أبعاد الرومانسية في فيلم "في شقة مصر الجديدة"

طارق إبراهيم حسان


منذ بداية ظهور السينما الروائية والاعتياد على ظهور الفيلم الروائي الطويل بشكله الحالي؛ بدأت السينما رومانسية مع أفلام "ليلى" (1927)، و"قبلة في الصحراء" (1928)، و"زينب" (1930)، وغيرها. وقد أبدع كثير من المخرجين في إخراج أفلام عاطفية تستحوذ إعجاب المشاهدين وتترك أثراً في نفوسهم، لاسيما مع تنوّع الرؤى الفنية التي ساهمت في إبراز العديد من الأعمال الفريدة مثل "غزل البنات"، و"إني راحلة"، و"الوسادة الخالية"، و"دعاء الكروان".


يلاحظ أن القصص العاطفية استندت في كل الأحوال إلى نقيضين من أجل إيجاد حالة من الصراع الدرامي، وكشف قدر المصاعب التي يجدها المحبون. ويعتبر محمد خان (1942- 2016) أحد المخرجين البارزين الذين أولوا اهتماماً خاصاً بالقصص العاطفية، وبدا ذلك في العديد من أفلامه التي عبّر من خلالها عن الحب في إطاره الرسمي المتمثل في زوج وأسرة وبيت. ويلجأ خان إلى شخصية المرأة، لتكون هي الشخصية المحورية مثل منى (ميرفت أمين) الفتاة الرومانسية الحالمة في فيلم "زوجة رجل مهم"، وهيام (ياسمين رئيس) العاملة البسيطة المقهورة اجتماعيًا في فيلم "فتاة المصنع"، ونوال (سعاد حسني) في "موعد على العشاء"، فضلًا عن فيلمه المائز "في شقة مصر الجديدة" 2007، الذي يأتي في مقدمة هذا الاتجاه لدى محمد خان.
 

المتناقضات.. وكُنه العلاقة بالآخر

حفل الفيلم بالعديد من طرائق التعبير مثل توظيف الرمز، والارتكاز على لغة الصورة، والكادرات المعبرة عن الحدث الدرامي، فضلًا عن تناول كنه العلاقة بالآخر/ الرجل، من وجهة نظر المرأة، عبر رؤية فنية مختلفة وخارجة عن القصص النمطية. كما حفل الفيلم بالعديد من الثنائيات الدالة والمتناقضات التي تتولد منها دلالات الرومانسية.

تم توظيف الرمز في الأحداث بشكل دقيق، حيث يمكن استشراف أُفق التطور الدرامي، والمآل الإيجابي لمصائر الشخصيات عبر تلك الرموز الموحِية، التي يسوقها إلينا محمد خان الواحد بعد الآخر، فالفيلم يقوم بنائيًا على ما يمكن تسميته بـ"الثنائيات المتضادة" لإبراز حجم الفجوة بين عالمين مختلفين، فنجوى ترفض الزواج التقليدي، وتلتقي شخصًا لا ينشغل إلا بحسابات المال والمنفعة، وما الدراجة النارية التي يتنقل بها سوى رمز للتعجّل والإيقاع السريع لحياة المدينة ونمطها الذي يشير إلى جملة واحدة هي "لا وقت للحب"، فهذه الدراجة ترمز إلى الآلية والحركة الميكانيكية المتسارعة، والحياة الخالية من المشاعر حتى في علاقته بالمرأة التي يعرفها.

أثر الأغاني العاطفية

يدور الفيلم حول نجوى (غادة عادل) معلمة الموسيقى القادمة من محافظة المنيا في رحلة إلى القاهرة، وتنتهز الفرصة لزيارة المعلمة تهاني التي علمتها الموسيقى في مدرسة الراهبات بالمنيا، وتم نقلها بسبب أحاديثها للفتيات عن الحب وشجعتهن على سماع الأغاني العاطفية. تواصلت نجوى مع المعلمة من خلال أحد البرامج الإذاعية، ورسائل البريد التي تقوم بإرسالها على عنوانها بحي مصر الجديدة، وحين جاءت لزيارتها لم تجدها.

على الطرف الآخر نجد يحيى (خالد أبو النجا) الذي سكن شقة مصر الجديدة بعد أن غادرتها المعلمة منذ عام، وهو خبير بالبورصة لا يعترف بالحب ولا يهتم إلا بلغة الأرقام. تغيب عن ثقافته مفردات الحب، والرومانسية، والحبيبة، والزوجة، والأسرة، بينما تحضر لديه مفردات المال، والمكسب، والخسارة، والعميل، والمضاربة، والعمل، كما أنه ليس لديه الوقت للتفكير في ذلك. تأتي نجوى إلى الشقة بحثاً عن معلمتها، فتجد يحيى وتتعرف عليه، ليكون لقاؤهما في منتهى التنافر، فهو لا يفكر في الحب وفي بيته إهمال سافر لكل معاني الرومانسية، حيث البيانو المهمَل ورسائل نجوى ملقاة على الأرض، في مقابل الشغف بالموسيقى والبحث عن الحب لدى نجوى.

حضرت تهاني على لسان الشخصيات الرومانسية من المحبين والعشاق، ينتصرون لها ويعلنون عن وجودها، بينما يذهب الآخرون الذين يرفضون الحب ووجوده إلى أنها ماتت أو اختفتْ. ويذكر شفيق (يوسف داوود) الذي يمر بمرحلة عمرية متقدمة للتدليل على أن الحب لا يرتبط بعمر معين؛ أنها موجودة ولم تمت، فهو يهوى سقي النباتات، ويعبر عن الحيوية والأمل والرومانسية.

العاطفة في المجتمع المحافظ

تشير الأحداث إلى أن نجوى تبحث، بطريقة غير مباشرة، عن الحب بعيدًا عن مجتمعها المحافظ الذي لا يعترف بالعلاقات العاطفية، وترفض ضمنياً مقولة "زمن الحب انتهى وانقضت أيامه"، فقد رفضت الزواج من شخص ذي مكانة مرموقة لأنها لا تحبه، مما يثير استياء أسرتها ويثير دهشة المحيطين بها، لكن عند قيامها برحلة إلى القاهرة تقرر البحث عن الحب في المدينة المتحضرة التي لا ترى في الحب عارًا، وتصر نجوى على أن الحب موجود، لكن هذه المدينة المتحضرة تُعاني إيقاع الحياة المتسارع، وتقع تحت تأثير النمط الاستهلاكي وطبيعة الحياة المادية، ولغة الأرقام والعلاقات البرجماتية بين الناس، حتى في أدق المشاعر الإنسانية، ما يجعل الحب والعاطفة والمشاعر الإنسانية الصادقة في هامش هذه الحياة.

بحْث البطلة عن الحب لا يأتي مباشراً؛ إنما عن طريق شخصية المعلمة فهي من علمت التلميذات معنى الرومانسية، وهي من أسمعتهن أغاني الحب الرقيقة، حتى تم نقلها خارج المحافظة، وكأننا أمام طرح مفاده أن الحب محظور في المجتمعات المحافظة، واللجوء إلى المجتمع المنياوي في جنوب مصر باعتباره مجتمعًا منغلقًا، عفويًا، وبِكْرًا، من أجل إظهار طبيعة المجتمع في القاهرة إنه الأسرع في إيقاعه اليومي، وإنه مجتمع منفتح تحكمه العلاقات المادية فحسب.

ترمز شخصية المعلمة إلى لحب، وتقع بين حقيقتين متضادتين، هما: الحياة، والموت. فالتوظيف له مغزى رمزي، إذ إن المعلمة لم تظهر منذ مغادرتها المنيا، ليرتكز المخرج في توظيفها على تحقيق بنية الـ Suspense التي تعمل على جذب المشاهد وإيقاعه في حيرة، فالرومانسيون يبحثون عن تهاني ويسلّمون بوجودها ويهللون فرحاً لأي نبأ عنها ويرفضون التسليم بموتها، وعلى حد تعبير أحدهم (يوسف داوود) الذي قال: "تهاني موجودة.. مش مهم فين.. المهم إنها موجودة" في دلالة واضحة على وجود الحب، بينما يحيا الآخرون حياة باردة، آلية، لا يهتمون بها ولا بوجودها، ويصرون على موتها.

الرومانسية في المجتمع المحافظ

لا يقف البعد الرمزي عند هذا الحد، بل حفل الفيلم بالعديد من الرموز الدالة التي وظفها المخرج لكي ينأى عن الواقعية الفجة والمباشرة، فالمنيا موطن البطلة إحدى مدن الصعيد تعرف بالعادات والتقاليد الصارمة وبكونها بيئة تقليدية محافظة، منغلقة، لها أفكار راسخة من الصعب تغييرها، والمنيا أيضاً بها بكارة المكان، وعفوية العلاقات، بينما تختلف الأمور في القاهرة، إذ يمكن للمرأة أن تعبر عن نفسها بالعمل وبالحب وباختيار شريك حياتها، حيث الحب ليس عاراً، والأغاني الرقيقة ليست انفلاتاً.

مثلت شخصية يحيى بطل الفيلم الطرف الآخر للمفارقة، فالبطلة تبحث عن الحب وترفض الزواج من طبيب لا تحبه، وتواصل إرسال الخطابات بالبريد دون أن يأتيها رد، فيما لا يعبأ يحيى بشيء سوى الأرقام، فهي اللغة التي يفهمها، حيث البيع والشراء والأسهم والشركات والسوق.

يزيد من وهج المفارقة أن كلّ خطابات نجوى ترِدْ إلى شقة يحيى الساكن الجديد للشقة، وحينما جاءت نجوى باحثة عن معلمتها تلتقي به، لذلك كان اللقاء أشبه بالصعقة الكهربائية، أو سكب الماء على معدن ساخن.. حالة تعتريها الدهشة، هو باستخفافه بها وبموقفها تجاه معلمة ربما تكون في عداد الموتى بحسب تصوره، وهي ببراءتها وعفويتها وطزاجة حدسها.

استشراف أُفق التطور الدرامي

تأخذ علاقة نجوى ويحيى في التنامي تدريجيًا، ويحدث التقارب بينهما كلما علمت بوجود تهاني، مما يشير إلى البعد الرمزي للشخصية، وقد أقرّ يحيى بوجودها بعد أن كان يقول بموتها، وذلك حينما اقترب من نجوى وجدانياً ونبض قلبه تجاهها حتى وصل إحساسه إلى الذروة، كما أن اسم يحيى نفسه جاء دالاً على إحياء الحب، وعبرت محاولات نجوى وإصرارها وخروجها من المنيا إلى القاهرة عن صورة من صور الرفض للمجتمع الذكوري المفروض حول المرأة، تكلل ذلك ببحثها الدؤوب عن تهاني أو بالأحرى عن الحب، كذلك التغير الذي حدث تجاه يحيى يعتبر بمثابة تعبير عن الرفض وتحقيق صورة إيجابية مضادة لأفكار اجتماعية مفروضة.

ويعكس البحث الدؤوب لنجوى عن تهاني قدر حاجتها للحب. والاستمرار في توظيف الرمز طوال الفيلم يكون دافعاً للأحداث وكاشفاً لها، فكلما اقترب سهم كيوبيد من قلب المحبين ظهرت الدلائل على وجود تهاني أو العكس. نجح الفيلم في إضفاء أجواء الرومانسية من خلال توظيف العديد من الأغاني العاطفية كخلفية للأحداث.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها