الرسمُ بالكلمات

خصوصية ملامح الشخصية عند نجيب محفوظ

د. أحمد علواني

للشخصية الروائية لدى "نجيب محفوظ" خصوصية تصويرية تبتعد فيها عن النمطية، حيث أتاح "محفوظ" لقارئه أن يشاركه بفاعلية إيجابية في القراءة والتلقي والتخيل، وذلك عبر تصوير الشخصيات. ولا سيما وصف الوجه، وما يعكسه التصوير من توقعات ودلالات تشي بجوانب الشخصية، والتي يتوصل إليها المتلقي بسهولة ويتوقعها قبل أن ينتهي من قراءة الرواية. خاصة أن الارتباط قائم في أذهان المتلقين بين الوجه وبين ما يكنُّهُ ويُخْفيه الشخص، فالوجه يبوح بالمخبإ وتنعكس على صفحته الأسرار الخفية من مشاعر ونوازع، وطموحات وتطلعات، وتغيرات سلوكية، تتجلى على صفحته المتخيلة سردياً في فضاء النص الروائي، فالوجه بمثابة الفضاء المرئي الذي ترى على صفحته التغييرات النفسية والجسمية والزمنية.

ولا يقتصر تصوير الشخصية لدى "محفوظ" على تجسيد الملامح الجسدية، وبخاصة وصف الوجه؛ ولكن يقوم الوصف بحسم مسار الشخصية داخل النص، ورصد تعلقها بغيرها، بل وقياس مشاعر الغير نحوها، من حيث تفاعلهم معها بالقبول والرفض، أو بالجذب والطرد، أو بالتقارب والتباعد. فعلى سبيل المثال إذا قرأنا تصوير شخصية "كمال" في "بين القصرين" سنلحظ أن الراوي يركز على وصف الملامح الجسدية للشخصية، ولا سيما "الوجه"، فـ"كمال" لم يكن جميلاً، حيث:
"جمع في وجهه بين عيني أمه الصغيرتين وأنف أبيه الضخم، إلى رأس كبير يبرز عند الجبهة بروزاً واضحاً جعل عينيه تبدوان غائرتين أكثر مما هما في الواقع، وكان من سوء الحظ أن نبه إلى غرابة صورته بحال مثيرة للسخرية حين دعاه أحد الرفاق (بأبي رأسين)..."1.

ولعل هذا الوصف يُعطي انطباعاً أولياً بـافتقار "كمال" للوسامة، وما سيترتب على ذلك من فقدان إعجاب الفتيات وانجذابهن تجاه شاب يحمل مثل هذا الوجه، ومع تقدم الأحداث في الثلاثية نجد أن الفروق الطبقية لا تقف حائلاً أمام حب "كمال" لـ"عايدة" بقدر ما تحول الملامح الخُلُقية. بمعنى أن "كمال" ينتمي للطبقة المتوسطة، ويقع فى حب "عايدة" التي تنتمي للطبقة الأرستقراطية، ولكن هذا لم يمنع حبه لها، إذ تعوق الأوصاف الخُلُقية وعدم اتساق الملامح الجسدية بين الطرفين من اكتمال الحب؛ لأن "كمال" نحيف الجسم، كبير الأنف، منبسط الجبهة مع بروز بيّن؛ في حين أن "عايدة" تتمتع بالرقة والجمال، وتطمح إلى الارتباط برجل وسيم، ولقد أفصحت لـ"كمال" عابثة بمظهره ساخرة من كبر أنفه.

وإذا كانت الملامح الجسدية غير المتكافئة بين "كمال وعايدة" قد باعدت بينهما؛ فإن الأوصاف المتقاربة بين "علي طه" و"إحسان شحاتة" في "القاهرة الجديدة" ستكون عامل جذب وسبب داعٍ للحب، رغم اختلاف المستوى الفكري بينهما، حيث نجد أن "علي طه" "كان فتى جميلاً ذا عينين خضراوين، وشعر ضارب لصفرة ذهبية، ودلالة واضحة على النبل"2. وكانت الأوصاف السابقة قادرة على جذب فتاة جميلة هي "إحسان شحاتة" التي وصفها الراوي على النحو الآتي:
"في الثامنة عشرة، تضيء محياها بشرة عاجية، وعينان سودوان، يجري السحر في حورهما والأهداب. أما شعرها الفاحم وما يحدثه تجاوب سواده مع بياض البشرة فيخطف الأبصار"3. إذاً؛ فالوصف المتسق بين الطرفين صنع بينهما توازناً وتآلفاً عاطفياً.

ولقد حرص "محفوظ" على ألا يصف وجوه شخصياته بأوصاف نمطية ونموذجية، أو قارة وثابتة؛ حتى وإن كانت شخصيات ثانوية، فمثلاً في "اللص والكلاب" يصف الراوي شخصية "الشيخ علي الجنيدي" ويركز على وصف وجهه، فتقرأ:
"رفع رأسه عن وجه نحيل فائض الحيوية بيّن الإشراق، تحف به لحية بيضاء كالهالة، وعلى الرأس طاقية بيضاء منغرزة في سوالف كثة فضية. حدجه بعين رأت الدنيا ثمانين عاماً، ورأت الآخرة. عين لم تفقد جاذبيتها ونفاذها وسحرها"4.

إذاً؛ فقد غلب على وجوه شخصيات "محفوظ" التنوع، كما راعى في رسمها التحولات التي تطرأ عليها، ولا سيما نموها ونضجها وتقدم عمرها ليتجسد ذلك فنياً عبر رسم تجاعيد الوجه.. خطوط الزمن.
 

وإذا انتقلنا إلى تصوير الشخصيات في "زقاق المدق" سنجد أن "محفوظ" يكثف من شخصياته داخل النص، ولا شك من وجود شخصيات كثيرة ازدحم بها "الزقاق" إلا أن لكل شخصية وظيفة سردية داخل الرواية. فثمة شخصيات ثانوية إلا أنها تُشكل ديكوراً يملأ فضاء المكان، فعندما أخذ الراوي في رسم الفضاء ركز على ذكر "دكان عم كامل" بائع البسبوسة، الذي يقع على يمين المدخل، و"صالون عباس الحلو" الحلاق، الذي يقع على يسار المدخل، ولم يهتم الراوي بوصف الدكانين بقدر اهتمامه بتصوير صاحبيهما، فأما عن "عم كامل بائع البسبوسة" فهو:
"كتلة بشرية جسمية ينحسر جلبابه عن ساقين كقربتين، وتتدلى خلفه عجيزة كالقبة، مركزها على الكرسي ومحيطها في الهواء، ذو بطن كالبرميل وصدر يكاد يتكور ثدياه، لا ترى له رقبة، فبين الكتفين وجه مستدير منتفخ محتقن بالدم، أخفى انتفاخه معالم قسماته، فلا تكاد ترى في صفحته لا سمات ولا خطوط ولا أنف ولا عينان، وقمة ذلك كله رأس أصلع صغير لا يمتاز عن لون بشرته البيضاء المحمرة"5.

وأما عن "عباس الحلو" فهو:
"شابٌ متوسط القامة ميّال للبدانة، بيضاوي الوجه بارز العينين، ذو شعر مرجّل ضاربٌ للصفرة، على سمرة بشرته، يرتدى بدلة ولا يفوته لبس المريلة اقتداء بكبار الأسطوات"6.

وواضح من الوصفين السابقين أن ثمة مفارقة فنية، تتجلى في تصوير الشخصيتين، فالأولى ساكنة ومنفرة لذوق المتخيل، والأخرى متحركة تتسم بالشباب والتأنق والحيوية. ولا يقتصر الأمر على هذين الشخصين، بل تفيض الرواية بالشخصيات، التي تمايزت بعضها عن بعض بفضل الخيال الخصب لدى الكاتب.

إذاً؛ فمن الملحوظ أن "محفوظ" كان يبدأ في تصوير معظم شخصياته الروائية من وصف الوجه، حيث يُعدُّ الوجه مرآة الشخص والشخصية، فهو ركن أساسي يرتكز عليه في بناء شخصيته ورسم معالمها، جاعلاً منه البوابة الرئيسة للولوج إلى جوانب الشخصية، وسبر أغوارها الداخلية، وتوقع أفعالها السلوكية، وما يترتب على ذلك من رد فعل المتلقي نحوها أو تصنيفه لها، وتجاوبه معها، وذلك بناء على ما يختلج في نفسه -أثناء القراءة- من مشاعر شتى جاذبة وطاردة، أو قابلة ورافضة... وفي كل هذه الأحوال يلعب الوجه دوراً مُهماً في تحديد الانطباع الأول الذي يأخذه القارئ عن الشخصية، ومن ثم يحدد مشاعره تجاهها.

ولا يمكن تصور رسم الشخصيات في عالم "محفوظ" السردي بعيداً عن الطبقية، فالطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها الشخصية تتدخل بشكل كبير في أوصافها، وبالضرورة تتنوع الطبقات ومعها تتنوع الشخصيات وتتشكل الوجوه. وبالوصف الذي يخلعه الراوي على الوجه يتوقع المتلقي طبقة الشخص. فالوجوه المترفة المنعمة تتسق مع الأرستقراطية؛ في حين تتشابه خشونة الوجه مع خشونة الفقر. ويتجلى ذلك بوضوح في وجه "رؤوف علوان"، فتقرأ من الوجه الطبقة التي صار ينتمي إليها هذا الشخص، فقد استقر بصر سعيد مهران ~
"على وجه الأستاذ الممتلئ المستدير... وجهه امتلأ كوجه بقرة، وشيء خفي سرى في شخصه جعله ممتنعاً رغم طلاقة الوجه، وحسن السلوك، وابتسامة الثغر... أنفه المائل إلى الأفطس وفكيه البارزين"7.

إن إتقان "محفوظ" للوصف أسهم -بلا شك- في إثراء النص الروائي وإطلاق مخيلة القارئ، فمن خلال الوصف المميز للشخصية يستطيع القارئ أن يتنبأ بالسلوكيات التي ستأتي بها الشخصية، بل ومن خلال وصف الوجه تحديداً سيتعرف المتلقي على ما فيها من جوانب الخير أو الشر، ربما لأن الكاتب يحرص –غالبًا- على اتساق الملامح الجسدية مع السلوكيات الأخلاقية في فضاء الرواية.

إذًا؛ استطاع "نجيب محفوظ" أن يجمع في تصوير الشخصية الروائية معظم العناصر والتفاصيل الجسدية لرسم شخصية مألوفة للمتلقي يتمكن من تخيلها والتفاعل معها، ربما لأن تصويره لها يلتصق بالواقع المعيش ولا ينفصل عن حياة الناس، حيث يبدأ "محفوظ" في تصوير شخصيته من الوجه، فيصف وجه الشخص راسماً قسماته، وكل ما به من حنايا وتعاريج، امتلاء ونحافة، كما يُعطي أهمية خاصة للعينين وما تعكسانه من نضارة ونعمة أو بؤس وشقاء، هكذا يرسم الأبعاد الخارجية لجسد الشخصية تمهيداً لرسم أبعادها الداخلية وسلوكياتها الأخلاقية، التي تأخذ في النمو والتطور بتطور الأحداث، لتتجلى الشخصية أمام القارئ في تصوير دقيق، وصياغة مُحـكـمـة، مما يجعله يتخيل شكلها، ويتوقع سلوكها، فيُقبل عليها بشغف شديد، ويتفاعل معها تفاعلاً إيجابياً، وذلك عبر القراءة والتلقي.


الهوامش
1. نجيب محفوظ: بين القصرين، مكتبة مصر،  د. ت ـ ص: 57. / 2. نجيب محفوظ: الأعمال الكاملة، رواية القاهرة الجديدة، مكتبة لبنان بيروت ـ ط1 1990، مجلد 1 ـ ص: 435. / 3. السابق نفسه؛ ص: 436. / 4. نجيب محفوظ: الأعمال الكاملة -رواية اللص والكلاب- مكتبة لبنان بيروت، ط1 1990، مجلد 3 ص: 7. / 5. نجيب محفوظ: الأعمال الكاملة، زقاق المدق، مكتبة لبنان، بيروت ط1، 1990 مجلد 1 ص: 641. / 6. السابق نفسه، ص: 641-642. / 7. نجيب محفوظ: الأعمال الكاملة، رواية اللص والكلاب، مكتبة لبنان بيروت، ط1 1990، مجلد 3 ص: 11.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها