يشهد العالم المعاصر انزياحًا جذريًا في طبيعة العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، انزياحًا بلغ ذروته مع التقدم المتسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، الذي لم يَعُد مجرد أداة تقنية، بل بات يتغلغل في صميم البنية المعرفية للعلوم الإنسانية. هذا التحوّل تجاوز فكرة تحسين الكفاءة أو تطوير الوسائل البحثية، ليُحدث تحولًا في مفاهيم المنهج، وإعادة تشكيل تصورنا للذات، وإنتاج المعرفة. فلم يَعُد الذكاء الاصطناعي فاعلًا ثانويًا في الحقل المعرفي، بل تحوّل إلى شريك معرفي يُسهم في توليد الخطاب وتوجيه الرؤى والمناهج. إن تداخل العوالم الخوارزمية مع ممارسات الفهم الإنساني أفرز واقعًا معرفيًا هجينًا، تتماهى فيه الحدود بين الطبيعي والاصطناعي، بين الفاعل البشري والكيان الآلي.
في هذا السياق، لم تعد الحاجة إلى مراجعة المفاهيم والأدوات المنهجية في العلوم الإنسانية مسألة طارئة أو رد فعل على تهديد خارجي، بل أضحت ضرورة تأويلية وفلسفية أمام مشهد معرفي جديد يعيد تعريف موضوع الدراسة الإنسانية ذاته. فتفاعل الذكاء الاصطناعي مع ممارسات الإنسان لا يُعد ظاهرة تقنية، بل تموضعًا جديدًا للسلطة المعرفية، يستوجب إعادة بناء أدوات الفهم، ومساءلة المفاهيم التي حكمت علاقتنا بالذات والآخر والعالم. الإشكال المحوري هنا لا يكمن في استيعاب تقنيات جديدة، بل في ضمان ألا يُختزل الإنسان في معادلات حسابية، وألا تتحوّل العلوم الإنسانية إلى تذييل نَسقي للابتكارات الرقمية. فالتحدي الجوهري هو كيف يمكن الحفاظ على جوهر العلوم الإنسانية بوصفها مشروعًا تأويليًا نقديًا، في الوقت الذي تتطلب فيه تحولات العصر الرقمي أدوات ومقاربات جديدة.
وعليه؛ فإن ما نعيشه ليس مجرد تحديث منهجي، بل تحوّل إبستمولوجي يدفع باتجاه إعادة طرح الأسئلة الكبرى حول ماهية الإنسان، وشرعية المعرفة، وحدود الوعي، في زمن تتسارع فيه عمليات الأتمتة وتتشكل فيه الذات عبر وسيط خوارزمي. وفي قلب هذا التحول، ينهض الباحث في العلوم الإنسانية بدور جديد: لا كمفسر لما هو قائم، بل كوسيط نقدي بين الذكاء الطبيعي والذكاء الاصطناعي، حريص على المواءمة بين دقة الخوارزمية وعمق التأويل.
◄ أزمة المنهج والتحوُّل المعرفي في عصر الذكاء الاصطناعي
تشكِّل التحوُّلات المنهجية الناتجة عن تداخل الذكاء الاصطناعي مع العلوم الإنسانية إحدى أبرز الإشكاليات المعرفية المعاصرة، حيث يُعاد تشكيلُ الأدوات البحثية التقليدية في ضوء إمكانات التحليل الآلي. ففي مقابل المناهج الكيفية السائدة تاريخيًا، مثل "القراءة الدقيقة"1 التي تعتمد على الغوص التفصيلي في النصوص الأدبية والفلسفية، برزت مناهج كمية كـ"القراءة البعيدة"2 -وفق تصوُّر فرانكو مورتي- التي تُمكِّن من رصد الأنماط والدلالات عبر فحص مجموعات نصية ضخمة تفوق القدرةَ الإدراكية البشرية3. هذا التمازج بين الكيفي والكمي لا يقتصر على تعديل الآليات الإجرائية فحسب، بل يطرح إشكاليةً عميقةً حول مفاهيم التأويل وسُلطة القارئ، مما يُشير إلى تحوُّلٍ جذري في البنية المنهجية للعلوم الإنسانية ذاتها. من جهةٍ أخرى، أسهمت النماذج الحاسوبية القائمة على معالجة اللغة الطبيعية في إعادة تعريف آليات استيعاب النصوص وتحليلها، حيث تُقدِّم هذه التقنيات قدراتٍ غير مسبوقة في كشف العلاقات الدلالية الخفية عبر الزمان والمكان. فبينما كانت الذاتيةُ البشرية - بتحيُّزاتها المعرفية والثقافية- تُهيمن على عملية تفسير النصوص، أصبحت الخوارزمياتُ طرفًا فاعلًا في العمليات التحليلية، بدعوى حياديتها الإجرائية وقدرتها على رصد الأنماط الدقيقة التي تعجز عنها القراءةُ اليدوية. غير أن هذا الانزياح يُثير تساؤلاتٍ نقديةً حول طبيعة "الحياد" المُفترض، إذْ إن الخوارزميات نفسَها ليست بمنأى عن الانحيازات المُضمَّنة في بنائها البرمجي أو في البيانات المُدَرَّبة عليها.
تُبرز هذه الديناميكياتُ تحديًا مزدوجًا: فمن ناحيةٍ، تُعيد العلومُ الإنسانية صياغةَ منهجياتها لاستيعاب الإمكانات التحليلية للذكاء الاصطناعي، ومن ناحيةٍ أخرى، تواجه ضرورةَ الحفاظ على جوهرها التأويلي الذي يُعدّ سمةً مؤسِّسة لها. وهنا تتعمَّق الإشكاليةُ مع الانزياح من سُلطة القارئ البشري إلى سُلطة الخوارزمية، مما يستدعي مراجعةً نقديةً لطبيعة المعرفة المُنتَجة وآليات تشكُّلها. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في مجرد تبني الأدوات التكنولوجية، بل في إعادة بناء الإطار النظري الذي يُحدِّد علاقةَ المنهج بالموضوع، ويُوازن بين العمق التأويلي والشمولية الكَمِّيَة، في سياقٍ يُعيد تعريفَ مفهوم "القراءة" نفسِه كفعلٍ معرفيٍ هجين بين الذكاءين الطبيعي والاصطناعي.
◄ الذكاء الاصطناعي وسؤال الذات والإنسان
تشهد المرحلةُ المعاصرةُ تحديًا وجوديًا جوهريًا مع تصاعُد الاعتماد على الأنظمة الذكية في المهام المعرفية والإدراكية التي كانت حكرًا على العقل البشري، مما أثار تساؤلاتٍ نقديةً حول مركزية الإنسان4 في الكون المعرفي. ففي ظل القدرات المتزايدة للذكاء الاصطناعي في مجالات الفهم التحليلي، والإبداع الخوارزمي، وحتى صناعة القرار الأخلاقي، باتت الحدودُ التقليدية بين الذات البشرية والكيان الآلي موضعَ مراجعةٍ فلسفية وعلمية. تُشير الدراسات الحديثة إلى تحوُّلٍ جذري في التصورات الكلاسيكية للهوية الإنسانية، حيث لم يعد الفردُ منفردًا في حلبة الإنتاج المعرفي، بل أصبح يتقاسَمُها مع كياناتٍ اصطناعية تُماثله في الأداء الوظيفي، وتتفوق عليه في بعض السياقات الحسابية والتنبؤية5.
في هذا السياق، يبرز أثر التفاعل البشري مع الروبوتات المؤنسنة (Humanoid Robots)6 على تشكيل الإدراك الذاتي للإنسان، حيث تُظهر الأبحاث أن التماهي العاطفي مع هذه الأنظمة قد يُعيد تشكيلَ المفاهيم المتعلقة بالحدود الجسدية والنفسية للذات7. فالقدرةُ على محاكاة السلوك البشري عبر الخوارزميات لا تقتصر على الجانب الوظيفي فحسب، بل تمتد إلى خلق أوهامٍ بالوعي والنيّة، مما يُعمِّق الإشكاليةَ حول طبيعة "الإنسانية" ذاتها. من ناحيةٍ أخرى، تثير مستوياتُ الثقة العاطفية الممنوحة للأنظمة الذكية إشكالياتٍ فلسفيةً معقدةً تتعلق بأسس الوعي وضوابط المسؤولية الأخلاقية. فالثقةُ في قرارات الآلة - سواء في المجالات الطبية أو القانونية أو الاجتماعية - تُناقض المبدأَ الكلاسيكي القائم على المساءلة الإنسانية، مما يستدعي إعادةَ تعريفٍ للإطار الأخلاقي يحاكي التعقيدَ التكنولوجي المعاصر8. يُفضي هذا التحوُّلُ إلى سؤالٍ جوهري: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُصبح شريكًا أخلاقيًا قادرًا على استيعاب السياقات القيمية، أم أنه يظل أداةً خاضعةً لتوجيهاتٍ بشريةٍ قد تُضمَّن فيها انحيازاتُ مُصمِّميها؟
تُبرز هذه التحدياتُ ضرورةَ تطوير نموذجٍ معرفيٍ جديدٍ يتجاوز الثنائيةَ التقليدية بين الإنسان والآلة، نحو فهمٍ تكامليٍ يُعيد تعريفَ الذات الإنسانية في ضوء التفاعل الجدلي مع الذكاء الاصطناعي. فالمعضلةُ لا تكمن في مجرد المنافسة التقنية، بل في إعادة تشكيل الأسس الأنطولوجية والمعرفية التي تُبنى عليها مفاهيمُ الوجود، الإرادة، والمسؤولية الجماعية في عصرٍ تذوب فيه الحدودُ بين البيولوجي والاصطناعي.
◄ التحيُّزات الخوارزمية وإشكالية الهيمنة المعرفية
يُشكِّل الذكاءُ الاصطناعي امتدادًا ثقافيًا لمجتمعاته المُنتِجة، حاملاً في بنيته الخوارزمية القيمَ والتصوُّرات والتحيُّزات السائدة، مما يجعله أداةً لإعادة إنتاج الهياكل السلطوية القائمة. فمن منظور نقدي، تُعَدُّ الخوارزمياتُ تجسيدًا للهيمنة المعرفية الغربية عبر ما يُعرَف بـ"الاستعمار الرقمي للبيانات" (Data Colonialism) وهو مفهوم صاغه الباحثان نيك كولدري وأوليسيس ميخياس لوصف الكيفية التي تُستلب بها المعطياتُ الشخصية من سياقاتها الثقافية المحلية، لتُوظَّف في خدمة النماذج الرأسمالية المهيمنة وتحقيق تراكم معرفي واقتصادي جديد9. تُظهِر التحليلاتُ أنَّ الاعتمادَ على البيانات التاريخية - المُحمَّلة بتحيُّزات عرقية وطبقية وجندرية - يُؤدّي إلى ترميز التمييزِ في النُّظُم الآلية، مما يُعيد إنتاجَ التراتبيات الاجتماعية ويُعمِّق الفجواتِ المعرفية10.
في مواجهة هذه الإشكالية، تبرز الحاجةُ إلى تطوير إطارٍ أخلاقيٍ يتجاوز المعاييرَ التقنية الضيقة، ليرتكز على مفاهيمَ مثل "العدالة المعرفية" التي تُعلي من شأن التعدُّدية الثقافية في إنتاج المعرفة. وهذا يتطلَّب الاعترافَ بـ"الأنطولوجيات البديلة" القادرة على استيعاب طرقٍ مغايرةٍ لفهم العالم، خارج النموذج الغربي المهيمن11. فالتحدي لا يقتصر على تعديل الخوارزميات تقنيًا، بل يستلزم تفكيكَ الأسس الفلسفية التي تُبنى عليها، وكشفَ الآليات الخفية التي تُحوِّلُ التحيزاتِ الثقافيةَ إلى معادلاتٍ رياضيةٍ مُحايدة ظاهريًا.
هنا تبرزُ العلومُ الإنسانية -وخاصةً الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع- كحليفٍ استراتيجي في نزعِ الطابعِ التكنوقراطي عن الذكاء الاصطناعي. فمن خلال أدواتها النقدية القائمة على تحليل السياقات التاريخية والثقافية، تُسهم هذه العلومُ في كشفِ التشابكاتِ بين البنى الخوارزمية والهياكل الاجتماعية، مُقدِّمةً رؤىً تحليليةً لآثارِ التكنولوجيا على التماسكِ المجتمعي والهُويَّاتِ الفردية. وعليه، يصبحُ التفكيكُ النقدي للخوارزميات ضرورةً منهجيةً لضمانِ ألّا تتحوَّلَ التقنيةُ من أداةٍ للتحررِ إلى آلةٍ للقمعِ الرمزي، في عصرٍ تُحدِّدُ فيه الخوارزمياتُ مصائرَ الأفرادِ والمجتمعاتِ على حدٍ سواء.
◄ الذكاء الاصطناعي وإعادة تشكيل الأدوار المعرفية
تشهد سوقُ العمل تحولاتٍ جذريةً في ظلِّ التوسعِ في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، حيث تُعيد الأتمتةُ تعريفَ طبيعة المهام الوظيفية دون إلغائها بالكامل، وفقًا لدراساتٍ حديثةٍ تُؤكِّد تحوُّلَ العامل البشري من مُنفِّذٍ روتيني إلى "فاعلٍ معرفي" (Epistemic Agent) يدمج بين المهارات التحليلية والتوجيه الاستراتيجي للعمليات الآلية12. فبدلًا من اختزال الدور البشري، تُتيح التقنياتُ الذكية فرصًا للابتكار المشترك عبر تفاعلٍ تكامليٍّ بين الذكاء الطبيعي والاصطناعي، يعزز القدرةَ على توليد حلولٍ غير تقليدية في مجالاتٍ مثل تحليل البيانات المعقدة وصناعة القرارات الاستباقية13.
يترتب على هذا التحوُّل إعادةُ تعريف مفاهيم "المؤلفية" و"الوكالة المعرفية" (Cognitive Agency)، حيث لم تعد السيادةُ الفكرية حكرًا على العقل البشري المنفرد، بل أصبحت نتاجًا تشاركيًا مع أنظمةٍ قادرةٍ على محاكاة العمليات الإبداعية. وهذا يستدعي تطويرَ كفاءاتٍ جديدةٍ تركز على التفكيك النقدي للخوارزميات، وفهم آليات صنع القرار الأخلاقي في السياقات الرقمية، إلى جانب تعزيز القدرة على العمل ضمن فرقٍ متعددة التخصصات تدمج بين الخبرات التقنية والإنسانية. وفي هذا الإطار، تبرز المؤسساتُ التعليمية كحاضنةٍ أساسيةٍ لبناء الذات المعرفية الجديدة، عبر تطوير مناهجَ تعيد تعريفَ "المعرفة العملية" في عصر الذكاء الاصطناعي. تشمل هذه المناهج تدريب الأفراد على قراءة التشابكات بين البنى التكنولوجية والاجتماعية، وإكسابهم أدواتٍ لفك شيفرات التحيزات الخفية في النظم الآلية، كما تُوضح دراساتٌ حول مستقبل التعليم التقني والإنساني14. يُعيد هذا التوجهُ تشكيلَ دور الجامعات من نقل المعرفة إلى بناء القدرة التكيفية (Adaptive Capacity)، تمهيدًا لمجتمعٍ يعيد فيه الفردُ تعريفَ هويته المهنية باستمرار في فضاءٍ رقميٍ ديناميكي.
هكذا، لا تقتصرُ أزمةُ العمل في عصر الأتمتة على البعد الاقتصادي، بل تمتدُّ إلى إعادة تشكيل الوجود المعرفي للإنسان، الذي بات مطالبًا بمواءمةٍ دائمةٍ بين التمكُّن التخصصي والمرونة في التفاعل مع الأدوات الذكية. وتكمنُ التحدياتُ الأعمق في تأسيس رؤيةٍ تربويةٍ استباقيةٍ تُحوِّلُ التهديداتِ التقنيةَ إلى فرصٍ لتعزيز السيادة الإنسانية على المسارات التكنولوجية، مع الحفاظ على التوازن بين الكفاءة الآلية والحكمة الإنسانية.
◄ التكامل الأخلاقي بين الذكاء الاصطناعي والعلوم الإنسانية
يُمثِّل دمجُ الذكاء الاصطناعي في المجالات الحيوية كالقانون والتعليم والاقتصاد تحديًا أخلاقيًا يتطلَّب إعادةَ تعريف العلاقة بين التقدُّم التكنولوجي والقيم الإنسانية المؤسِّسة. فالتوظيفُ الفعَّال لهذه التقنيات لا يقتصر على الجدوى الوظيفية فحسب، بل يستوجب تبني إطارٍ أخلاقيٍ عابرٍ للتخصصات، يُعرَف بـ"الأخلاقيات الرقمية الإنسانية" (Human Digital Ethics)، والتي تُعنى بتحقيق التوازن بين الابتكار التكنولوجي والمتطلبات الثقافية والاجتماعية عبر حوارٍ تفاعليٍّ مستمر15. تظهر أهمية هذا الإطار في السياق التعليمي، حيث يُعاد تصور دور الذكاء الاصطناعي ليس كبديلٍ للمعلم، بل كداعمٍ لتعزيز التخصيص التعليمي مع الحفاظ على القيم التربوية الأساسية كالتفاعل الإنساني المباشر وتنمية التفكير النقدي16.
من جهةٍ أخرى، يفرض تطبيقُ الذكاء الاصطناعي في المجالات القانونية والتجارية تطويرَ آليات مساءلةٍ هجينةٍ تدمج بين الكفاءة الخوارزمية والخبرة البشرية. فأنظمةُ صنع القرار الآلية -رغم دقتها الإحصائية- تظل عاجزةً عن استيعاب التعقيدات السياقية والقيمية التي تتطلب تدخلًا بشريًا في تفسير المعايير الأخلاقية المرنة17. وهذا يستلزم تصميمَ نماذج حوكمةٍ تشاركيةٍ تمنع استبعادَ العامل البشري من دائرة المراجعة الأخلاقية، مع ضمان شفافية العمليات الخوارزمية وخضوعها للمساءلة الاجتماعية.
يتجلَّى الهدفُ الاستراتيجي من هذا التكامل في تجاوز الثنائية التقليدية بين الإنسان والآلة، نحو نموذجٍ تعاونيٍّ يقوم على التكامل الوظيفي بدلًا من الصراع على السيادة. فبدلًا من منطق الاستبدال الذي يختزل العلاقة في التنافس، تُقدِّم الرؤية التكاملية منظورًا للشراكة المعرفية تُعزِّز فيها التكنولوجيا القدراتِ البشريةَ دون إلغائها، وتُسهم العلومُ الإنسانيةُ في توجيه الابتكار التقني نحو غاياتٍ إنسانيةٍ شاملة. هكذا، يصبحُ التحدي الأكبر ليس في تطوير تقنياتٍ أكثر ذكاءً، بل في بناء أنساقٍ قيميةٍ تضمنُ أن تُصبِحَ التكنولوجيا أداةً للتحرير، لا آليةً للهيمنة الخفية.
◂ خلاصة
في ظل التحولات العميقة التي فرضها الذكاء الاصطناعي على بنية المعرفة، لم تعد العلوم الإنسانية قادرة على الحفاظ على نموذجها التقليدي دون مساءلة عميقة لمنطلقاتها المنهجية والفلسفية. فالتحول الذي نشهده اليوم لا يتمثل في مجرد استخدام أدوات تحليلية متطورة، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة صياغة موقع الإنسان ذاته داخل المنظومة المعرفية والإدراكية الجديدة. لقد أبرز هذا المقال أن الذكاء الاصطناعي، عبر قدراته التحليلية والإبداعية، بات فاعلًا معرفيًا ينازع الذات الإنسانية على أدوارها التقليدية، مما يستلزم إعادة التفكير في مفاهيم الهوية، والوعي، والمسؤولية الأخلاقية. كما كشفت التحليلات عن أن الخوارزميات تحمل في بنيتها تحيزات ثقافية وتاريخية مستترة، تُعيد إنتاج أنماط الهيمنة في شكل رقمي معولم، ما يجعل الحاجة ملحّة إلى بناء إطار نقدي وأخلاقي قادر على تفكيك هذه البنى واستعادة الفعل الإنساني الحر.
إن مستقبل العلوم الإنسانية في عصر الذكاء الاصطناعي يتوقف على قدرتها على المواءمة بين الكفاءة التقنية والعمق التأويلي، بين النقد الفلسفي وتوظيف الأدوات الرقمية الجديدة. فلا خيار أمام الباحثين إلا تطوير نماذج معرفية هجينة، تستلهم من روح النقد الإنساني، لكنها في الوقت ذاته تستوعب إمكانات التقنية وتعيد توجيهها نحو غايات إنسانية سامية. وعليه، لا ينبغي للعلوم الإنسانية أن تتقوقع في مواقف دفاعية خشبية، ولا أن تنخرط انخراطًا ساذجًا في احتفاء غير نقدي بالتقنيات الحديثة، بل أن تخوض معركة إعادة تعريف الإنسان: لا باعتباره كيانًا مهددًا بالاندثار، بل باعتباره ذاتًا قادرة على النقد، وعلى الإبداع، وعلى إعادة تشكيل علاقتها بالعالم، حتى في أزمنة الذكاء الاصطناعي.
الهوامش:
1. القراءة الدقيقة: (Close Reading) منهج أدبي وتحليلي يركّز على التفاصيل الدقيقة للنصوص، مثل الأسلوب، البنية، المعجم، والرموز، من دون النظر إلى السياق التاريخي أو البيوغرافي للمؤلف. ظهر بشكل بارز في المدرسة الشكلانية والنقد الجديد.
2. القراءة البعيدة: (Distant Reading) مصطلح صاغه فرانكو مورتي يشير إلى تحليل كمي وشامل لنصوص أدبية ضخمة عبر أدوات حاسوبية، وهو ضد مفهوم القراءة الدقيقة؛ إذ لا يركّز على نصوص فردية، بل على الاتجاهات العامة عبر مجموعات ضخمة من البيانات النصية.
3 - Sullam, S., Minello, G., Tripodi, R., & Warglien, M. (2022). Representation of jews and anti-jewish bias in 19th century french public discourse: distant and close reading. Frontiers in Big Data, 4. https://doi.org/10.3389/fdata.2021.723043
4. مركزية الإنسان: مصطلح يعبر عن التصور التقليدي للإنسان بوصفه مركز الكون ومنبع المعنى، خصوصًا في الفلسفة الإنسانية والأنثروبولوجيا الكلاسيكية.
5 - Yogeeswaran, K., Złotowski, J., Livingstone, M., Bartneck, C., Sumioka, H., & Ishiguro, H. (2016). The interactive effects of robot anthropomorphism and robot ability on perceived threat and support for robotics research. Journal of Human-Robot Interaction, 5(2), 29. https://doi.org/10.5898/jhri.5.2.yogeeswaran
6. الروبوتات المؤنسنة: روبوتات مصممة بملامح جسدية أو سلوكية تحاكي الإنسان، مما يعزز التفاعل العاطفي معها.
7 - Müller, B. C., Gao, X., Nijssen, S. R., & Damen, T. G. (2021). I, robot: How human appearance and mind attribution relate to the perceived danger of robots. International Journal of Social Robotics, 13, 691-701. https://doi.org/10.1007/s12369-020-00663-8
8 - Hortensius, R., Hekele, F., & Cross, E. (2018). The perception of emotion in artificial agents. Ieee Transactions on Cognitive and Developmental Systems, 10(4), 852-864. https://doi.org/10.1109/tcds.2018.2826921
9 - Couldry, N., & Mejias, U. A. (2019). The costs of connection: How data is colonizing human life and appropriating it for capitalism. In The costs of connection. Stanford University Press.
10 - Couldry, N. and Mejias, U. (2021). The decolonial turn in data and technology research: what is at stake and where is it heading?. Information Communication & Society, 26(4), 786-802. https://doi.org/10.1080/1369118x.2021.1986102
11 - Mohamed, S., Png, M. T., & Isaac, W. (2020). Decolonial AI: Decolonial theory as sociotechnical foresight in artificial intelligence. Philosophy & Technology, 33, 659-684. https://doi.org/10.1007/s13347-020-00405-8
12 - Itoe Mote, N. J., & Karadas, G. (2022). The impact of automation and knowledge workers on employees’ outcomes: Mediating role of knowledge transfer. Sustainability, 14(3), 1377. https://doi.org/10.3390/su14031377
13 - Harmaakorpi, V., Melkas, H., Porras, J., & Pâssilä, A. (2024). Will machines innovate for and with us - what kind of strategic themes could belong to innovation automation?. Journal of Innovation Management, 11(4), 143-169. https://doi.org/10.24840/2183-0606_011.004_0007
14 - Arslan, A., Ruman, A., Naughton, S., & Tarba, S. Y. (2021). Human dynamics of automation and digitalisation of economies: Discussion on the challenges and opportunities. The Palgrave handbook of corporate sustainability in the digital era, 613-629. https://doi.org/10.1007/978-3-030-42412-1_31
15 - Kamyshanskiy, V., Stepanov, D., Mukhina, I., & Kripakova, D. (2021). Digital society, artificial intelligence and modern civil law: challenges and perspectives. In SHS Web of Conferences (Vol. 109, p. 01016). EDP Sciences. https://doi.org/10.1051/shsconf/202110901016
16 - Zhai, X., Chu, X., Chai, C. S., Jong, M. S. Y., Istenic, A., Spector, M.,... & Li, Y. (2021). A Review of Artificial Intelligence (AI) in Education from 2010 to 2020. Complexity, 2021(1), 8812542. https://doi.org/10.1155/2021/8812542
17 - Edilia, S. and Larasati, N. (2023). Innovative approaches in business development strategies through artificial intelligence technology. Iaic Transactions on Sustainable Digital Innovation (Itsdi), 5(1), 84-90. https://doi.org/10.34306/itsdi.v5i1.612