
عديدة هي الأماكن التي تأسرنا بسحرها وجمالها الأخّاذ، بأجوائها وحياة ناسها.. ومغرب الحضارات والثقافات مليء بهاته الأمكنة على امتداد ترابه من طنجة إلى الكويرة. ومن الأمكنة التي لها سحر خاص، مصب نهر أبي رقراق بعدوتي المملكة المغربية: مدينتي الرباط وسلا، حيث يتعانق البحر والنهر، ويلتقي التاريخ والجمال والعراقة والحداثة.
نهر أبي رقراق.. تميز وفرادة
"وادي سلا كولونيا" حسب ابن حوقل في مسالكه، "أسمير" حسب الشريف الإدريسي في جغرافيته، بقوله بأنها: ".. على ضفة نهر أسمير الذي يتصل الآن بمدينة سلا، وهناك مصبه في البحر"، "الرمان"، "أبي رقراق"، عرب فتحول إلى "بورقراق" منذ القرن الثالث عشر، نسبة للاسم الأمازيغي "أسيف أوركاز" بمعنى الحصى. اختلفت التسميات والمقصود واحد، إنه أحد أهم الأنهار المغربية وادي أبي رقراق الذي تنساب مياهه من منطقة مريرت في الأطلس المتوسط قاطعة 240 كلم من منبعه إلى مصبه، حيث يعانق المحيط الأطلسي وعلى ضفتيه عدوتي سلا والرباط.
وقد شكل نهر أبي رقراق حالة فريدة ومتميزة مقارنة بالمجاري المائية المغربية الأخرى، فهو الوحيد الذي يفصل بين مدينتين جمعهما التاريخ والجوار إلى قسمين: ضفة شمالية، توجد بها عدوة سلا العتيقة بتاريخها وألقها وأسوارها وأبوابها، وأبراجها وأسواقها وفنادقها وأزقتها الضيقة، ورياضاتها وأوليائها وحكايات ناسها، وضفة جنوبية، توجد بها مدينة الرباط عاصمة الأنوار والمملكة المغربية بضريحها وقصبتها وصومعتها، وأسوارها الموحدية ببواباتها التي تعكس فن العمارة المغربية في عهد الموحدين.
وقد شكل نهر أبي رقراق ومحيطه مجالاً خصباً للاستقرار البشري، بحكم موقعه الذي تتصل فيه اليابسة بالمحيط، فقد شيدت على امتداد تاريخه مراكز حضرية عديدة: فينقية ورومانية، ومرابطية وموحدية، ومرينية وصولا إلى العلويين، مما ساعد على إغناء الموروث المادي واللامادي لمصب نهر أبي رقراق.

أصالة وحداثة
جمع مصب نهر أبي رقراق قديم الأشياء وحديثها، الجمال الأخّاذ والهدوء الساحر.. فإن كُنت من هُوّاة العصرنة فعليك بجولة في النهر عبر "الكايك" لمدة ساعة من الزمان، ويوفر أصحابه كل وسائل الوقاية والحماية، وإن كنت من هواة القديم مثلي فعليك بجولة على متن المراكب الخشبية التقليدية التي كانت وما زالت منذ عقود طويلة إحدى أهم وسائل العبور بين العدوتين، قبل بناء الجسور والقناطر الرابطة بينهما وبعدها، وما تزال متحدية وسائل النقل العصرية، وتحمل هاته القوارب أسماء أصحابها، وتعد من الأشياء التي تؤثث نهر أبي رقراق بألوانها الزرقاء، أو بخطوط زرقاء وبيضاء أو بيضاء وخضراء، مضفية جمالا وسحراً على المكان. ويقوم بقيادتها "الفلايكي"، وهي مهنة تصارع من أجل البقاء في زمن العصرنة والحداثة وارتفاع تكاليف العيش، فمداخيلها تراجعت خصوصاً مع ربط العدوتين بشبكة "الطراموي"، إضافة إلى تراجع راكبيها في فصل الشتاء. ولمهنة "الفلايكي" أعراف وتقاليد وقوانين ضاربة في القدم، يعمل أصحاب المهنة على احترامها ومعاقبة مخالفيها. وتعد قوارب عبور نهر أبي رقراق تراثاً مشتركاً للعدوتين، وتختزن جزءاً مهماً من ذاكرتهما المشتركة وجب تثمينه والحفاظ عليه.
ركبنا أحد القوارب الخشبية في جولة سياحية عبر الوادي، وانطلق "الفلايكي" يجدف بمجدافيه ذات اليمين وذات الشمال، مخترقاً خرير المياه ونسيم الهواء الذي يسافر بالراكب عبر الزمن، وهو سفر في أصالة المكان، حيث تبدو لك صومعة حسان شامخة كمعلمة عمرانية موحدية تصارع عوادي الزمن، وضريح محمد الخامس كتراث مأتمي علوي، وأسوار الرباط الجميلة، وقصبة الأوداية جاثية على ربوتها في ركن منعزل تطل على معانقة النهر للبحر، وعلى سلا وشاطئها ومقابرها في منظر بانورامي أخّاذ، وتختزن بين ثناياها التراث المرابطي والموحدي، والموريسكي والأندلسي والعلوي، فهي تختزن جزءاً من تاريخ حاضرتي أبي رقراق.
تخترق المجاديف مياه النهر، ويتمايل القارب ذات اليسار وذات اليمين مع حركات قيادة "لفلايكي" للقارب، وتسافر بنا نسمات الوادي في عالم جميل عنوانه السكينة والجمال. وتستمر الجولة حيث قادتنا إلى قرب "شالة" وأسوارها العظيمة، كحاضرة فينيقية رومانية إسلامية، حيث يرقد ملوك بني مرين، وتختلط فيها الأسطورة بالتاريخ، فهي تحتضن جزءاً مهماً من تاريخ الاستقرار البشري بمنطقة أبي رقراق.

الجولة في أبي رقراق، هي سفر في تاريخ وعراقة العدوتين، وسفر في ما عرفه من تحولات عميقة، حيث تلوح لك معالم العصرنة والحداثة، فذاك برج محمد السادس كمعلمة عمرانية تخترق الآفاق وتعكس وجه المغرب الجديد، وذاك مسرح الرباط الكبير بهندسته الرائعة التي أبدعتها أنامل المهندسة العراقية الراحلة زها حديد كتحفة فنية في المغرب الثقافي، وتلك المراكب واليخوت العصرية راسية في المارينا، وعلى جنباتها المقاهي والمطاعم للباحث عن الاستمتاع، وعن روعة وجمال وسحر أبي رقراق وعدوتيه سلا والرباط.