الفانتازيا السرديّة

في رواية الكاتب النرويجي يون فوسه "صباح ومساء"

د. عبده منصور المحمودي


في لحظةٍ ريفيّةٍ أثيرة، من مقاطعة ريفية نرويجية متماهية مع مساء تشريني، في الخامس من أكتوبر الحالي 2023م، فوجئ الكاتب النرويجي (يون فوسه 1959) بخبر إعلان فوزه بجائزة نوبل للآداب 2023، عن "أعماله الإبداعية ونثره الذي يعبر عن المسكوت عنه"، وفقاً لما ورد في تصريح إعلان الجائزة.
 


تتميز أعمال الكاتب بتنوعها بين أكثر من جنسٍ إبداعي، منها روايتان مترجمتان إلى العربية "صباح ومساء"، و"ثلاثية". كلتاهما صادرتان عن دار الكرمة في القاهرة، في العامين (2018، و2023). كما أن الروايتين، من ترجمة شيرين عبد الوهاب وأمل رواش.


تعاطى الكاتب في روايته "صباح ومساء"، مع فكرةٍ وجوديّةٍ ذات إشكاليات فلسفية، فكان لافتًا توظيفُه لآليةِ الفانتازيا السردية في استيعاب اشتغاله الكتابي؛ وهو الأمر الذي جعل من الوقوفِ على فضاءاتٍ من التجلياتِ السردية في هذا العمل غايةً رئيسة لهذه المقاربة النقدية.

 

البُنية السردية

تتجسد فكرة العمل الرئيسة، في تسريد إشكاليتين فارقتين في الحياة البشرية، (إشكالية الولادة/ وإشكالية الموت)، وعليهما انقسمت سردية العمل، مع استحواذٍ ملحوظٍ للإشكالية الثانية (الموت) على مساحةٍ شاسعةٍ، من الاشتغال السردي، مقابل قدْرٍ يسيرٍ جدًّا للإشكالية الأولى (الولادة). ولعلّ الفاعل في هذه النسبة التوزيعية غير المتوازنة كامنٌ فيما بين الإشكاليتين من التمايز الجوهري؛ ذلك أن ماهية (إشكالية الموت) هي الأكثر تأثيرًا في نسق الحياة الإنسانية، سيما فيما تقوم عليه من إحداثِ صدمةٍ قاسيةٍ وهي تنتزع خاصية الحياة من الذات البشرية.

أسند السياق السردي إنجازَ فكرة العمل ـــ هذه ـــ إلى الشخصية الرئيسة فيه (يوهانس)، بمعية عددٍ من الشخصيات الثانوية، من أهمها شخصية (إرنا) زوج (يوهانس)، وشخصية صديقه (بيتر)، وشخصية ابنته (سيجنه).

كان الحيز الروائي في نسقه المكاني ذا صيغة ريفية نرويجية، أما نسقه الزمني فقد كان صيغةً مفتوحة على قطبي الفكرة الرئيسة إشكاليتي: (الولادة/ الموت)، مع هيمنةٍ واضحةٍ للزمن السردي الخاص، الذي استوعب إشكالية الموت وتداعياتها المتجسّدة في أحداث اليوم الأول، من مصير الشخصية الرئيسة في عالمها الآخر بعد وفاتها.

إشكالية الاجتراح الأول

أضاء العمل تفاصيلَ سياقٍ فاعلٍ في اجتراح فاتحة الحياة الأولى، سياق ولادة الشخصية الرئيسة (يوهانس)، بعد فترةٍ من التخلُّق والتكوين الجنيني المستقر نسبيًّا في بطن أمه، قبل خروجه إلى بيئته الجديدة، على ما فيها من رسوخٍ لحتمية الشر والمعاناة.

تعاطت الأنساق السردية مع تفاصيلَ صورٍ من هذه الإشكالية الاجتراحية الأولى للحياة، سواء فيما يتعلق منها بتداعيات نوبات الألم على الأم المنهكة، أو ما يتعلق منها بتداعيات قلق الأب وخوفه ومعاناته لحظات انتظار مولوده القادم. وقد كانت مُجْمَل هذه التفاصيل محيلة على بيئةٍ اجتماعية ينخرها الفقر وانعدام الخدمات الصحية، والاعتماد على قابلةٍ عجوز، تتولى توليد نسوة المحيط الاجتماعي كله.

أول ما كان في انتظار المولود من حياته الجديدة هو اسمه الخاص به (يوهانس)، تيمنًا باسم جَدّه، وقد شكّل هذا التيَمُّن الاختياري سياقًا رمزيًّا، أحال على جزئيةٍ من واحديةِ الرحلة البشرية، وهي تسري في دورةٍ مكتملةٍ، تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت.

لم يكن (يوهانس) أول مولودٍ لأبيه، فقد سبقتْه أخته (ماجدا) قبل سنوات سبع من لحظة ولادته، وحرصت الأم على أن تكون تلك الطفلة في مكانٍ بعيدٍ عنها لحظات ولادة أخيها؛ تحاشيًا لما يمكن أن تنصدم به من معنىً لحقيقة حياتها القادمة.

ومن خلال مقاربةٍ تحليلية عامة، لماهية الولادة الثانية مقارنةً بالولادة الأولى ـــ سيما ما يتعلق من ذلك بتجارب استقبال المواليد ـــ يمكن القول إن استقبال المولود البكر متميزٌ باستثنائيةٍ متعارَفٌ عليها؛ بوصفه استقبالًا متشَكِّلًا من لحظاتٍ عصيبة، يعيشها الأب قلقًا وخوفًا، كما تعيشها الأم سياطًا من الألم الشرس. أما الولادة الثانية فالحال فيها مختلفة؛ إذ عادةً ما يتراجع فيها مستوى قسوة تلك التداعيات واللحظات العصيبة.

وتأسيسًا على هذه الموازنة بين الولادتين (الأولى/ والثانية)، يبدو لي أن الولادة الأولى ـــ فيما لو كان النسق السردي قد أسقطها على شخصية العمل الرئيسة ـــ كانت ستكون أكثر اتساقًا وتواؤمًا مع إشكالية (الولادة)؛ باعتبار هذه الإشكالية أول خطوة للكائن البشري، يخطوها في مسارات حياته، التي تمضي به نحو القطب الآخر من قطبي الفكرة الروائية (إشكالية الموت).

فانتازيا الرحيل

إن أهمّ ما يمكن استكناهُ فرادتِه من آلية الكتابة السردية وتقنياتها في هذا العمل، هو توظيف الكاتب للفنتازيا التي اضطلعت بسردية (إشكالية الموت)؛ إذ كان استئناسه بهذه التقنية ملمحًا فنيًّا مهمًّا، وذا إحالةٍ على نوعٍ من الاحتراس الفني والقصدية التقنية، في المواءمة بين جوهر كل قطبٍ من قطبي الفكرة الروائية، وبين ما يتم اختيارُه لاستيعابها من الآليات السردية. وبذلك، فقد كانت (إشكالية الولادة) مُتَّسِقةً مع آلية تسريدها، كما كانت الفنتازيا وعاءً متجانسًا ـــ في ماهيته الماورائية ـــ مع السردية الخاصة بـ(إشكالية الموت)، وما فيها من تفاصيل مرتبطة بشخصية المتوفى بعد موته، أكثر من ارتباطها بتداعيات الموت على محيطه العائلي.

لقد استهل العمل تسريد تلك التفاصيل، من لحظة مغادرة الروح جسد (يوهانس)، الذي داهمه الموت وحيدًا على فراش نومه؛ إذ كانت زوجته قد سبقته إلى العالم الآخر قبل زمن ليس باليسير، كما كان أولاده السبعة، قد اختطوا حيواتهم الخاصة بهم في منازلهم المستقلة.

وقد كانت الفنتازيا هي التقنية الأكثر جدوى في استيعاب القصدية السردية، الحريصة على عدم التفريط بماهية الحياة وخيطها غير المنقطع، حتى بعد مغادرة هذه الحياة جسد صاحبها؛ إذ تتبعت الفانتازيا ـــ طيلة اليوم الأول للمتوفى في عالمه الآخر ـــ خيط الحياة واستمراريتها بعد الموت، من خلال ممارسة المتوفى نفسه ما اعتاد عليه من أنشطة يومية، ليست ممارسة منفصلة عن الشخصية ذاتها كتدوين تخيليي؛ وإنما ممارسة متماهية مع كينونة الشخصية غير الجسدية، ذلك من خلال إدراك هذه الكينونة لحقيقة ما تقوم به من أنشطتها المعتادة، مع ملاحظتها على هذه الأنشطة والأشياء نوعًا من الغرابة غير المعهودة، وهو الأمر الذي لم تستطع تفسيره: "كان كل شيء عاديًا... ولكن في الوقت نفسه تغير كل شيء بطريقة أو بأخرى"، (ص: 21).

قامت الكينونة البشرية غير الجسدية بعد الموت برحلةٍ قصيرة إلى الشاطئ، فالتقى صاحبها هناك بصديقه (بيتر)، احتار في تفسير ما يعيشه من تواجدٍ حقيقي له مع صديقه الذي غادر الحياة قبل سنوات. افترق الصديقان بعد أن اتفقا على أن يأتي (يوهانس) إلى منزل صديقه، ويقوم بقص شعره ـــ حسب ما اعتادا عليه طيلة سنوات صداقتهما، من قيامِ كلٍّ منهما بقص شعر الآخر توفيرًا للمال ـــ وبينما هو في طريقه إلى بيت صديقه (بيتر)، فوجئ بابنته (سيجنه)، التي عادة ما تزوره لتتفقد أحواله، وهي تلك اللحظة في طريقها إلى منزله، لاحظ عليها أنها خائفة قلقة، لكنه لم يستطع تفسير حالها، ناداها لم تتعرف إليه، واصلت خطواتها، بشكل لم تستطع أن تتحاشى طيف أبيها، إذ مرت من خلاله فاخترقته ونفذت عبر جسده فشعر بدفء جسدها، كانت تفكر تلك اللحظة متسائلةً عن إمكانية أن يكون أبوها قد فارق الحياة؟ حثت الخطى، وصلت، فوجئت بجثمانه على سريره وقد فارقته الحياة، فيما كانت كينونته غير الجسدية ـــ في اللحظة ذاتها ـــ على كرسيٍّ في حديقة صديقه (بيتر)، الذي سرعان ما وصل، فكاشف صديقه بالمصير الذي آلت إليه كينونته، مؤكدًا له أنه الآن ميت، وأن جسده هناك في منزله. ومن ثم صعدت كينونتاهما إلى السماء، لاحظ (يوهانس) تفاصيل الموقف حول جثته، وعلامات الحزن والحسرة على أولاده وأحفاده، حتى وارى القديس جثمانه الثرى. استمرت كينونتهما غير الجسدية في طريقها نحو مصيرهما الجديد، الذي تولّى (بيتر) شرح خصائصه لصديقه (يوهانس)، بوصف هذا المصير عالمًا آخر مختلفًا عما اعتاد عليه، إنه اللّامكان، لا اسم له، ولا أجساد فيه ولا ألم، إنه مدىً "هائلٌ وساكنٌ ومنتفضٌ بعض الشيء ومضيء" (ص: 65).

لقد قدّمت السياقات السردية ـــفي هذه الروايةـــ فلسفة الحياة، من خلال قطبيها الرئيسين (البداية/ والنهاية)، فتجسّدت ـــ من خلال ذلك ـــ الرؤية السردية في ماهية الحياة وجوهرها، وخصائصها المنسوجة بالشر والمعاناة، بما في ذلك مصيرها المفتوح على نهايةٍ، تتلاشى فيها الكينونة البشرية غير الجسدية، متماهيةً مع المدى الوجودي، وجوهره الذي عملت الفانتازيا، على توصيفِ ما استطاعت توصيفَه، من فلسفته الغامضة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها