رمزية الصحراء عند إبراهيم الكوني

جلسة حوارية في بيت الحكمة

د. أماني محمد ناصر


نظّم بيت الحكمة في الشارقة جلسة حوارية بعنوان "رمزية الصحراء في السرد الروائي" استضاف فيها الكاتب والروائي الليبي الطارقي إبراهيم الكوني الذي اختير ليكون شخصية العام الثقافية للدورة الـ42 من معرض الشارقة الدولي للكتاب (2-12 نوفمبر 2023)، وذلك بتاريخ 11/ نوفمبر/ 2023، وبحضور عدد من كبار المثقفين والأدباء والإعلاميين وزوار بيت الحكمة، حيث أدار الحوار الإعلامية منى الرئيسي وأعقب الجلسة توقيعًا لروايته "نزيف الحجر".
 



وأشار الكوني في بداية الجلسة إلى أنه عندما نتوهّم أننا نأتي إلى هذا العالم لكي نستمتع ونفرح ونسعد مجانًا في هذا الوجود فنحن نخطئ في ذلك؛ لأننا ما دمنا اخترنا أن نكون فليس لنا إلّا أن نمتثل للناموس الذي يقول إننا لا نأتي إلى هذه الدنيا كي ننال السعادة في الواقع وإنما لكي نؤدي الواجب، لأننا عندما نؤدي الواجب نستطيع أن نرضي ضميرنا، وعندما نرضي ضميرنا في ذلك الوقت تأتينا السعادة ونستطيع تحقيقها.

 

الحقيقة وجود

وعن الحقيقة أكّد الكوني إلى أنّ السؤال ليس ما هي الحقيقة بل "ما الحقيقة"، لأنها تتضمن كل الأسئلة؛ فإن أجبنا عن هذا السؤال سنستطيع أن نذهب إلى وجودنا، فبعد الحقيقة لا مبرر لوجودنا في هذا الوجود. نحن نهفو للإجابة على هذا السؤال، لأنه يسكننا، وإن استطعنا أن نشفّر هذا اللغز ونفسّر الأحجية كما ينبغي فلا داعي أن نولد ولا داعي أن نوجد.

ليلة الضياع في الصحراء

وعن ليلة ضياعه في الصحراء لفت الكوني إلى أن هذه الليلة لعبت في حياته دور البطولة في توجيه وجوده كلّه، لأنّ طفلاً في عمر خمس سنوات، يجد نفسه في متاهة في الصحراء الكبرى التي هي أكبر صحراء في العالم، وهي متاهة لا بداية لها ولا نهاية، متاهة اللامحدود واللا حدود، وليس أمامه إلّا الظلام والنجوم، والأرض المكسوة بطبقة من الجليد في ليلة شتائية باردة جدًا، وفي الواقع هو مات مرارًا لأنّ الصدمة كونه في صحراء لا أول لها ولا آخر وهو طفل، هي جدل ما بين المنتهي في الصغر والمنتهي بالكبر، واللامنتهي في ضآلته واللا منتهي في اتساع المدى حوله، هذا وحده كافي لأن يغير ما بنفس الطفل لكي يشعر بأنه مات في الظلام، وأن الصحراء ابتلعته، ووجودي على قيد الحياة حتى الآن يعتبر أن الصحراء ولدتني من جديد.

الصحراء وطن

أما عن الصحراء فقد تحدّث الكوني عنها لافتًا إلى أنها خلقت الوجود لكنّ هذا الوجود لم يفِ بواجبه تجاهها. يكفي أنّ الصحراء هي التي تطعم العالم، وكل الطاقة الموجودة في العالم موضوعة فيها، كل الثروات الطبيعية، موجودة في الصحراء. زوّدت العالم بالثروات الطبيعية، وزودته بالثروات الروحية التي لم يعرها أي اهتمام، في حين أنّ كل الأنبياء أقبلوا من الصحراء، والصحراء علّمت الأجيال الحريّة، وعلمتهم إياها من الهجرة، ولهذا السبب لها فضل على البشرية لأنها حرم الله في وطنهم. وعندما يتحول المكان في قلبك إلى هاجس وعندما يصبح مسقط الرأس بالنسبة لك هو فردوسك المفقود، عندما تحمل مكانك هذا معك ليتحول إلى وطن محمول معك، عندها تستطيع أن تجد الحجة لكي تقول كلمة هذا الوطن.

وبيّن الكوني إلى أنّ الصحراء بالنسبة له ليست مكاناً، وليست مجرد مسقط رأس بل هي وطن. مشيرًا إلى أنّ الوطن بطبيعة الحال يعني الذخيرة التي تسكن وطنك وليس الوطن فقط كمكان أو كأهل، بدليل أنه اغترب عن أهله مبكرًا جدًا، ولكن هاجس الذخيرة المفقودة، وهاجس رد الاعتبار لهذا المكان المفقود الذي هو فردوس بالفعل ولكنّ العالَم يعامله كعدو، هذا وحده يكفي لكي يمارس التحدي، تحدّي أن يقول كلمة لهذا اللغز الذي اسمه الصحراء، لأنه اللغز الوحيد الذي بقي غائبًا عن الأدب العالمي الحافل بكل الأمكنة، حتى الفضاء، الأنهار، البحار، كل شيء تكلّم عنه الأدب العالمي إلّا الصحراء لم تقل كلمتها. ولفت الكوني إلى أنه ووفاءً للصحراء استطاع أن ينجز حتى الآن 91 كتابًا حول حقيقة الصحراء وحقيقة هذا اللغز والأحجية المسماة بالصحراء.

رمزية الجِمال

وعن سبب اختياره الجَمل في أعماله، أشار الكوني إلى أنّ الجَمل هو الرسول الذي أرسلته الصحراء لكي يدلّه إلى طريق النجاة، "عندما كنتُ أنظر حولي في الصباح لم أجد بالأرض إلّا خُف (أثر أقدام) الجمل على الأرض، فسرتُ وراء هذا الخف إلى أن قادني إلى الواحة، إلى قارب النجاة، ولهذا السبب كان الجمل المنقذ وخلّدته في أكثر من عمل، مثل التبر المنشور وتدرّس في كل لغات العالم، وناقة الله، وأعتقد أنني أديت واجبي نحو هذا الجمل، وكل ما فعلته هو محاولة تأدية الواجب تجاه الصحراء".

الهجرة حريّة

وأضاف الكوني عن الهجرة أنّ كل الأحرار مهاجرون، كلّ أصحاب الرسالات مهاجرون، كلّ الذين أنقذوا المعالم مهاجرون، متسائلًا: من هو النبي الذي لم يهاجر؟ حتى آدم مهاجر، نوح، إبراهيم، يعقوب، يوسف، موسى، عيسى، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلّم.. كلّهم مهاجرون، يونس هاجر في بطن الحوت، لأنّ الهجرة هي الكود الذي ينتج الحرية، فعندما تستقبلك الصحراء فالصحراء لا تدعوك لوليمة في مقر، بل تدعوك كي تهاجر فيها وتنتقل طوال الوقت، لكي تمارس الحريّة سواء في الزمان أو المكان، أي لكي تتنكّر للمقر، لأننا نحن لا نأتي إلى الدنيا مهاجرين، نأتي من المهد إلى اللحد، رحلتنا رحلة محددة في عمر معين، وبزمن معيّن.

القيم السردية واللغة في كتابات ونصوص إبراهيم الكوني

في نهاية هذه الجلسة الحوارية تقدّم الدكتور عمر عبد العزيز رئيس قسم الدراسات والنشر بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة بمداخلة، مشيرًا فيها إلى أنّ القيم السردية التي قدّمها إبراهيم الكوني في إطار ما يسمى بالملحمة السردية واللغة الرشيقة والتداعي الحر، والتكوين التشبيهي التضفيري في نصوصه، كلّ هذه المسائل ليست قادمة من مجرد إجادة كتابة السرد، ولكنها قادمة من سلسلة معرفية نابعة من سلسلة من الروافد التي أولّها اللغة واستمرارها بمعانٍ مختلفة، والتاريخ والفلسفة وما إلى ذلك. وتبعًا لذلك نحن نستطيع أن نجد في هذه النصوص كل هذه الأبعاد التي تمكّن المحرّك الداخلي في هذه الإجابات، وهذا المحرك الداخلي يتجاوز تمامًا حد الزمان والمكان، ويتجاوز مفهوم الصحراء كحالة مكانية وحالة زمانية يعيش فيها الإنسان.

وعن اللغة أضاف الدكتور عمر عبد العزيز أنّ اللغة ليست حرفًا، وهو أيضًا ما أشار إليه الأستاذ إبراهيم الكوني، بل هي روح وهي تبعًا لذلك صوت داخلي وبُعد لا نراه ولا نلمسه لأول وهلة، واللغة في هذه المعنى هي حالة إبحار في العوالم النفسية الداخلية، وفي الوجدانيات الخاصة جدًا وهي تبعًا لذلك ملامسة للحقيقة. اللغة تميمة سحرية حقيقة وهي تميمة دلالية ومفاهيمية ومعنوية، وهي قدرة على المحاورة والمناورة وهي في نهاية المطاف موازية للصمت، أي أنّ اللغة بمعناها الكلّي هي القدرة على التعبير بكثافة عن مسائل بعيدة، والقدرة على استنطاق الإشارة واستنطاق الاتصال غير اللفظي، واستنطاق المعاني التي تشي بها هذه اللغة، وتلك أشياء نراها في أدب الأستاذ إبراهيم الكوني.

إنسان الروح

وتساءلت المستشارة الإعلامية ريم العبيدات قائلة:
"يقول الفيلسوف الكبير أوشو: بأنّ الإنسان قد أتت معضلته الأولى حين بنى بيتًا، وتكرست معضلته الأخيرة حين سكن هذا البيت فأصبح السجين والطريد في هذا البيت، ويقول الأستاذ الكبير إبراهيم الكوني: لا يخَف هؤلاء الذين يحملون بيوتهم على أكتافهم. إذًا المنظومة الفكرية لهذا التألق الروحي بينكما تكمن أنه في الجدار كانت مصيبة الإنسان ومصيدته، وهناك حيث الانطلاق الأول والانطلاق الأزلي في أماكن بلا سقوف وأماكن بلا حدود، تكرّس الإنسان واستطاع أن يمتد إنسانيًا. أريد أن أتعرف أكثر على فكرة هذا الامتداد الذي حُرمنا منه وأصبحنا أسرى لذواتنا التي تعشق التملّك في هذا العصر، وفي هذا التملك الذي حوّلنا ليس فقط إلى عبيد بل عبيد لعبيدنا".

ومما جاء في إجابة الأستاذ إبراهيم الكوني حول هذا السؤال:
أعتقد أنّ المسألة مسألة خيار، فنحن لا نصنع فقط أحلامنا ومستقبلنا، بل نحن مخولون بأن نصنع أنفسنا، وإذا لم نفلح في تغيير ما في أنفسنا فلن نفلح أبدًا لا في تحقيق أحلامنا ولا في تغيير شيء، ولهذا السبب يُعتبر المحرّض على قضية تغيير النفس هو المقياس في السعادة، فمن أخفق في أن يغيّر ما بنفسه لن يفلح أبدًا في أن يحقق السعادة المنشودة ولا في تحقيق أحلامه. بدليل أنّ الأنبياء بالتأمل وبالعزلة وبالألم استطاعوا أن يغيروا ما في أنفسهم، استطاعوا أن يقتلوا إنسان الحرف فيهم، ليولّدوا في أنفسهم إنسان الروح، في ذلك الوقت فقط استطاعوا أن يتحرروا وعندما استطاعوا أن يتحرروا، حرّروا.

معنى هذا من لم يتحرر لا يحُرِّر، ولا نتحرر إن لم نقتل في أنفسنا الإنسان الأول، وعندما نستطيع بالآلام والعزلة والتأمل أن نغير ما في أنفسنا، بحيث نولد في الروح من جديد ونحقق ميلادنا الثاني، نستطيع تحقيق أحلامنا حينها ونستطيع أن نكون سعداء.

لهذا السبب يقول الكتاب المقدّس: لا يدخل ملكوت الرب من لم يولد مرتين.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها