نُبوغٌ مُبكّرٌ.. تزبّبَ وهو حِصْرِم!

عبد السلام كامل


 

قولة مشهورة أطلقها عالم اللسان العربيّ وشيخ العروبة الأصيل الطيب السراج، في حق الشاعر السوداني الشاب، التجاني يوسف بشير، والذي اغتالته يد المنون وهو ما يزال في الخامسة والعشرين من عمره.. تزبّب وهو حصرم.. ومعناها لمن نسوا أو فقدوا لسانهم العربي، هو تشبيه لنبوغ التجاني المبكر بالعنب الذي لم يتم نضجه بعد، فهو حصرم، وصار زبيباً، وهو العنب المجفف؛ أي أن التجاني كأخضر العنب المر الذي جف وهو لم ينضج.. وحقّاً فقد مات التجاني في غضارة شبابه بعد أن شغل الناس في زمانه بنبوغه المبكر، وإلا فكيف للشاعر اللغوي الشهير، الطيب السراج، أن يسترعي انتباهه هذا الشاب الغرير بشعره العالي، الذي لم يجد من يطبعه له في حياته لضيق ذات يده، ولكن بعد وفاته المبكرة وجدت مجموعته الوحيدة "إشراقة" الحظ الأوفر والأوفى في النشر، لطبعات وصلت إلى عشرات المرات.

 

وكذلك الكتب النقدية التي فاقت ما لقيه الشعراء بعده عدداً وروعةً.. لا ننسى منها كتاب (التجاني شاعر الجمال) للكاتب المصري المشهور د. عبد المجيد عابدين، وقد كان في أعوام سلفت مقرراً دراسته على ممتحني الشهادة السودانية في منهج اللغة العربية.

كيف وصل الشاعر الشاب الغرير إلى مستوى يبحث فيه كبار النقاد العرب، الذين أفنوا سنيّ عمرهم في الدراسة والتحصيل الجاد، أن يستوقفهم مثل هذا الشاب الصغير عمراً والكبير علماً ولغةً وفناً وإبداعاً؟

كثيرٌ من الشعراء العرب اختطفتهم يد المنون وهم لم يتعدوا العشرين إلا بخمس أو ست سنوات.. في تونس الخضراء يشرئب شاعرها أبو القاسم الشابي (1909-1934)
صاحب البيتين الشهيرين:
إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة ... فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بدّ لليل أن ينجلي ... ولا بدّ للقيْدِ أن ينكسر

والقصيدة ذات الأخيلة تسبق في معنى الجمال، الذي تحدث عنه المتوقدة جمالاً وروعة، وتشبيهات لم تسبق من قبل شاعر قبله.. التي كانت فتحاً في مجلة (أبوللو)
عذبة أنت كالطفُولة كالأحلام ... كاللحْن كالصباحِ الجديد
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء ... كالورد كابتسام الوليد
يا لها من وداعة وجمال ... وشباب منعّم أملُود
يا لها رقةٌ تكاد ترفّ الور ... دُ منها في الصَّخرة الجُلْمود
يا لها من طهارةٍ تبعث التقدي ... س في مُهجة الشقيِّ العنيد

وفي مصر نجد شاعرها الشاب الهمشري، الذي ما فاتت سنوات حياته العمر نفسه إلا بخمس سنوات (1908-1938م)، فجادت قصائده على متذوقي الشعر العربي الناصع العبارة والرومانسية المحببة آنذاك، وهو صاحب ملحمة (شاطئ الأعراف). وللأسف فقد مات إثر عملية جراحية للزائدة الدودية (ما كان أصعبها آنذاك وما أسهلها اليوم) ولكنها أقدار الله. وكان كوّن مع أصدقائه الشعراء الشباب منتدى شعرياً رائعاً، يضم صالح جودت ود. إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه المهندس، وكان أحد شعراء مدرسة (أبوللو) الشعرية، التي أنشأها الأديب أحمد زكي أبي شادي، وكان رئيسها الفخري هو أمير الشعراء أحمد شوقي.

يقول مخاطباً القمر:
لياليك من ليل الفراديس أبهجُ ... ونُوركَ أبهَى في العُيونِ وأبلجُ
كأنك عين الله ترعى عباده ... وتُبصرُ ما تحوي القلوب فَتَخلجُ
كأنّكَ عينٌ ثرّةٌ فاضَ فيضُها ... بها فِضّةٌ أوزئبَقٌ يترجْرج
كأنَّ الدُّجى بحْرٌ مسفٌّ جناحُه ... كأنك فيه ذرة تتلجلجُ

ومن العجيب في شعره ولوجه ما يسمى (تراسل الحواس)؛ أي أن تقترن الرائحة أو الذوق عند الشاعر بمعنى جمالي بعيد، فيستعير هذه الصور البديعة في شعره، كقوله:
هيهات لن أنسى بظلِّك مجلسي ... وأنا أراعِي الأفقَ نصفَ مغمِّضِ
خنقت جفوني ذكرياتٌ حلوة من ... عطرك القمريِّ والنغمِ الوضِي
فانسابَ منك على كليلِ مشاعري ... ينبوعُ لحنٍ في الخيال مفضَّض
وهفّت إليك الروحُ في وادي الأسى لتعُبّ من خمرِ الأريجِ الأبيضِ

وأيضاً يطل علينا الشاعر المصري هاشم الرفاعي، واسمه الحقيقي سيد بن جامع ابن هاشم الرفاعي (1935-1959)، وغلب عليه اسم جده، وقد ولد بالزقازيق والتحق بكلية العلوم عام 1955، واغتيل قبل أن يكمل تعليمه، وقد كان يتدفق شعره حماسة وعنفواناً ضد الحكم الإقطاعي المصري، واستبشر خيراً بطرد ذلك الحكم البغيض، ومجيء من ظنهم وطنيين حادبين على مصر، وقد رحب بهم في قوله:
أمل تحقق في البلاد عسيرُ ... قد كان في خلد الفقير يدورُ
لمّا أعيد إلى الكنانةِ مجدها ... وانجاب عنها الليلُ والديْجور
بعث الإله إلى البلاد "نجيبها" ... فتحطمت للمُفسدين صُخور
لا أرجع الله أيّاماً مضَت ... كانت علينا بالشّقاء تدور

ولكنه فوجئ بعصبة غريبة تفترض أن كل من يقف ضدها فهو متآمر وخائن وعميل، ولعل أغلب المتذوقين للشعر يعرفون قصيدته بلسان محكوم عليه بالإعدام.. قصيدة (في ليلة التنفيذ):
أبتاه ماذا قد يخُطُّ بناني ... والسيْفُ والجَلاد ينتظرانِ؟

وفيها يقول:
لو لم أكن متطلِّباً في ثورتي ... غير الضياءِ لأمَّتي لكفاني
أهوى الحياة كريمةً لا قيد لا ... إرهابَ لا استخِفافض بالإنسانِ
فإذا سقطتُ سقطْت أحملُ عزتي ... يغلي دمُ الأحرارِ في شَريانِي

ولقد كان ألقاها في مهرجان شعري بسوريا عام 1959، أي في عام اغتياله نفسه، وهي من بديع ما خطه يراع ذلك الشاعر الثائر.

وشاعرنا الشاب التجاني يوسف بشير هو صنو هؤلاء النابهين، وبرغم سنوات عمره القصيرة فنجد عنده نظرات فلسفية عميقة الأبعاد:
هذه الذرَّة كم تحمِ ... لُ في العالَم سِرا
قف لديها وامتزج في ... ذاتها عمقاً وغوراً
وانطلقْ من جوِّها ... المملوء إيماناً وبرَّا
وتنقل بين كبرى ... من ذراريها وصغرى
ترَ كلّ الكونِ لا يفت ... ر تسبيحاً وذكراً

وقصيدته التي كتبها في وصف غناء إحدى الفتيات اللواتي برعن في الغناء، وجعلنه يترنح من تطريبها، يقول لها بضمير المخاطب المذكر:
قم يا طريرَ الشبابْ ... غنِّ لنا غنِّ
يا حلْو يا مستطابْ ... أنشودةَ الجِن
واقطفْ من الأعنابْ ... وامْلأ بها دنّي
من عبقريِّ الرّبابْ ... أو حرمِ الفن
وامسح على زريابْ ... واطمِس على معبدْ
وامشِ على الأحقابْ ... وطُف على المِربَد
واغشَ كنار الغابْ ... في هدأة المرقد
وحدِّث الأعرابْ ... عن روعة المشهد
صوّر على الأحقاب ... وارسُمْ على حسِّي
جمالك الهيابْ ... من روعة الجرس
واستَدنِ بابًا باب ... واقعد على نفسي
حتى يجفّ الشراب ... في حافة الكأس

نجدها تضج بالموسيقى الشعرية، وتكاد تقفز حروفها طرباً لتقول هكذا هو ما أنتج الشعر بسبب ذلك الصوت الملائكي.. وانظر إلى حرفي الرويّ في شطر البيت وعجزه، مما يتيح مساحة تطريبية في الأداء.

وما لنا لا نرجع بالذاكرة إلى تاريخنا العربي الشعري العظيم، فهنالك الكثير من الشعراء الذين غادروا الدنيا وهم في أوج نبوغهم.. طرفة بن العبد .. صاحب إحدى االمعلقات السبع أو العشر، هو في الحالين صاحب معلقة:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

ومنها قوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

وهي مقولة مرت عليها القرون، وستمرُّ قرون بعدها، وهي ما تزال تحتفظ بجدّتها وحرارتها، لما فيها من صدق فني في معلقة تمتلئ بالكلمات المهجورة .

أبو فراس الحمداني ذلك الذي لم يعمر أكثر من ست وثلاثين عاماً (932-968م)، صاحب القصائد الرائعة كمثل:
أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟
بلى.. أنا مشتاقٌ وعندي لوعة ... ولكن مثلي لا يذاعُ له سرّ
إذا الليلُ أضوانِي بسطت يدَ الهوى ... وأجريْت دمعاً من خلائقِه الكبْر
تكاد تضيء النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتْها الصبابة ُوالفكر
حفظتُ وضيعتِ المودَّة بيننا ... وأحسنُ من بعض الوفاءِ لك العذر
معلِّلتي بالوصلِ والموتُ دونَه ... إذا متّ ظمآناً فلا نزلَ القطرُ

ولا ننسى مساهمته في الحروب ضد الروم، الذين كانوا يريدون التهام العالم الإسلامي آنذاك بعد أن تفكك إلى دويلات وإمارات.. وما كان من أمر أسره عند الروم في إحدى تلك المعارك، وبقائه لسنوات ثلاث حتى هرب من فوق القلعة التي كان محبوساً فيها إلى نهر تحتها، بجواد قوي على أحد قولين.

وتلك التي يخاطب بها ابنته، وهو يعلم دنو أجله بعد محاولته المحافظة على الدولة الحمدانية، بعد وفاة ابن عمه سيف الدولة الحمداني، ومحاولة بعض المماليك تنصيب شاب غرير لحكم الدولة الحمدانية، حتى يكون مطية سهلة يدير فيها الدولة من وراء حجاب، فانبرى الفارس الشاعر مدافعاً عن أحد ثغور الإسلام آنذاك، ولكنه قتل:
أبنيَّتي لا تحزني ... كل الأنام إلى ذهابْ
أبنيتي صبراً جميلاً ... للجليل من المصاب
نوحي عليّ بحسرة ... من خلف ستْرك والحجاب
قولِي إذا ناديتني ... وعجزت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فراسٍ ... لم يمتَّع بالشباب

ولئن مات بعضهم قتلاً بسبب أو لآخر، فقد غادرها آخرون بالوفاة الطبيعية كأبي تمام، ذلك الشاعر السوري القومي العروبي الأصيل.. المتنقل من قطر إلى آخر.. سوريا، ومصر، والعراق، وشوق إلى بغداد لا يحدّ.

لعله من نافلة القول ذلك الحديث عن القريحة المتوقدة، التي يحدثنا عنها أغلب كتب الأدب، وهي قصيدته السينية التي مدح بها أحمد بن المعتصم:
أبليت هذا المجد أبعد غاية ... فيه وأكرم شيمة ونحاس
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس

فيتصدى له الفيلسوف العربي أبو يعقوب الكندي، متحدياً ذكاءه، ويقول له: الأمير يا هذا فوق من وصفت من أجلاف العرب! فما يلبث أبو تمام أن يقول بعد هنيهة:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضَرب الأقلّ لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس

فما تردد الكندي أن يقول مبهوتاً: مثل هذا الذكاء ما يلبث صاحبه حياً إلا قليلاً. فقد ارتجل أبو تمام البيتين في اللحظة والتو، وقد تأكد الحاضرون من خلوّ الورقة من هذين البيتين الصاعقين..

إن ما يحزن المرء حقاً في نهايات هؤلاء الشعراء السريعة الدامية، هو انتشار هذه التجارب الشعرية بغير ما انتظار، لتفتق البراعم حتى يعرف مدى ما يمكن أن تصل إليه إذا ما امتدّ بهم الأجل، فإذا استثنينا وفيات التجاني يوسف بشير، وأبي القاسم الشابي، وأبي تمام، والهمشري، نجد الدم هو القاسم المشترك الأعظم، فطرفة بن العبد يقتله غدراً الملك عمرو بن هند، وأبو فراس الحمداني يقتله المتآمرون على الإمارة الحمدانية، وهاشم الرفاعي يقتله رجال الأمن الموالي للنظام، ويزعم أنه قتل من بعض المتعصبين كرويا.. وما يمكن للناقد أن يتوقع ما يمكن أن يكونوا عليه إن مضى بهم الأجل.

وهذه قضية نقدية تحتاج لتأمل وتقصٍّ.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها