روح الفنان في الفيلم الإماراتي "عبد الله"

عبد الهادي شعلان


كم تساوي حياتك من غير أن تمارس الَّذِي تحبه؟ مهما عشت وأنت تمارس ما تكره فستظل تعيساً، لن تبتسم ابتسامة صافية إلا إذا حقَّقتَ الروح الخاصَّة بك والَّتِي تَسْري في دمائك، لا بد أن تُخْرِج روح الفَنَّان الَّذِي يَسْكُن داخلك حتى تستطيع الحياة، وإذا مَنَعَتْكَ ظروف حياتك من إخْرَاج الفَنَّان الَّذِي في أعماقك فستعيش وكأنك قطعة من حديد، لا تشعر بمن حولك، ولا تستمتع بحياتك، فقط عليك أن تتجاوز ما يقاوم روحك وأن لا تقتل الفَنَّان داخلك، وأن تُخْرِج الفَنَّان حَتَّى تعيش سعيداً، يمكنك أن تتابع روح فنَّان تقاومه ظروف حياته في فِيلْم "عَبْد الله" تأليف وإخْرَاج: حميد السويدي، شارك فيه: محمد أحمد، منصور الفيلي، آلاء شاكر، فاطمة الطائي.
 


الأذن بداية الموهبة

تطالعنا في الطلَّة الأولى على الشَّاشَة أُذُن صغيرة، تبدو رهيفة تسمع الصوت القادم من بعيد برقَّة، تُنْصِت بشغف وتركيز، ثم تتحرَّك الكاميرا لنرى عيناً تنظر في انتباه، ووجه طفل يتابع ببراءة الطفولة ومحبَّة السنوات البريئة الفِيلْم الكرتوني أمامه على الشَّاشَة، يجلس الطفل على الأرض كأنه أحد التماثيل العتيقة للكَتَبَة القُدَامى، كأنَّه يمارس طقساً خاصاً، وبدت روحه مشدودة لِمَا يرى أمامه على الشَّاشَة، على الرغم من أنه فِيلْم كرتوني بسيط، يتابع الصغير بشغف ولا يدرك ما يحدث حوله، حَتَّى إنه إذا مرَّ أمامه أحد لم يحرك عينيه عن الشَّاشَة، وكأنَّه يطلب من داخله أن لا يقطع أحد مشاهدته، فقط يرمش ويتابع بكل كيانه وكل أعصابه، وحين يصل الوَالِد ويطفئ الجهاز الَّذِي يعرض الفِيلْم الكرتوني، تصيب الصغير علامات حيرة، وكأنَّه سُرِقَ من عالمه فَجْأة، كأنه تمّ قطع صلته بالعالم الَّذِي يعيش فيه.

هذا الانفتاح الكامل الأول للشاشة على أُذُن الصغير يقول إن هذه الأُذُن وما يتبعها من سماع لها الأهمية القصوى في الفِيلْم، كأن عَبْد الله صاحب هذه الأُذُن هو المقصود، حَتَّى إنه مرَّت علينا فترة طويلة لم نسمع صوته، فظنناه أخرس، لكن رسالة الفِيلْم كشفت أنه يحب سماع الأصوات أكثر من الكلام، هذه الأُذُن هي أداة التَّواصل بين عَبْد الله والعالم الخارجي، هي كل ما يملك عَبْد الله من موهبة لخلق عالمه الخاص، بها يسمع الأصوات والموسيقى، وبها يميِّز الحياة. كانت البداية دالَّة وكاشفة على ما سيحدث في الفِيلْم.
 

مقاومة الفن

منذ الطلَّة الأولى أعطانا صُنَّاع الفِيلْم أن عَبْد الله موهوب، وأنه يمتلك داخله روح فنَّان، يتفاعل مع الفن، بدا ذلك واضحاً حين كان يتابع الفِيلْم الكرتوني بشغف واضح، لكن والده قطع استمتاعه بالفن، وحين أهدته صديقته آلة عزف تشبه البيانو، بيانو لعبة، وجدنا عَبْد الله في حالة غريبة من طلب العزف على البيانو، لكن والده أخذ منه اللعبة وأخفاها تحت المنضدة، وعَبْد الله في حيرة، لماذا يحدث هذا المَنْع؟ لقد بدا منذ اللَّحْظَة الأُولى أن هذا الوَالِد حَرَمَ ولده من نعمة الخيال والفن الَّتِي ما تزال تنمو داخل روحه، بدا الوَالِد جَافاً، لا يريد هذا الفن، يستنكر هذه الأشياء الَّتِي تنتمي للفن ويسميها لهواً.

يتأكَّد هذا المَنْع حين صار عَبْد الله مراهقاً لديه عود يخبِّئه، يحتضنه في شوق وهو يعزف، وحين رأته والدته كشفت أن الوَالِد ضد هذه الأشياء بقوة حين قالت بصراحة لعَبْد الله: "أَخْرِج هذا من البيت، لو رآه والدك سيكسره على رأسك".

كان عَبْد الله شَغُوفاً بالموسيقى حَتَّى إننا رأيناه وهو خارج من المسجد مع والده، يسمع صوت عود قادماً من بيت رجل يسكن في بيت متهالك، سرح عَبْد الله وترك والده واتجه ناحية الصوت الَّذِي سمعه، لكن الرجل أغلق الباب في وجه عَبْد الله.

يأتي موقف التأزُّم في مقاومة الفن حين وضع عَبْد الله العُود في خلفيَّة السَّيَّارَة مع والده، رُبَّما كان يُخْفِي العُود حَتَّى يمكنه العزف في الرِّحلة الَّتِي سيقومون بها، وفي لحظة فَتَح الوَالِد خلفيَّة السَّيَّارَة وكان مع الوَالِد أصدقاء ملتحين، وبان على الوَالِد علامات الحُزن، كأنَّه رأى جريمة أمام أصدقائه، وبان على وجه أصدقائه الاستغراب وكأنهم شاهدوا أمراً معيباً، بدا الأمر في تلك اللَّحْظَة أنه تمّ القبض على مُنْكَر يخبِّئه عَبْد الله، كأنَّهم شاهدوا العيب عينه، كان والد عَبْد الله مُنْكَسراً في تلك اللَّحْظَة، وهنا جاءت نقطة الفِيلْم المفصليَّة، لقد مزَّق الوَالِد أوتار العُود، وكأنَّه مزَّق أوتار قلب عَبْد الله نفسه، فبدا عَبْد الله حزيناً منكسراً حين رَكَعَ على ركبتيه أمام العُود يلمس الخراب الَّذِي حدث فيه، وقام عَبْد الله منفعلاً، وضرب العُود في الأرض عِدَّة ضربات فانْكَسر، ومن هنا توقعنا انكساراً حقيقياً داخل روح عَبْد الله.

انكسار روح الفَنَّان

جلس عَبْد الله بعد كَسْر قلبه داخل العُود حزيناً جانب الباب، واستمر حزنه طويلاً، ذهب للبحر تعيساً، تملأ عينيه دموع الحزن والانكسار الداخلي، وفي تلك اللَّحْظَة قام صُنَّاع الفِيلْم بعمل قطع أسود، كأنَّه داخل قلب عَبْد الله، اسْوَدَّت الشَّاشَة وصدر من قلب السَّواد صوت يقول إنه حاول أن ينسى، فترة زمنية طويلة مرَّت على عَبْد الله وهو مليء بالحزن مرَّرها هذا القطع المتعمَّد وكأنها فترة زمنية غير محسوبة من عمر عَبْد الله، كأنه غير موجود في الدنيا، فبعد أن كُسِر العُود وقت أن كان غلاماً رأيناه بعد القطع شاباً ناضجاً، حين أضاءت الشَّاشَة بعد القطع كان عَبْد الله يضرب على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، وبدا منكسراً كما كان منذ سنوات، كأنَّ الحزن لم يفارقه من عمر الصِّبا حَتَّى بداية الرجولة.

في منظر لافت حين أصبح عَبْد الله شاباً يدخل مرحلة الرجولة، يركب سيَّارته، يستمع للموسيقى الصادرة من المسجِّل الخاص بالسَّيَّارَة، كانت روحه تطير مع الموسيقى، وكأنَّه دخل لعمق الموسيقى وصار يعزف بأنامله مع اللحن الصادر، هَامَ عَبْد الله في بحر الموسيقى حَتَّى إنَّ الكاميرا حين خرجتْ من سيارته وشاهدنا طفلاً جميلاً يراقب عَبْد الله في استمتاع، شعرنا بروح الموسيقى، وأن هذا الطفل شَعَر بما يدور في أعماق عَبْد الله، بل إن هذا المشهد ردَّنا بنعومة لتذكُّر حال عَبْد الله وهو طفل يستمتع بالموسيقى، وابتسم عَبْد الله وكانت تلك أول ابتسامة نراها على وجه عَبْد الله منذ بداية الفِيلْم، ورأينا الابتسامة الثانية حين شاهد عَبْد الله البيانو، ومن هذه اللَّحْظَة بدأ الفِيلْم يسير مع عَبْد الله، وعَبْد الله يسير مع الموسيقى، يقرأ الكتب الموسيقية ويرسل رسالة للمطرب الموسيقار عبد الوهاب رحمه الله، كان شغفه بالموسيقى يجعله لا يرى في الدنيا غير الموسيقى، كان اهتمامه بالموسيقى يسيطر على كيانه حَتَّى إنه كان في قمَّة انشغاله بأعماله في الشركة ما إن يسمع صوت الموسيقى حَتَّى يسرح بعيداً بخياله ولا يدرك ما يدور حوله.

حين جاء والده لزيارته في شقته الَّتِي يعيش فيها وحيداً بعيداً عن عائلته، كان عَبْد الله نائماً، وحين سمع طرقات والده على الباب انتفض بشدَّة، وقام بسرعة، ثم وضع ملاءة على البيانو؛ كي لا يراه والده، هذا المشهد ذكَّرنا رغم مرور السنوات بالعُود الَّذِي قطع والده أوتاره، هل كان يظن عَبْد الله أن والده بعد هذا العمر يمكنه أن يحطِّم البيانو؟! أم أن ما حدث في الماضي سبَّب عُقْدة داخلية لدى عَبْد الله؟ وهذا هو الأرجح في الفِيلْم، فعلى الرغم من استقلاله عن أسرته إلا أنه ما يزال يخاف من والده تجاه البيانو، وبان القلق الفعلي على ملامح عَبْد الله على الرغم من أنه كان رجلاً.
 

الفن يقاوم

قبل نهاية الفِيلْم وحين مات والد عَبْد الله، وجد عَبْد الله مجموعة من الصور القديمة، رأى نفسه وهو صغير وكأنه في هذه اللَّحْظَة قد استعاد كل موهبته الضائعة، الآن، استعاد ما فقده منذ الصِّغَر، هل وفاة الأب هي ما صنعت هذا داخل روحه؛ فشعر أنه الآن لم يعد هناك من يستطيع أن يحرمه من الفن الَّذِي يحبه، والَّذِي يتغلل داخل روحه؟

حَمَل عَبْد الله الشمعة وذهب للبيانو وعزف كأول مرَّة يعزف فيها، وتبدأ حياته تتفتَّح، يلتقي بقائد فرقة موسيقية كبيرة، وحين شاهد عَبْد الله المسرح الكبير وقف مذهولاً، وجاءت النهاية حين كان عَبْد الله يسير مع فاطمة زميلته، وقابلهما كاتب سينما فسأل الكاتب عَبْد الله: "ماذا تعمل"؟ كانت فاطمة تعرف أن عَبْد الله خجول، وأنه سيصمت، ورُبَّما تضيع فرصة التعارف عليه، أرادت أن تقول ولم تقل، وقال عَبْد الله: "أنا مُلَحِّن" وكأنَّه كان يسعى طوال الفِيلْم ليقول هذه الكلمة الَّتِي ظلت تتصارع داخل روحه الفَنَّانة، فكلَّما سأله أحد من قبل ماذا تعمل كان يصمت، أما الآن فهو يقولها بثقة: "أنا مُلَحِّن" يضرب بها كل انكسارات الماضي، ويعلن أنه فَنَّان، وينتصر الفِيلْم لروح الفَنَّان، دون أن يقول إنه أصبح مُلَحِّناً كبيراً، فقط يعلن الفِيلْم أنه حقَّق أمنية الفَنَّان في داخله وهذا يكفي، أن يعلنها ببساطة "أنا مُلَحِّن".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها