فجأة!! تحول النقاش الصباحي إلى سجال، فتحنا فيه أطراف الحديث على كل طريف وتليد. رجوت شيطاني أن يدعني وحالي، ولزمت الصمت كي يمَلّ من سكوتي فينصرف. غير أن شيطانها ظل رابضاً، أراه في عينيها يضحك مني ضحكات استفزاز، وكلمّا آذنَتِ الأزمة بالبَلَج، نفخ في رمادها لتشتعل. اتكأت على ركبتي ورحلت؛ أبدل ساعة بأخرى. أليس هذا ما يقولون ويفعلون اتقاء شر الفتنة؟
وأنا أغادر، جذبْتُ ورائي باب البيت، ودون قصد مني، كان الارتطام عنيفاً، أوشَكَت منه الدفاف أن تُقتلع من مكانها. وكم شكرت الله لأنّ لا أحد من الجيران انتبه إلى ذلك. ألم يقولوا إن المرء يغدو أكثر حكمة مع التقدم في السن؟ في الطريق، وردت عليّ أفكار مهلهلة. أسرعت إلى صخرة، وأخرجت من جيبي ورقة وقلماً لتدوينها، حتى لا تضيع مني، عاقداً العزم على تشذيبها... ألم يقولوا، أيضاً: إن الألم يساعد على مغازلة الحرف؟
كتبت ما كتبت، وحين رفعت رأسي، لاحت لي امرأة تقف غير بعيد مني؛ سمراء، رشيقة القوام، شعرها مسدل خلف ظهرها، قد مدت يمناها تعبث به، وفي اليسرى عصا طويلة ورقيقة من قصب، تخطّ بها على التراب.
كانت تبدو شاردة، وحين أحسّت بوجودي، أو ربما أيقنت أني رأيتها، رمتني برمشة عين أولى ثم ثانية، أتْبَعَتْهما بابتسامة أصابت الشغاف، ثم رمت بالقصبة وغادرتْ في غنج، وأنا أنظر إليها نَظَر الغارق في حال سهو عميق.
كنت أود أن أسرع الخطو للحاق بها، لكن الخوف من عيون الناس وألسنتهم فوّت عليّ الفرصة، فمشيت ببطء إلى أن أشرفتُ على المكان، غير أني لم أجد لها أثراً، كأنما هي ملح ذاب في الماء، أو ماء غار في الرمل. مسحت عينيّ ثم فركتهما عساي أراها، لكن بلا طائل.
جلست القرفصاء أريد أن أضيف على ما دونتُ شيئاً، لكن من دون إفلاح، فواصلت السير شارداً أكثر مما كنت، قد اختطفني طيف المرأة، وسلبتني ابتسامتها ما بقي لي من طاقة للحياة. أليس كل الناس مثلي، أو على الأقل بعضهم، تلمع في طريقهم أمور عارضة فيتفاعلون معها ولو كانت سراباً؟
عدت إلى البيت، تغديت وحدي، وتناولنا العشاء كأننا غرباء. وفي الفراش اقتربتُ منها كأني أريد أن أصالحها. ألم نتواطأ مرات ومرات على الحميمية كي نتصالح؟
لكن هذه المرة وجدتني كالمفلوج لا أستطيع تحريك عضو من أعضائي، فبقيت مستلقياً على ظهري كالميت لا أقوى على الحركة، كلما حاولت أن أهدأ شعرت بوخز في عقلي الباطن كأنه مسامير حادة، تجردني من الهدوء. وكلما تحسست قلبي ألفيته بارداً كقطعة خشب عتيقة. لا أجد شيئاً يحرك ذاكرتي لأنسى ما يقضّ مضجعي.
تسمرت عند حافة السرير، فتوارد قبالتي شريط خساراتي في حياة أكل الهم أطرافها بشراسة فما شبع، حتى شاخت مبكراً. بدأت أتلو آيات الرحمن علني أغفو، وأنا أعرف أن النوم لم يعد بالنسبة لي، منذ وقت ليس بالقصير، سوى هروب إلى الكوابيس.
أخذتني شبه سِنة، فرأيتُني كأني أبحث عن شيء ما تاه مني، وأنا في مقام ولي صالح، أنظر إلى السقف الخشبي، وتلك المرأة التي التقيت، أو قل طيفها، يبتسم لي. قال لي خاطري: هل تَرى؟ ها هي السكينة حلّت بك، وتلك كرامة من صاحب المقام، ودليل على تصريفه حتى بعد مماته، فقل وداعاً للوقت الذي ضيعته غباء، قل مع السلامة لكل الأحزان التي أدمت قلبك وأنت صامت تقاومها صبراً وتواطؤا.
حككتُ عيني لأتبين الأمر، ويا ليتني ما فعلت، لأني لم أر شيئاً سوى ظلمة الليل. أغلقتهما، واسترجعت الشريط مرات ومرات، فلم يزدني الأمر إلا توتراً.
فَلمّا كان من الغد، ركبت هواي، ورجعت إلى المكان، أبحث عن المرأة، لكني لم أجد حتى للقصبة أثراً. جلست القرفصاء، أبحث، هذه المرة، عما خطته من رسوم أو أشكال، فَلم أعثر على شيء. كذلك كان الحال في اليومين التاليين؛ يزورني طيفها ليلا، ولا أجد ما يدلني على طريقها صبحاً. سترتُ أمري يومين آخرين، وحينما سألت بعضهم عنها، قالوا: إنهم لا يعرفون امرأة بتلك الأوصاف في البلدة كلّها، فلما سألتهم عن ضريح بقبة عالية، قالوا: إن عمارته ستكون يوم الخميس.
في اليوم الموعود، رافقت ركْباً يريد الزيارة؛ كنا ثلاثة منعزلين، ولمّا أشرفنا على المقام، قال واحد منا على سبيل الجد: تعالوا... ليذكر كل واحد منا حاجته التي يريدها من أمور الدنيا. ثم أردف: أنا أريد مالاً وزوجة وأولاداً، وأما الثاني فقال: إنني أريد وظيفة.
انتظرا قليلا، ثم التفتا ناحيتي، وقالا في ذات الوقت: ما هي؟ ما هي رغبتك يا أستاذ أحمد؟
قلت: أما أنا فأريدها.. ولا أريد غيرها.