السقوط في العتمة

رجاء عبد الحكيم

في ساحة السوق الممتدة، والتي تعانق الأفقَ اللبني الشاسع تحت شجرة السنط التي تجاهد بفروعها المتناثرة في الجهات الأربع، في محاولةٍ مستميتة لحجب شعاع الشمس الفتي، كان ذلك تحديدًا في شهر يونيو، حينما أوثقنا بقرتَنا الصفراء بحبلها الليف في أحد فروع الشجرة القديمة، قِدَم السوق، قلتَ لي بعد ما ضربتَ يدَك اليمنى في جيب جلبابك، بلهجتِك الممطوطة والتي تبدو فيها وكأنك تعجن الكلمات في فمك، تلك اللهجة التي ورثتَها عن أبيك وأجدادك، والتي كانت تميزك في الشارع:
- خُذ اشتري لينا عصايتين

ضربتُ رِجلي في تراب السوق، وكَجِنيّ ماهرٍ غطستُ وجئت لك بهما، ألقيتَ لى واحدة، واحتفظتَ لنفسك بالأخرى وأنت تردد على بَركة الله، وبدأنا اللعب، كم كنتَ ماهرًا تجيد الحركاتِ كراقصِ مدرب، وقد اعتلت شفتيك ابتسامةٌ واسعة تنقلت وناورت وسجلت ضدي آلاف النقاط، تَحلّق حولنا الكثير مِن مريدي السوق، وصاغوا دائرة كنا أنا وأنت مركزَها، وكلما نقصَ واحد من تلك الدائرة، جاء آخر وأكملها، حتى انفضّت السوق. كانت الجماهير التي حلّقت حولنا تعتقد، على ما يبدو لي، أننا جئنا هنا لنقدم عرضًا شيقًا للعبة التحطيب؛ فقد صفّق لنا باهتمامٍ آخِر مَن شاهَدوا العرض، وفَكَكنا وثاق بقرتِنا، وسَلكنا بها طريق العودة إلى البيت، مشوار بدأناه في الرابعة صباحًا، بعد أن صلّيتَ أنت الفجر سَحبتنى مِن فِراشي وأنت تردد: لماذا لا تصلّي؟ أنت لست صغيرًا.

طردتَ النومَ مِن عيني وقلتُ:
- سأصلّي

سَحبنا البقرة بحبلها الطويل الملفوف حول وجهها الوسيم بأناقةٍ واهتمام، كما لو كان حُليًا تتزين به، بدا لي كما لو كنا في الليل تسلّقنا الطريق في العتمة وخلفَنا البقرة، صوت حوافرها على الطريق يصدر نغمًا وهي تتبختر وراءنا وقد سلّمتنا أمرها بشكلٍ هادئ، كانت نسمات الفجر تنفذ إلى خلايا جسدي فتصيبني برعشة تشعِرني بلذةٍ ما، وقد لاحت أشجار النخيل المتناثرة هنا وهناك كأشباح، بينما صوت دندنتِك بتسبيحاتك تناجي الله والكونَ، يحملها الهواء وينثرها، فأجد لها وقعًا رائعًا في نفسي. رويدًا رويدًا بدأ النور ينبسط أمامنا، وقد لاح لنا موضع شروق الشمس وقد تناوبت الغيوم على صفحة السماء، غيوم سوداء داكنة، وأخرى بيضاء تتخللها خطوط سوداء، وعندما بزغت الشمس صارت الغيوم إلى لون برتقالي، وقد أعلنت أشجار النخيل عن ذاتها، كانت وِجهتنا إلى "سوق التلات" في إحدى القرى البعيدة؛ لنبيع البقرة، عُدنا نجرّ البقرة معًا، بينما كنتَ أنت سعيدًا ترقب المخلوقاتِ وتتماهى معها، وقد بدأت أذكار المساء، كنت أنا حزينًا أشعر بالخسارة؛ فلم نبِع البقرةَ، وبالتالي لم نحصل على المال، آهٍ ينهزم النهار أمام خطوات المساء المتلاحقة، وترسِل الحقيقة نبوءَتها إلى روحي المعتِمة، لماذا أنت صامتٌ الآن مثل الطيور في أعشاشها؟ هل أنت ملتصق بالسرير؟ أم هو يقيّدك؟ يسجن جسدَك؟ يكمّم صوتك؟ ما الذي هزمَك وانتصر عليك هكذا؟!

صوت أذكار المساء، الحركة الرشيقة الخاطفة، صوت الضحكات، أين كل ذلك؟ إلى أين مضوا؟ كنتَ تدخل سباق الشارع السنوي وقد أسر القمح في الأجولة، وكان ذلك وقت الحصاد، وقد نقَلَتها الحمير إلى الدور، يقول أحدهم: مَن منكم يستطيع أن يحمِل طنًا من القمح، يرفعها في جوالها هكذا من الأرض إلى كتفِه؟ دخلتَ أنت السباق وأنت تردد: أنا أستطيع أن أحمِلها وأرشّها لتسكن النجوم بيدٍ واحدة. الذكرياتُ حبيسة هنا في تلك الحجرة، تَخَشب جسدك على السرير، وجهُك مأخوذ مثل زهرةٍ بريّة، عيناك الداكنتان مغلقتان، هذا ليس جسدَك الذي درستُه طوال طفولتي، لو كان شيء يُرَى ما استطاع أن يهزمك هكذا! أنا أعرفك، أنت ضعيف أمام قوَى الكون الغامضة، أتذكر حينما توفّي أخي الصغير، على أعتاب المساء عندما اندلق الليل حملتَه في أكفانه على يديك، وطِرتَ لتسلّم الأمانة وأنت راضٍ، وهددتَ أمّي ومنعتَها أن تتلفّظ بأي لفظٍ يُخرِجك مِن حالة رضاك وتسليمك تلك، لمحتك كثيرًا تحدّث نباتاتِك وأنت سعيد تضحك معها، تداعبها وأنت توشوشها بكلمات سعيدة، رأيتك فقط تبكي عندما قلّبتَ في نباتات حقلِك وقد لاح لك أنها تحتضر بعدما تعرضتْ لعاصفةٍ شمسية، أول مرةٍ أراك تبكي! تتهاوَى الذكريات يعبّئها الفراغ وينثرها ذراتٍ تحملها الريح بعيدًا، تزحف الأيام مفرغةً من دلالتها، وهي تتمرغ في الضجر، كيف نقيّم رحلة الحياة تلك؟ بالأيام التي عِشناها؟ أم بالأخطاء؟

جاء المُعزّون يواسونني فيك، وكنتُ ألمح على وجوههم شبحَ ابتسامة، لا شك أنهم كانوا ينقّبون عنك فيّ، فلم يجِدوك! أتذكر كلماتِك عندما قلتَ لي:
- أمّك عايزه تودّيك المدرسة، وكمّل روح المدرسة، حلوة المدرسة، بس الأرض بتعلّم أحسن.

أنا ظِلٌّ تَناسَخ حتى حَجب الشمس، لم يعد يلوح لي أي ضوء، قلت لك متذمرًا:
- زهقت من الأرض، بابا عايز افتح دكان، بيقولوا مافيش وظايف. رَمقتَني بنظرة باسمة:
- على فكرة، التعليم مش عشان الوظايف
ثم أمطرت شفتاك ابتسامة ذات دلالة، قلتُ ولم أستطع أن أخفي نغمة سخرية خرجتْ مع كلماتى:
- علشان إيه طَب بنتعلم؟

قلتَ سعيدًا:
- عشان نعرف سِر الأشياء!

وقمتَ مِن جواري وقد غمرك شعاع الشمس الغارب بغموض وجلال، ألقيتَ إلى السماء نظرة حانية، رفعت يدَك اليمنى، وأسقطت يدَك اليسرى إلى جانبك وبدأتَ تراقص الوجود.

كنتُ أود أحيانًا أن أتيه عليك لأشعِرك أني شابٌّ فتِي في الثلاثين، بينما أنت عجوز تجاوزتَ الستين، تقول باسمًا:
- شبابك مثل حلاوة الشَّعر بنات، لا يسمن ولا يغني من جوع

وبحركةٍ ماهرة معتادة منك، ورشاقةٍ تطوّقني من الخلف، تعقد ذراعَي وراء ظهري كحبلٍ طيّعٍ في يديك، وتردد باسمًا كما لو كنتَ تقول افتح يا سمسم:
- يا شباب يا شباب خلّص نفسك

الزمن يبتلع الساعاتِ ليدحرج الأشياء نحو نهايتها، وأنا لن أستطيع أن أبقيك هنا، ذلك قانون الحياة التي منحتها قلبًا خالصًا، أسمع همهمات الرجال قادمين لكي يأخذوك، ولن أستطيع أن أمنعهم مِن أخْذك، سأسلّمك لهم بمنتهى البساطة والمرونة، آه الأوقات نارٌ ترعى في روحي! أتذكر عندما دُعيتَ إلى حفلة الذِّكْر التي يقيمها العمدة بمناسبة طهور ابنِه، ارتديتَ جلبابك الأبيض الناصع، وعِمامتك، اللتين تدّخِرهما للأعياد، في هذا المساء الاحتفالي حمَلتَني على ظهرك إلى هناك، على الدّكك التي يتراص عليها الرجال والأولاد، بينما هناك حاجز من القماش السميك يفصل النساءَ اللاتي يتلصصن بأعينِهن على المشهد، بدأ الذِّكْر هادئًا مصحوبًا بصوت الدفوف، رأيتك تتمايل يمينًا وشمالاً وأنت تردد مثلهم: الله حَيّ .. حافظتَ على حركتِك الثابتة، بينما سرعة إيقاع الدفوف جعل الرجالَ في صفّك تزداد حركتهم وانفعالاتهم، طارت العِمامات وانتفخت الجلابيب وتراقصت، بينما أنت تسبَح في نورٍ أبيضَ هادئ، تداركتْ أمّي التي تتسلل عيناها نحونا مثل نمِرةٍ أنك انفصلتَ عن الناس والأشياء، تركتَ جسدك هنا بينما طارت روحك إلى هناك، فانقضّت عليّ وأنا على الدّكة وسط الأولاد، وحمَلَتني بين ذراعيها كقِطةٍ هلِعة تحمي صغيرَها بين أنيابها، وصِرنا في الشارع الخالي وحدنا كشبحيْن، ربما تلَت عليها ذاكرتُها بعدد المرات التي خرجت معك وعدت من غيري، وعندما تبادِرك بسؤالها المُلِح عني تردّ بهدوء ويقين لا يروقان لها:
- هايروح فين! دلوقتي ييجي

وتنغمس في تسبيحاتك، وتشد خيط السماء وتغزله بخيوط الأرض، تتركك لتسبيحاتك ويقينك، ترتدي خمارَها الأسود الذي لا يطِل منه غير عينيها الفزِعتين، وتتسلل مِن البيت تنبش الشوارعَ في خوفٍ وعجالة، حتى تجدني وتحملني إلى البيت وقد امتطيتُ ظهرَها، وسَكنتْ دقات قلبِها الواجفة، بينما ذاكرتي معك هناك في ذلك النور الذي غمرك، نفس النور الأبيض يشع مِن وجهِك وأنت ترتدي الآن كفَنَك، ثم ابتسامة واسعة على شفتيك تترك ظلالَها على وجهِك كله، تذكرتُ حفلة الذِّكر تلك فهمست في أذُنك وأنا أندهش هل تشِع الأجسام المعتِمة بكل هذا النور الرائق؟! همستُ في أذُنِك: الله حَي .. خِلتُ ابتسامتك تتسع، وأنك مقدِمٌ على مقام كبير للذّكر، خِلت شفتيك تهمسان "ولا لعلّني أذوي وأصبح حقيقة"!

أهالوا عليك التراب، وقد وَدّعَتك صديقتك الوفية شمس المساء، وقد سَقط شعاعها معك في المقبرة، وظلتْ على قبرك قابعة حتى بعد أن انفضّ الجميع، وربما تناهَى إلى سمعِها صوتك يردد "طين أنا كلما صافحتك نبَت فوقي الياسمين". حيث تمرُّ الشمس الغاربة على سبائت البوص التي يتساقط منها السوس مطرًا، والذي يتناثر في عشوائيةٍ على جدران الحظيرة المهدّمة التي يعربِد فيها الصمت، وقد أسقَط عليها الغروب لونَه الرمادي، تحكي البناية الخربة للمساء عن ذلك الوجع الذي سكن قلبَها، كل يوم في شهر يونيو، عندما يتهامس جريد النخيل، ولدغة نسيم الفجر، والغيوم التي يسطع قرص الشمس تحتها ممزوجة بخواطر ولدٍ صغير، ورَجلٍ سارا على الطريق في انتظار بزوغ الشمس، ومِن ورائهما ينثني كاحل بقرتِهما الصفراء ليصعد الطريق. حققت مِن بيع اللب أرباحًا معقولة، لم أعافِر في الأرض مثلك، تختلط الصباحات والمساءات بداخلي، فلم أعد أميّز لهما طعمًا، للأشياء وقْعٌ باهتٌ في قلبي، الساعة الثالثة صباحًا أجرُّ قدمَي إلى البيت، أترنح مِن دخان الحشيش، يسير جسدي في أضواء النيون، بينما روحي ترفل في عتمتها، ما إن أدفع باب البيت حتى يتناهى إلى سمعي صوت المياه مخفوقًا بصوت أدعيتك وأذكارك، وصوتك يرجف منه كياني الهش، وأنت تنهرني برفق
- ليه ما صلّتش؟ انت مش صغير!

باقٍ بيني وبين السرير بضع سنتيمترات، هناك يبرز في قلبِ السرير ذلك الجبّ العميق، يلتقطني، أسمع صوت ارتطام عظامي بأحجاره، أستقِر هناك في قاعِه المعتِم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها