مثل "خوان كارلوس أونيتي Juan Carlos Onetti"، و"إيديا فيلارينو Idea Vilariño"، "وماريو بينيديتي Mario Benedetti"، من بين آخرين- وهي عميدة وناقدة أدبية كبيرة. وقد حصلت على العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة الملكة صوفيا للشعر سنة 2015، وجائزة فريدريكو غارسيا لوركا في عام 2016.



أستاذة إيدا لديكم ميل نحو الإيجاز، ولكن عندما بدأتم في كتابة القصائد، كانت طويلة، لماذا؟

ربما كان ذلك قياساً؛ لأنني بدأت في استعمال الأوزان. الوزن لديه كمال الشكل، القياس والإيقاع، الالتزام بالامتثال لهيكل محدد دائماً يكون جيِّداً حتى لا يخرج عن إطاره. لكنني لم أنقل تلك الأوزان في الكتب. أعتقد أن كثرة القراءة ساعدتني أيضاً. (بابلو) نيرودا يُثير الإعجاب، لكن إذا كنت تنوي تقليد نيرودا فقد تكون النتيجة كارثية. عليك أن تقرأ كثيراً، وإذا أمكن لمؤلفين مختلفين: سيكمل أحدهم الآخر، والآخر سيرفض الأول أو يقترح شيئاً آخر. ربما من الكل ستحصل على واحد أكثر نموذجية.


الشاعرة ماريا أوخينيا فاس فريرا


ولكن في البداية، كنتِ تودّين الكتابة بطريقة ماريا أوخينيا فاس فريرا María Eugenia Vaz Ferreira "شاعرة من الأوروغواي (1875/1924)"، ودلميرا أجوستيني Delmira Agustini "شاعرة من الأوروغواي (1886/1914)"؟

لا، لم أنوِ أبداً أن أكتب "على طريقة...". لحسن الحظ، كنت أقرأ أيضاً نيرودا و(فيديريكو) غارسيا لوركا. على الرغم من أن دلميرا ستكون مثالية، إلا أنني أفضل ماريا أوخينيا الأقل إتقاناً، ولكن تتماشى مع الأساسيات وتسعى إلى الإيجاز.

في "ألف باء السيد بيوبو" كتبتِ ما يلي: "الشيء المهم هو ما يوجدُ أسفل السطح، يتشكك بيوبو. "لذا يحفر، يحفر"... هل يمكن تطبيق هذه الفكرة على الشعر؟ هل الشيء المهم يوجد تحت سطح القصيدة؟

بالطبع، من المفروض أن الأفضل هو أن لا يبوح النّص بكل شيء، ويترك فضولًا للتفسير وهذا هو الذي يُعتبر تحت النص. فكل كلمة تحتوي على سلسلة من الطبقات، والحفر هو ما سيوصِلُنا أبعد من السطح.

في نص آخر من "ألف باء السيد بيوبو" ستستحضرون بعض الأبيات التي كتبها لويس دي جونجورا Luis de Góngora: "البحر ليس أصماً، المعرفة خادعة". لماذا تعتقدون أن المعرفة تخدع؟

أظن أن معرفة القرن السابع عشر ليست هي معرفة القرن الحادي والعشرين، فهي أصبحت تنحو نحو الاستخدام التعسفي لعبارة ما أو أسلوب ما، ولكن بالإضافة إلى ذلك، سيكون من الضروري توضيح معرفة ماذا... قد توجد طباخة عارفة. إذا أخذنا بالاعتبار وجهة نظر اللغة، فإنها تأخذ منحى آخر. اللغة مستقلة ولكنها حاسمة أيضاً. غالباً ما تتجلى المعرفة في اللغة ومن هناك تمر إلى القصيدة، لكن الشيء المهم هو العلم الذي وراء ذلك، عندما نفكر في العلم، وكل هذا يتوقف على الزاوية التي ننظر منها.

ما الذي يحاول الشعر تحقيقه؟ هل التقاط لحظة ما؟

نعم، أو على الأقل يحاول... من أهم مهام الشعر، على الرغم من عدم إدراكه بذلك، إنقاذ الماضي. يمكننا أن نتخيل المستقبل، لكن الماضي هو شيء يميل إلى الضياع وقد يكون له توقف في الشعر بالكلمات. علاوة على ذلك، إنها طريقة للحفر في ما نجهله عن أنفسنا، وإلا فإن كل شيء سيكون منطقياً للغاية ويمكن تفسيره. في بعض الأحيان يكون من الغريب جداً العثور على دفتر ملاحظات يحتوي على أفكار مكتوبة أو بيت شعري. لماذا هذا؟ ما المقصود؟ من أين يأتي هذا؟

ماذا يعني نشر ديوانكم الأول "نور هذه الذاكرة" الذي مرَّ على نشره أكثر من سبعين عاماً؟ هل أعطاك الثقة في كلمتك الشعرية؟

أنا لا أثق في كلمتي كثيراً... إن اقتناعي بكتابة قصيدة جيدة يمكن أن يدوم خمسة عشر يوماً. لقد نشرت هذا الكتاب لأنه كان هناك مدرِّسون، أناس ودودون، ساعدوني. شعرت بالرضا، لم أفكر أبداً أنه ديوان غير مفيد. في الطبعة الأخيرة من الأعمال الكاملة لقصائدي، هناك بعض القصائد من ذلك الكتاب حتى لا أزيِّف بداياتي. الشعر كان غائباً عن اهتمامات عائلتي، على الرغم من وجود مكتبة. بالنسبة لي، كانت صورة جدي التي لم أكن أعرفه، ولكن وجدت آثاره في كتاب جاء من إيطاليا حاملاً الإلياذة باليونانية واللاتينية، كان الكتاب مهترئاً، طلبَتْ منّي إحدى خالاتي أن أقوم بتنظيف المكتبة مرة في الأسبوع، كانت تلك فكرتها الماكرة لأن أقترب من الكتب. كنت أنظف كتاب تولستوي باللغة الفرنسية ولم أفهمه. شعرت أنه كان من زمن آخر والكتاب كان أقرب. يبدو لي أن الطفل في الوقت الحاضر قد أصبح أكثر طفولية، لكنها اللحظة التي يتعلم فيها أكثر من غيره؛ إنه ليس استغلالا بل تقدماً. إن المعرفة لا تضر ولا تحتل مكاناً، كما يقولون. يمكن أن تأتي العلاقة مع الكتب بطرق شتّى، والشيء المهم هو عدم الاكتفاء بكتاب واحد.
 



ما هو أهم كتاب بالنسبة لكم؟

كان ذلك في إحدى السنوات التي أهدتني فيها أستاذة الصف الثالث كتاباً، وهو العام الذي أصابني فيه الكثير الأمراض: الأنفلونزا، الحمى القرمزية والحصبة الألمانية... أهدتني المعلمة "الرحلة الرائعة لنيلس هولجيرسون"، للكاتبة سلمى لاغرلوف، وفي وقت لاحق أهدوني العديد من الكتب بمناسبة أعياد ميلادي وهناك وقع تنازع مع جدتي؛ لأن جدتي كانت تحب قراءة الكتب التي تُهدى لي. تسألني: "أظن أنك لن تقرئي هذا الكتاب على الفور، هل يمكنني قراءته"؟ وكنت فخورة جداً بإعارة جدتي كتاباً. كنت أحلم باقتراب عيد ميلادي لأنّني سأرافق صديقة خالتي إلى محل بيع الكتب وتدعني أختار. واخترت كتاباً أعتقد أنه كان لجول فيرن Jules Verne. لكن كل طفولة هي مختلفة عن الأخرى.

كيف تطوَّر شِعرك؟

أعتقد أنني لم أتغير كثيراً... لم أسمح لنفسي أبداً بالذهاب إلى الجانب السردي للشعر، هذا الشيء الذي يُروى كثيراً، سيرة ذاتية جداً. ربما عليك أن تفكر في من تتحدث إليه بالقصيدة وكيف سيتلقاها. ربما أفضل كتبي هي المنتصف. ثم، تبعاً لذلك بدأت في السقوط. أنا حقاً أحب النثر وقرأت النثر أكثر من الشعر. يبدو لي أن النثر لديه المزيد من الحيل. أنا حقاً أحب النثر الجيد، لا يمكنني تحمله عندما يكون سيئاً. نفس الشيء يحدث لي مع الشعر. غير أن الشعر أمره سهل، فمن النادر جداً أن ديواناً لا يعجبني منذ البداية، ثم أعثر على القصيدة الرائعة في المنتصف. أنا أحب الأشياء المختلفة للغاية. يمكنني الإعجاب بنيرودا ويمكنني الإعجاب بـ(سيزار) فاليجو (César) Vallejo، اللذان يختلفان بشكل كبير. أو غابرييلا (ميسترال)، وهو التفوّق الكلي، الإيجاز. غابرييلا ليس اسماً عادياً في الأدب.

يبدو اسمك أقل شيوعاً، ولكن أصبح مألوفاً بين شعراء ورواة القصص الأورغوائيين مثل أرمونيا سومير Armonía Sommers أو إيديا فلارينيو Idea Vilariño، أليس كذلك؟

هذا بالنسبة للعائلات اللاسلطوية. جدّي كان معادياً لرجال الدين، لكنه لم يكن سلطويّاً. لذلك سماني إيدا واسم والدي كان بوبيلو تيسيو؛ منحدر من التاريخ والأدب الروماني.

كيف عِشتِم تجربة المنفى؟

بالنسبة لي كان الأمر تحريراً لأن الأجواء بالأوروغواي كانت لا تُطاق. كانت ابنتي أمبارو، التي كانت طالبة هندسة معمارية في خطر. هناك فرق بين أن ترغب في الرحيل وأن تستطيع الرحيل. وأين؟ زار السفير المكسيكي لدى الأوروغواي مكتبة لوسادا ذات يوم بمناسبة تكريم لدولة المكسيك. وقد طُلِب من (فييرو) إنريكي (الزوج الثاني للشاعرة) الكلام، وانتهى الحفل؛ سلَّم السفير وغادر. بعد ثلاثة أيام، التقى (كارلوس) مارتينيز مورينو، وهو صديق لنا، وهو بالمناسبة كاتب جيد، بإنريكي وقال له: "سوف تُغادرون إلى المكسيك". سأله إنريكي من أين حصل على هذا الخبر. "أخبرني السفير بذلك"... ذهب إنريكي للتحدث إلى السفير، الذي قال له: "أعرف أن الأمر يزداد سوءاً، أريد أن آخذك إلى المكسيك، لكن لا يمكنني أن آخذك سوى كطالب". وغادرنا في عام 1974. ابنتي أمبارو سبق أن أرسلتها مع والدها (أنجيل راما) إلى فنزويلا، قبل بضعة أشهر؛ لأنهم قاموا بتفتيشنا في المنزل وجاءوا للبحث عنها... كانت المكسيك سخية جداً معنا، كانت لديهم تجربة سابقة في استقبال المنفيين من الحرب الأهلية الإسبانية. وبعد فترة قصيرة كنت من مؤسّسي صحيفة "واحد زائد واحد".

ماذا يعني لكم الاشتغال مع أوكتافيو باث Octavio Paz في مشروع مجلة بويلتا "Vuelta

أوكتافيو كان يمنح الحرية أكثر، وإذا لم تستفد من الحرية، يقلِّل من شأنك. أتذكر مرَّة، أنني سجلت ملاحظة حول كتاب في صحيفة واحد زائد واحد التي أديرها، وفي العاشرة صباحاً اتصل بي لمعرفة ما إذا كان لديَّ ذلك الكتاب؛ كانت ملاحظة حول كتاب كنت قد نشرته سابقاً بمونتيفيديو وأعدت نشره، ولم يكن لدي الكتاب فقد تركته بالمكسيك. ولكن في العاشرة صباحاً، كان أوكتافيو يقرأ بالفعل جميع صفحات الصحف. كانت لديه قدرة لا تصدق على العمل ولديه رؤية مؤكدة للمستقبل السياسي. ولم يكن الوحيد. لقد أعطت المكسيك أشخاصاً رائعين، مثل ألفونسو رييس Alfonso Reyes. في المكسيك هناك احترام للثقافة والتقاليد؛ إنهم دائماً يعودون إلى كلاسيكياتهم. أتذكر أن أوكتافيو أخبرني أن أعمال خوانا إينيس دي لا كروز Juana Inés de la Cruz لا يمكن تركها للكنيسة، وكان على حق. كانت تلك السنوات بالنسبة لي في المكسيك غنيّة بامتياز.

ماذا حدث عند عودتكم إلى الأوروغواي؟

في سنة 1985 مع وصول الديمقراطية عُدنا. تم تعيين إنريكي (فييرو) مديراً للمكتبة الوطنية، لكن الأمر كان معقداً للغاية. بعد إحدى عشرة سنة من الديكتاتورية العسكرية، أخذوا على عاتقهم تدمير كل شيء. وفي النهاية ذهبنا إلى جامعة أوستن عام 1989. بعد وفاة إنريكي، ذهبت أحل بعض الأمور في الولايات المتحدة، وقبل عام عدت للعيش في مونتيفيديو.

ما أمر هذه الرواية التي تكتبين؟ هل أنهيتها؟

الرواية تنام نوم الصالحين في الدرج لأن هذا أفضل شيء يمكن أن يحدث لها: نسيانها. من المؤكد أنها ستصبح متجاوَزة. الروح الناقدة تكون مثيرة دائماً بسبب ما يكتبه الآخر. أحتاج أن أنسى الرواية حتى تبدو مكتوبة من قبل شخص آخر. في الوقت الذي توفي فيه إنريكي، كنت أقوم بتصحيح مسودة لكتاب عن المكسيك، وهو كتاب ضروري بالنسبة لي، ثم انقطع أمر تصحيحه، وأمنحُ نفسي دائماً العذر أني أريد أن أكتب الصفحة الأخيرة، ولكن مرت سنتان. إني أحتفظ بكل شيء إلى أن أنساه.


المصدر
La poesía escarba en lo que no conocemos de nosotros mismos > Por Silvina Friera
https://www.pagina12.com.ar/113031-la-poesia-escarba-en-lo-que-no-conocemos-de-nosotros-mismos?fbclid=IwAR1YDvL5e3uoH7GZE5KXIl7h3grtiojTXGR8RaoycYvfPSjBmbxIZxpOjt

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها