أعلم أنّي مهووسة بنجم بعيد، وأعيش أزمنة الألق؛ بتطفلي على أخبار الكبار أو الأغنياء، فلست راضية أنّ الجبل يمر دونه نهر صغير، وليس يرويني أقل من بحر، وقد زادت أحلامي من الكرى على وسائد التأجيل ومرايا الدلع، مرّة بسبب جمالي ومرّة عناداً على اللاحب، لكنني لا أشك أنني مغرورة ولا يدنو جنب أفكاري غير الرفاهية والنعيم، فموانئنا تمنع الزوارق والسفن الصغيرة من الوصول للمرسى، وقد غرق الكثير من البحارة في عمق تطلعاتنا العالية، وأمواج أمانينا المتلاطمة بكبر.
لست معنية للمشاركة في حياة أحد أكثر من رغبتي بحياة خاصة تليق بالذهب لمّـا يلتمع عند وهج نور، سأنتظر بمهل قطار الأزواج فنافذة شعوري مظلّـلة، أراهم يتراكضون خلفها ولا يعنيني من الذي سيصل أو يغادر مادمت ما أعلنت بعد موعد قبول السفر بقطار.
لا زلت أرفض كل المتقدمين لخطبتي بتعالٍ وتعجرف.. فأنا فوق مستوى الجميع ومجرد فتح الموضوع يضحكني كثيراً، أنا لست امرأة عادية حتى أتزوج بطرق تقليدية، أنا امرأة من ياسمين وأريج، وجمالي يملأ القلوب عبقاً.
في هذا المساء تزورنا عائلة للمرة الثانية لخطبتي بعد أن رفضت ابنهم بالمرّة السابقة، نزلت من غرفتي لأتحدث مع أمي فإنّي متضجرة لما يحدث:
ـ ماما، ماما أخبري هذه العائلة التي ستكرر الزيارة لخطبتي أن تيأس من قبولي ولو رجعوا للمرة الخمسين أنا لا أقبل ابنهم، ولا حتى أفكر بالأمر، ولو أنّ مواصفاته متميزة وله من ورث أبيه ما يكفيه ليعيش أميراً، حتى لا يتعبوا أنفسهم بالتفكير بأمل خدّاع لا يرحمهم، وإذا ما استطعتِ أنتِ بالبوح سوف أصارحهم، وأتحدث بما لا يرضيهم ولا يرضيكم.
- لا تتعبي يا ابنتي بأمر طردهم أنا سأطردهم بطريقتي الخاصة فهؤلاء ليسوا أول المطرودين.
رجعت لغرفتي بسوداوية ما عندي وما سيكون.
بعد قدوم الضيوف ومعرفة الجواب مسبقاً صعدت لغرفتي أخت الخاطب، وهي زميلتي من بعيد في الجامعة لتقنعني بقبول الزواج وتوضيح بعض الأمور، استقبلتها بمودة ودخلت في الموضوع وقالت:
- يا أيتها العزيزة الغالية شروطك مستجابة، وحتى لو أردت فيلا باسمك أو سيارة حديثة، أو أي رقم للمهر لا نمانع، إنّ عفافك وأخلاقك أثمن من كل مادة ولو أردت أن نسرد لك أملاك عائلتنا، أو ما يملك أخي فستنبهرين، وأكثر من هذا فأخي شاب ملتزم وأخلاقه رفيعة ويحبه كل من يتعرّف عليه، وشأنه كبير بين موظفيه في الشركة التي يملكها، فلا أرى لرفضك أي سبب.
◅ يا عزيزتي أنا لست ملزمة أن أشرح أسباب رفضي لكل خاطب أو سائل، إنّ مواصفات أخيك رائعة وعظيمة ولا ترفضه أي بنت في الدنيا، ولكنني أتوقع أنه لا يناسبني في الوقت الحالي ولأمور لا أراك تفهميها، حتى لو تكلمت بكل تفاصيلها، وإن شاء الله لا يؤثر رفضي على صداقتنا، وأستأذنك لتكملة مذاكرتي.
طردت الضيفة من حيث تدري ولا تدري كقريناتها السابقات.
عيوني تنهمر بالدمع عنوة عنّي، وتطفوا العبرات على سواحل ودّي للفرص العظيمة التي تمرّ على بابي، وأنا لا أستضيفها متعجرفة أنا بالرفض، معجونة في الهمّ، عند القسمة والنصيب وبين الأهل والناس، لا أنا بقيت لوحدي أناجي طيف خيالي ولا الناس تركوني أغالب بؤس آمالي، حيرانة في رمادية الأمور، أتسكع على أبواب الأمل أن يتغير الحال رغم علمي أنّ بيوت المستحيل مهجورة السكنى.. مدفوعة بالأبواب عند أزقة الآه، لا أرى سوى أشباح وطرق مسدودة حولي، من أيّما التفت يصفعني اليأس بقنوط.. لا واقفة في عقر مأساتي براحة، ولا راضية على شؤم آهاتي بقناعة، ما بين الرفض والطاعة نحتُّ تمثال خيبتي ونصبته وسط حدائق الروح المتقهقرة.
قد علم المقرّبون كثرة رفضي للزواج، ما كان يلحّ عليّ من جهتين نقيضتين؛ فأهل الطيبة أوّلوها إما لدلعي أو لإكمال دراستي الجامعية، أمّـا أهل القيل والقال فأولوها إما لعاهة من نقص مدقع، أو لغرور من كبر مفزع.. ما أثار حفيظتي وأوخزني بعناد موجع.. بيد أنّي في كل الأحوال مغامرة على البقاء في قمة شموخ المرأة القوية، وإثارة الفضوليين لمعرفة السبب المقنع.
لا أعطي أي مبررات للرفض، بل أترك العيب على الطرف الآخر ليحترقوا بنار الحسرة، كما يحترق بها ملايين الضعفاء بالعالم من جور الكبار والمتسلطين وهم بلا حول ولا قوّة.
ما زلت في غرفتي أتأمل حال الدنيا وأظن حسب ما عرفت وخبرت أنّ أكثر النساء اللاتي يطردن المتقدمين للزواج منهن أو يضعن الشروط التعجيزية ويرفضن الصالح الكفء إنهن على خطر عظيم، وهذه التي أتوقعها اليوم أو غداً أن تحلّ بي كارثة لم تمر على كثير بنات قبلي..
استأذنني أبي للدخول لغرفتي وكأنه يريد أن يمسح جبيني من تعب طرد الناس، وحرقة قلبي الذي قرر إشعاله منذ سنين طويلة، وأنا أسكب الدمع لإطفائه وهيهات.
- يا ابنتي طال انتظارنا لموعد زواجك، وإنّ كثرة المتقدمين للزواج منك أزعجتنا، وإنك الآن في السنة الأخيرة بكلية الطب ولا مانع أن نبدأ بخطوة رسمية لخطوبتك من ابن عمّـك.
◅ يا أبي أليست حالته الصحية ليست على ما يرام ولا يصلح للزواج، فأنا توقعت أنّ الأمر سيتلاشى بمرور الزمن أو يموت بمرضه أو يشفى، ويعفيني من العمل ممرضة له بعقد رسمي.
- يا ابنتي إنها وصية المرحوم جدّك فإنّ مرض ابن عمّك القديم أجبر والدي أن يقسم عليّ لتكونين زوجة له وتداوي فيه مرضه، وهو الذي أصر على دخولك لكلية الطب، وأنّك ستصبحين مؤهلة بعد تخرّجك واستخدامك أنجع الطرق والوسائل لشفائه.
◅ كيف يشفى يا والدي ومرضه مزمن منذ الولادة.
- وكيف لا ننفذ وصيّـة جدّك وهو الآن ينتظر إتمام الزواج بقبره.
◅ ماذا تقول يا أبي، الظالمون يظلمون حتى وهم في القبور، كيف ينتظر إتمام قرار باطل وهو الآن يلاقي ربه!
- لا يا ابنتي لا تتكلمي بهذه القسوة على المرحوم جدّك، إنه الآن ينتظر أفراحنا.
◅ أي أفراح وأنتم تزوجونني لمريض مزمن، وأي انتظار يتم بمواقف عارية موهومة وشمس الظلم تحوطها من كل جانب، بل جدي ينتظرني أزوره عن قريب بموتي لألومه على قراره المجحف، وتدخّـله الفاضح بخصوصيات الآخرين ولو كانوا أقرب الناس له.
ذهب أبي وهو بين نار ضعفي ونار قوة أبيه، بين حرقة مشاعري ولهيب وصية أبيه، بين إرضاء الأحياء أو إرضاء الأموات.
تحسّرت من هول المصيبة ولا أدري بمصيري كطبيبة أو ممرضة، كل سنين دراستي ويأبى أبي إلا أن أكون بمهنة التمريض لواحد رغم أنفي.
نمت على فراشي -ميتة- ملهوفة أن أرى جدي لأعاتبه أقسى العتاب.
رأيته، شزرته، عاتبته طويلاً، أفحمته بقوة أدلتي على بطلان قراره، وصمت بل تراجع عن قراره!
تمنيت أن يراه أبي متراجعاً عن قراره.
تمنيت أن يكون العتاب حقيقي ولو أن أبقى معه، ولا يكون مجرّد حلم.. وأكون من الموتى..
ولا أستيقظ على ضعفي وعذابي من جديد. وأنا أرد الأزواج بسبب وصية أو حقيقة بسبب طغيان وجبروت على من لا حول لهم ولا قوة.
* * *