"دخول" مهارة فائقة لوجود الذات داخل النصّ.. وهي مُحرّك السردِ عبرَ خيالٍ ابتكاري في "متوالية قصّصية" واقعية وفوق واقعية، الراوي الأوحد الذات، وعبرَ ضمير المتكلم لا يبدو النصّ ملتبساً شائكاً فقط، بل مانحاً وجاذباً لكُلّ قصّةٍ حكاية، و"الحكاية هيَ الأهم" – كما يقولُ هنري جيمس، شحنة فائضة من الخيال المنتج، يُمكن أن تتطوّر القصّة – الحكاية عبرَ لغةٍ ماتعةٍ مانحةٍ، وتُقرأ "نوفيلا NOVELA".
"دخول" جاءت إلى القارئ بتقنيةِ "حكايات" – بورخيس الجميلة التي حافظت بحنكة وذكاء الساردِ، عبرَ جملةٍ وعبارةٍ راقيةٍ، على المسافة بين القصّة والمقالة، في إيقاعٍ حكائي سرديّ باذخ الرؤى.. هذا ما كانت عليه فنيّاً، وما يُمكن قراءة "اللوحات" أو "المتواليات" القصصية للشاعر والكاتب القدير عبدالفتّاح صبري.. كُلّ لوحةٍ، بما فيها من بساطةِ وعبقريةِ التشكيل بإيقاع "النوفيلا" تارة، وهي "القصة – المقالة"، و"القصيدة" التي ظلّت الطريق تارةً أخرى.
كُلّ كتابةٍ شعريةٍ أو نثريةٍ في طورها الأول، الضاج بعاطفةٍ لا سلطان عليها، هي كتابة ذاتية – أوتوبيوغرافية AUTO BIGRAPHY بامتياز!!
يقولُ "يوجين دابي": "لا شكَ في أنّني لا أكتبُ هنا أشيائي الحميمة السريّة، ولا أيّ شيء عن أفكاري المضطربة بنوعٍ من الحرجِ.. والمكتوب رُبّما يخصّني أقلّ، لمْ أعُدْ وحيداً مع أفكاري الحميمة".
"دخول" اللوحات الروائية.. والمتوالية القصصية نوعٌ من الكتابة – الحُلم.. الكتابة – الحُريّة.. كتابة الذات. وحسب ناب Nabe: "كُلّما تمّت معرفة حياتي بتفاصيلها، أصبحتُ حُرّاً"..!!
هذه المتواليات السردية، وهي تنحو في تقنيتها أسلوب "السهل الممتنع" في لغةٍ بدت الكلماتُ فيها تكتبُ نفسَها بنفسِها.. وتُقرأ في عدةِ أبواب، ويُمكنُ الدخول إليها في حالةِ جذبٍ، وهيَ خلاصة معاناة الذات المتشظية الباحثة أبداً عن ذاتها: (الوطن، السلطة، المرأة، الايروتوكيا، الحُريّة).. وفي مقدمة هذهِ الأقانيم "السلطة" حينَ لا يبدو الوطن "الشكل الهندسي للعقل الكلي، وللحرية العُليا" – كما يُعبّر "تيري أجيلتون".. ولا يبدو حكماً عادلاً، يزهو بمواكب الفخر والانتساب إليه، بلْ حاكم ومستبد، غريزة السلطة التي لا ترى إلاّ نفسَها في مرآةِ الواقعِ المهشّم. يقولُ "ماريو فرجاس سوسا: "غريزة السلطة السياسية تدمير العقل البشري، وتدمير المبادئ والقيم، وتحويل الناس إلى وحوشٍ صغيرة".
"دخول" لوحات قصصية تشكيلية بألوان قاتمةٍ للإنسان، وهو كُتلة قلقٍ وخوفٍ ورُعبٍ من المجهول، والآتي الغامض، والراوي الأوحد "ضمير المتكلم" "أنا" وهو في الوقتِ نفسه "الآخرون"، حيث الألم والمعاناة واحدة، وهي قدرُ الإنسان، حينَ يقذفُ بهم تحتَ أنياب السلطة الحاكمة، ويجدونَ أنفسهم متهمين، هكذا مصادفة من دون تهمةٍ، وفقَ كيمياء السلطة، والوطنُ نائم، لا يبدو في سريرٍ وثيرٍ، ومواطنون مجازاً، يعيشون القلق والخوف، الوسيلة الأمثل لاستعبادهم، والسيطرة عليهم، واستلاب إرادتهم.. ومع الراوي لا يبدو القلق مكوناً إنسانياً أزلياً وكونياً وحسب، بلْ اسم آخر للإنسان البسيط، وهو يبحثُ عن رغيفِ يومهِ، ولا تعريف لهُ للوطن غير الحياة والأمان، والصلاة على قِبلتهِ التي لا يُمكنُ تغييرُها.. فقط يعرفُ أنهُ يُحبُّ الوطن، ويموت في اليوم ألف موتةٍ حينَ يستعبدهُ الوطنُ من خلال حُماتهِ الزخرفيين، وحُراسهِ الواقعيين والافتراضيين، ويتلاعب بحياتهِ في عبثٍ ولا مبالاةٍ وسخريةٍ.. ولا يبدو لهُ الوطن – السلطة سنداً عادلاً، بل الحاكم والمستبد، وعدوّاً من نوعٍ آخرَ.. والراوي مُتّهمٌ وهو في رحمِ أمّهِ:
"في جلستي غير المستريحة، ذهبتُ أقلب المكان وتفاصيله المهترئة بإمعانٍ أكثر، باطني يبحثُ في أسبابِ وجودي هُنا والتي لمْ أعِها بعدُ" [ص: 11].
عبرَ فقهِ السردِ NARRATIVE، بوعي ولا وعي، نتعلمُ الخوفَ من الحكومة ومن السلطة، وبفقهِ سردِ "أوسكار وايلد: " كلّ سلطةٍ إلى نكران" و"كلّ سلطةٍ مكروهة".. وعلى لسان جدّاتنا وأمهاتنا الطيبات ليسَ سوى التحذير والخوف من العسكري والشرطي، وأحياناً كلّ شخصٍ بملابس رسمية ويعملُ في أجهزة الدولة. الروائي "ساراماجو" في رائعتهِ "الطوف الحجري" ينصحُ بعدمِ المزاح مع السلطة: "لأنهم إما لا يفهمون، ويضيعُ المزاح هباءً، أو يفهمون وهو الأمرُ الأسوأ"!
وكأننا وُلِدنا مُتهمين، لا بالوطن، بلْ بالعيش بأمانٍ وفي أبسط حقوقنا في الحياة ضمن جغرافيا وحدود الوطن الحقيقية.. أنتَ مواطنٌ مستلب، مُتّهم، ومجرم، وأي فعلٍ لا إرادي يصدرُ منكَ، حتى لوْ كانَ خيراً، يُمكنُ أن تحاسبكَ السلطة الحاكمة عن أسبابه.. الوطن – الواقع والحقيقة، والمواطن – الوهم والمجاز..!!
يقولُ الروائي "ج.م. كوتسي" في "يوميات عام سيء": "نحنُ نولدُ رعايا الدولة، فمنذ اللحظة التي نشهدُ فيه النورَ نصبح رعايا، وأحد الأدلة على هذا الخضوع لسلطةِ الدولة هو شهادة الميلاد التي يستصدرها لنا أبوانا" [ص: 22].
"أصبحتُ مرتبكاً وأموري غير طبيعية.. أفكّر ملياً وجدياً لماذا أنا مطلوب لهم.. ولماذا أنا بالذات تترصدني عيونهم، رغم أني لمْ أرتكب أيّ حماقةٍ قوليةٍ أو فعليةٍ، فأنا في حياتي أتستر، ونفسي الضعيفة، بالحائط.. ارتبكَ عملي، ارتبكت علاقتي الأسرية، وأصبحت أتعامل مع الآخرين بعصبيةٍ غير معهودة" [ص: 18].
الراوي – الذات متّهمٌ من دون تهمةٍ.. وعلى لسان بطل رواية "قلب الظلام" لـ"جوزيف كونراد": "إنَّ أحداً ليسَ في مأمنٍ من المتاعبِ في هذا العالم" [ص: 90]. وهذا هو المطلوب بفقهِ السلطةِ الحاكمةِ، وهي تؤكّد وجودها الأخطبوطي، دون وجود للإنسان – المواطن، فأنتَ مجهول، ولا أحد عبرَ كيمياء السلطة و"كلّ تسلطٍ شرير" – برؤى "أوسكار وايلد".. وهذا بطلُ رواية "الغرنغو العجوز" لـ"كارلوس فوينتس" يقولُ أيضاً: "إننا ما زلنا لا شيء، ولا أحد " [ص: 76]. فقط أدوات تحت سياط القمع والاستلاب، وعلى قلقكَ، ورُعب لياليك، وكرهك للحياة، تستمرُ الدولة والسلطة بكافة أجهزتها المرئية وغير المرئية بأمان: "وكُلّي يقينٌ بأنّي مُقبلٌ على ما لا أعرف" [ص: 18].
الراوي وهوَ قلقُ القلق، وخوفُ الخوف، وبين الواقع والحُلم، لا إنسان، ولا كيان، ولا شيء، تلك هي طقوس احترامه للسلطة، ولحماة الوطن الإلهيين.. صور وأشكال مميتة للحرب النفسية، في أساليب لم تخطر على بال الشياطين، والهدف تجريد الإنسان من كلّ صفات الإنسان.. والسلطة – السوبرمان، والمواطن – الوهم واللاأحد، فأي معنى لحياة مواطنٍ سجينٍ داخل الوطن، وهوَ يُعلّم أولاده حفظ حروف اسمهِ، واستنشاق نسمات رايته، وتهمتهُ الطيبة والبساطة والبراءة.. نعم! ربّما: "أسوأ عدوٍ للسلطةِ هوَ البريء" – كما يقولُ كارلوس فوينتس:
"أدخلني دونَ إمهال، وأغلق عليّ بالمفتاح من الخارج.. أصبحتُ داخل سجني الانفرادي، هكذا هُيّئ لي.. في حجرةٍ لا تتعدى مساحتها مترين مربعين.. أعرفُ أنّي أصبحتُ كالفأر المبلول، أرتقي الماضي البعيد والقريب، بحثاً عن سبب لهذهِ الإشكالية التي جاءت بي إلى هنا" [ص: 20].
كتبَ "ج. م. كوتسي" في رائعته "يوميات عام سيء" يقولُ أيضاً: "إنَّ الدولة الحقيقة لا تهتم أعاش أحدُ رعاياها أمْ مات، ما يهمّها في الحقيقة، هو صحة ما ترويه عنهُ السجلات" [ص: 23].
والوطن في أحضان السلطة التي تخلو من ذرةِ دفءٍ وأمانٍ، لا تعريف في جغرافيته للصباح وللحياة والوجود، والإنسان فيهِ مجموعة أوراق صفراء مهترئة، أضابير مُريبة فوق رفوفٍ متربةٍ، حروفها الشاحبة تنطق بالتهم الجاهزة وعلامات الاستفهام من الولادة وحتى الممات، لا يدري عنها شيئاً، لا اسم لها لديه، ولم يرتكبها، وعلى يقينٍ جارحٍ مميتٍ، أنه متهمٌ وهو لما يزل جنيناً في رحمِ أمّهِ.. أما إذا لم يجدوا لك تهمة، فعليك أن تجدها بنفسك، حتى لو اضطررت –مجبراً– على لعن وشتم الحاكم، كما حصل مع بطل رواية "القلعة الخامسة" للشاعر فاضل العزاوي.. أو المجاهرة بالشك في الأمطار التي تسقط على حقول الوطن، أو الشكوى والسخط من الحياة في الوطن.. وحسب رائعة "كارلوس فوينتس" "كرسي النسر": "يعتقدُ صاحب السلطة دائماً، أنهُ على حق، وأنَّ مَن يعارضهُ خائن، أو على أقلّ تقدير شخص لا لزوم لهُ" [ص: 44].
"لملمَ أوراقه، أغلقَ حقيبته، خرجَ من نفس الباب السريّ غير واضح المعالم، وتركني في إنهاكي وذهولي الخائب، وفي سريرتي المندهشة من فعلهم، وترصدهم الإنسان العادي، وفتح صفحة لكلّ مواطنٍ في أضابير أسرار الدولة" [ص: 22].
"المرأة ربّة الأرباب، ترياق الوحشةِ والسعادة الّتي تصرعُ حتّى الدُهاة الّذين لا يُريدونَ شيئاً" – إبراهيم الكوني – موسم تقاسم الأرض – [ص: 20].
الراوي الأوحد- الضمير المتكلّم الـ"أنا" أمام الضمير "هي" الأنثى الشكل الأسمى للوجود، بفلسفةِ ابن عربي.. والضميران والعاطفة كلّ شيء، الصورة العفوية للسلوك الإنسانيّ، وهما يتبادلان عطورَ المشاعر والأحاسيس الرقيقة، وبفقهِ السردِ NARRATIVE، فإنها تتلفُ إذا لم تُمارس، ويدوّنها الجسد الظامئ بالتفصيل.. في لوحةٍ فاقت كلّ تقنيات الرسامين، وبراعة كتابةٍ للإنصات والمقاربة، فاضت بها قريحة الشاعر – السارد عبد الفتاح صبري، وهو ينتقلُ براويه – الذات المتشظية من قلقِ السلطةِ التسلّط الشرير، غير المُبرّر والمحبط، وجرح الإرادة.. إلى قلقِ الأنثى الضروري الوجه الآخر للحياة. وحسب "د.ه. لورانس": "الويلُ لي إذا كانَ يُمكنُ للإنسانِ أنْ يكونَ كاملاً من دونِ امرأةٍ".
"أنثى نديّة مبتسمة مُتقدة مُنتظرة في الموعدِ.. أول مرة تقريباً يسري في يدي دفء أنثى، ويلامس كفّي كفّ أنثى، برؤية مغايرة وإحساس مختلف، ارتعش الكفُّ في الكفِّ، وتلعثمت الأصابع، وهي تسحبني ويداي وكُلّي إلى الداخل.. لمْ تهرب عيناي من عينيها إلاّ لتستريح في تفاصيل جسدها المكتنز.. الصمتُ يلفّني مبهوراً.. مُخدّراً.. سعيداً.. مشدوداً.. متوتراً" [ص: 28].
والراوي حكاية الحكاية، حيث سلطة العاطفة العادلة والشيء الوحيد المهم المُكمّل للحياة، وأي جرحٍ لا يصيرُ ترياقاً بحضور الجمال.. بحضور الأنثى؟ قدرُ الرجلِ لا محالة.. وهو من بردِ وصقيع وظُلمة غرف الأمن السريّة في الوطن الحبيب.. إلى حرارة ودفء الأنثى سكن الروح، وصمام أمان الجسد، والدماء تعودُ إلى مفاصلهِ المعطلة.. والساردُ رسّامٌ ماهرٌ، في بورتريهين مختلفي الألوان والظلال.. بورتريه للوطن عبر سجونه، وغرفهِ السريةِ الخانقة، وأمزجة حُماتهِ الزُخرفيين.. وبورتريه- اللوحة التشكيلية الشعرية لأنثى، شعُرها مصدرُ نسمات الوطن الحقيقية العطرة.. ولقاء الراوي بأنثاه، وللمرة الأولى، لا تاريخ لها يُذكرُ غير تاريخ بدء الجسدِ في صوغ لغتهِ الفاتنة الماتعة:
"تعلمني بتغيرات جديدة تطرأ عليّ أو فيَّ، تُجسّد حالتي المتناقضة خلال هذا اللقاء الذي ألهمني التعرّف إلى جسدي" [ص: 29].
يقولُ الفلاسفة: "إنَّ الجسدَ موطن المعنى، ومكان ولادتهِ، كما أنهُ أداة الدلالةِ التي تُخرجُ الذات من ذاتِها، وتضعها في عالم بينَ ذاتي"..!!
في اللوحة القصصية الباهرة الألوان والخطوط والظلال، فإنَّ المرأة – الحُلم تفضُّ بكارة الواقع.. واقع الراوي – الذات، وقد بدا على إيقاعِ سحرها خيالاً مركزاً.. وحكيم الصحراء لدى الروائي الكبير "إبراهيم الكوني" في رائعتهِ "الوقائع المفقودة من سيرة المجوس" لا يبخلُ على الرجلِ بالنصيحةِ قائلاً: "فتّش عن أنثاكَ، ففي حضنِها تجدُ الخلاص" [ص: 19]:
"هُيّءَ لي أنها تغرسُ نظراتها في مواضع مُحدّدة بجسدي، كأنَّ نظراتها تنهشني، لكن تغيب عنّي اللحظة التالية أو الفعل القادم" [ص: 30].
الذكورة والأنوثة في السردِ الإشكالي حالتانِ عسيرتان، الراوي – الذكورة وسجن الوطن وهو بأقفالٍ صدئة، صناعة ومهارة حُرّاسهِ الشكليين.. وحالة المرأة – الأنوثة، وسجن سلطة الأب والأسرة، وما من بابٍ مشرعٍ على الهروب سوى الحُبّ: "فالحُبُّ وحدهُ يعالجُ العميان" – كما يقول آندريه مورو.. الحُبُّ –الحرية -الحياة، وهو كلّ شيء، ويصعبُ هزيمته:
"هي في أروقةِ السجن الأبوي الذي لا يُراعي سوى سطوتهِ ونفوذه، وقوة قهره لامرأتهِ وأولاده.. الرجل يستخدم الكرباج لضربهن إذا اقترفنَ ما يرى أنه شيء غير مرغوب، أو عمل لا يروق له.. في المنزل السجن الذي أعاني فيه القهر والضرب بطريقةٍ وحشية ولا إنسانية" [ص: 31].
وقمعُ السلطةِ وهو ما يُسمّيه الفيلسوف "بول ريكور" بـ"الشرّ السياسي" ويشملُ "الحرب، الاضطهاد، الاستبداد، هو الأكبر والأكثر تدميراً".. ولا يُثمر إلاّ الإنسان الهشّ، الخائف، الجبان، الإنسان – الوهم.. والقمعُ الأسري الأبوي، حصيلتهُ الكبت، حيث نداءات الجسد الصاخبة، ورُبّما الفاضحة، وهي تزلزلُ بنيران الرغبة كلّ جدران السجون الأسرية، وبفعلها آيلة للانهيار والسقوط لا محالة:
"وكدتُ أن أذهبَ إلى أبعد من التعويض المعنوي إلى تحريض جسدي الذي صارَ أكثر رغبة في التعرّف إلى رغباتهِ، وتعويضه بما يردُ لهُ بعض هدوئه" [ص: 32].
"فتّش عن المرأة" – سقراط..!!
هل الراوي أمامَ المرأة – اللغز؟ أم برؤى "إيفون فيرا": "المرأة الشجرة، وكلّ الأغصان في رأسِها".. وهوَ يحاولُ بدفءِ الروح الظامئة، ورقّة القلب المضني، أن يفكَّ شيفرة CODE هذا اللغز.. أو سحر نضارةِ هذهِ الشجرةِ العطرةِ الأفياء.. فهل اللمسُ لغة مارقة أخرى من لغات الجسد المتعدّدة؟ "حاولتُ التعرّفَ إلى دفئها من خلالِ أصابعها التي تحاولُ التملصَ بهدوء" [ص: 36].
يجزمُ فلاسفة العصر بأنّ "الرغبة" هي الشيطانُ في كثيرٍ من الديانات، وبفقهِ الإنجيل فإنّ "الشيطان في الإنسان، منذُ وقعت الخطيئة الأولى" – آندريه مورو!
المرأة والرجل والرغبة – الشيطان، لحظة الاختلاء، وفي غرفةِ الأسرار مَنْ يمتلكُ مَنْ؟ أم إنَّ الكلمة العُليا للرغبةِ، وهي أعلى سلطةٍ في جسديهما معاً.. وهي تتحدثُ لغةً أخرى:
"لكنْ هي استجابت لنرجسيتي رغمَ تردّدها.. رُبّما أرادت أن تجرّبَ خضوعها لي.. اللحظة أشعرُ بامتلاكي جمالاً أنثوياً دافئاً" [ص: 37].
وسؤال السردِ المُتقن: الراوي والمرأة هل هُما في لحظاتِ حُبٍّ وهيامٍ فعلاً؟ أمْ أنها لحظات عطفٍ وحنانٍ، وهما يتبادلان الحيرة المزمنة، كخنجرٍ صديءٍ مغروسٍ في أحشاءِ كُلٍّ منهما، وهما خارج الفضاء الرومانسي، أسرار وذكريات، شريط حزين بلا نهاية، وجواز سفرهما إلى الراحة وابل أمطارٍ من الدموع.. وكلاهما يسعيان تحتَ زلازلِ الجرأةِ إلى إحياء جمر الرغبةِ، ليكونا جسداً واحداً.
بفقهِ السردِ NARRATIVE فإنَّ "التلصصَ" ليس سوى فضول، أو نوع من العبث الصبياني الشيطاني، لإرضاء وازع رغبةٍ ما، ولكنْ هذه المرة، فهو ينتهي بالمرء إلى شيءٍ لهُ علاقة نارية شيطانية بالجسدِ والروحِ معاً، لحظة كشف عن بنودِ فلسفةِ الجسد "مصدر الشرور والخطيئة" – بفقهِ القديس أوغسطين.. مهما بدت نداءاتهُ خافتة أحياناً، لكنها في لغةٍ مثيرةٍ معجزةٍ، الرغبة – الجنس وأثره في حياة الفرد وأنَّ: "مَنْ يفقد القدرة على الحُبّ وعلى ممارسةِ الجنس، يفقدُ القدرة على الحياة" – بتعبير الروائي "حنيف قريشي": "العبث الشيطاني دفعني بلا مبرر، وبلا سبب إلى أن أنظرَ أو أتلصصَ من خصاص الشباك لإحدى الحُجرات المُطلّة على الشارع الواسع الهادئ، ساعة المقيل" [ص: 46].
وصندوق الدنيا هذه المرة واقعٌ حيّ، يتكلمُ لغة باذخة في اللذةِ، صورة فوتغرافية لواقعٍ، ليس فيلمَ "بورنو" قصدَ كتابته وصورهُ وأخرجهُ الساردُ، بل هو فعل "آيروس" أو ما يُسمّى بـ"النشوة الآيروسية"، وتعني القوة المحفزّة والدافعة إلى الحضارة - برؤى "فرويد"، هو الواقع وما كنته الدؤوب الرغبة، طبيعة الحياة، فعل إنساني، ولحظة تطهير، وهو يشكّل الآخر في صورةٍ إنسانية مُقنعةٍ:
"لكنّ الصورة داخل هذا الصندوق الكبير حيّة، من لحمٍ ودمٍ، حيوية تجدُ صداها في أعضائي، المنتبهة جداً لحركةِ الرجل والمرأة، أعضائي مندهشة في نشوة اللحظة التي جاءت عليَّ بما لمْ يخطر على البال، اثنان امرأة ورجل، رُبّما كان الشيطان ثالثهما" [ص: 47].
وبينَما رآهُ الراوي، وما كانَ عليه من قيود المجتمع، والتقاليد الأسرية، وسطوتها القاتلة، القامع الأوحد لمثل هذه المشاعر النبيلة، لحظة التطهر لدى الراوي، وقد عاش تفجرّها الذي يضاهي تفجّر بركانٍ أو غضب سيلٍ، تعريفاً دقيقاً متقناً لجسدهِ:
"الأهل لمْ يكنْ لديهم سوى الشدة، ومنظومة القيم تحاصر الشاب والشابة والطفل، فتحوّلهُ دوماً إلى خجول، مقموع، لا يستطيع أن يبسط مشاعره، ولا يدري كيف يعالجها إلاّ بكبتها" [ص: 48].
ومن "التلصّص" ودافعهُا لأسمى الفضول، وقد كان مشوباً باللذةِ والمتعة، وكشف لغة وأسرار الجسد.. إلى ما هو سلطة طاغية، وهو قانون العيب الأسري المجتمعي، المفضي إلى الخجل، بل القمع في أبشع صورهِ للمشاعر، وفي أبعد الاحتمالات تأجيلها، ليكتوي صاحبها بنيرانها التي لا يعرفُ لهيبها التوقف أو الرحمة:
"ولا أحد يجيبك عن شيء، لأنكَ بالفطرة والتربية الخجول التي تفتح لنا، ولا نستطيع أن نسأل عنها العيب.. والكلّ يتهرب السائل والمسؤول، العيب يجرنا إلى الكبت" [ص: 51].
ولكن يظل الأكبر والأعظم من العيب والخجل والحياء أسئلة الجسد، ونداءاته البركانية، الباحث أبداً عن إجابات تظل متلهفة ظامئة:
"أشعرُ بها لأول مرة لتفتح لي دروباً لبعض إجابات أسئلة جسدي المشنوقة على باب العيب والخوف" [ص: 52].
والراوي وهوَ يكشفُ عن المخبوء من الإجابات عن أسئلةِ جسدهِ، يدمنُ تلك الأفعال الشيطانية، وقد بدت بمثابة التمرينات الرياضية المهمة للدخول في التجربة – صانعة الحياة: "سعادة غامرة لأني اشتبك مع أنثى برغبةٍ مشتركة، وبجرأةٍ نادرة، ومن خلال قدمٍ لها نصيب من الفرح واللذة.. القدم أصبحت أداتي للدخول إلى عوالم اللذة والسحر والجنون.. ولحظة فارقة لا تُمحى" [ص: 55].
"دخول" لوحات روائية للشاعر والكاتب الكبير عبد الفتاح صبري كتابة (اللاتحديد) و(اللا قواعد)، والنصّ يخلقُ قواعده الخاصّة بهِ، وتلك تقنية وصفة الكتابة ما بعد الحداثية، خلاصة تنظير السيميائي الكبير "رولان بارت" الذي ينسبُ لهُ مصطلح (ديكتاتورية الكتابة)، رؤياه في عملهِ القيم (الكتابة في درجةِ الصفر) الذي صدر عام 1953.
"دخول" مهارة الشاعر – عبد الفتاح صبري، وهو يجسّد في عملهِ دقّة اللغة والعاطفة معاً.. هو الذات والراوي والضمير المتكلم معاً، عبرَ نسيج سردي بديع، بسيط وماتع، قصائد بحثت عن مطالعها وقوافيها في طريق الواقع والخيال.. وفي مجمل فصول المتوالية الروائية (النسيان، امرأتان، قلب مراهق، راحلون من بوابة الماء، وجوه في الداخل).. وغيرها.
وعبر كثافة التعبير، والاقتصاد في الألفاظ، وحضور معنى المعنى، في نصّ (اللا تحديد) و(اللا قواعد) الحداثي، مفهوم ديكتاتورية الكتابةِ، والنصّ مكتفٍ بذاتهِ، يُمكن أن تقفَ اللوحات –المتواليالت بزهوٍ أمام القارئ، متعدّدة الرؤى والأشكال من دون أن تتخلّى عن إيقاعِها السرديّ الواقعيّ – الخياليّ.. هي (اللوحة التشكيلية)، و(القصّة – المقالة)، و( الأقصوصة)، وهي ( الرواية – النوفيلا).. مهارة كتابةٍ في الحُلمِ.. الكتابة – الحياة، وجوهر التجربة!