![](https://arrafid.ae/ContentImages/1c02c7c2_الأقفال والمفاتيح في التراث العربي-2.jpg)
شملت اهتمامات العلماء المسلمين إبان عصور الرقي والاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي والعطاء الفكري، مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية اليومية للشعوب العربية الإسلامية، في أدقّ تفاصيلها وأدواتها ووسائلها، فكانت معظم أوجه النشاط الإنساني موضع ملاحظة ونظر وتدقيق، وقلّما شذّت بعضها عن هذه القاعدة، حتى إنّ الأدوات المستخدمة في تأمين الدور والمنشآت التجارية والمرافق العامة والخاصة، كالأقفال المتخذة لغلق الأبواب والخزنات والصناديق والدواليب والخرائط، حظيت بدورها باهتمام العلماء والمحتسبين والأدباء. ومن نافلة القول إن الحضارة العربية كانت شديدة التنوع في مظاهرها، بالنظر إلى ما استوعبته من روافد ثقافية شرقية وغربية، فاستلهمت من الحضارات القديمة والبعيدة بعض أساليب العيش وأدواته اليومية من الإبرة إلى الآلات المركّبة، ومن أبسط طرق الصناعة اليدوية، إلى أعقد التقنيات الصناعية التي تتطلب معرفة واسعة ومهارات خاصّة لإتقانها، كصناعة الساعات والخزنات ذات الشفرات السرية، والمنجنيقات والمقصورات المتحركة ذاتياً، والجسور المعلّقة، والأبراج ذات السلاسل المقيدة لحركة ولوج المراسي وغيرها من المبتكرات الرائدة في مجال التقانة وعلم الحيل.
![](https://arrafid.ae/ContentImages/1c02c7c2_الأقفال والمفاتيح في التراث العربي-3.jpg)
أولاً: التأليف في صناعة الأقفال والخزنات
يقتضي المنطق أن صناعة أي قفل يستوجب صناعة ما يناسبه من المفاتيح، ومن المعلوم أن عدداً من هذه الأدوات والآلات كانت تندرج ضمن ما كان يعرف بعلم الحيل؛ أي الفيزياء في بيئتها العربية الإسلامية، وقد شهدت قرون العطاء الحضاري العربي وفرة التصانيف في المهارات الصناعية الدقيقة، وفي علم التقانة التطبيقي، وفي صناعة الأدوات الميكانيكية المبسّطة منها والمعقّدة، وكانت هذه الكتب متداولة بين الممارسين والمهتمين بالصناعة والتقانة، كما وجدت تشجيعاً في أحايين كثيرة من لدن الخلفاء والسلاطين والأمراء المسلمين، لحاجتهم إليها في السلم والحرب، بل حتى من قبل حب المعرفة العلمية وطرافة مادتها وكيفية استخدامها، ومنهج تأليفها الذي جمع بين التعبير الكتابي والرسوم التوضيحية والتصاميم الهندسية والمنمنمات، وكانت بعض الكتب تتضمن مكونات الآلة ومقاساتها في الطول والعرض والسمك.
ويعتبر بديع الزمان الجزري (ت. 607ﮬ) أشهر العلماء العرب المبدعين في مجال صناعة الأقفال والخزنات المشفّرة، إلى جانب شهرته بصناعة الساعات الميكانيكية الدقيقة، وقد صنّف في هذه الصناعة كتاباً طريفاً في بابه وسمه بعنوان "كتاب الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"، أو "كتاب في معرفة الحيل الهندسية"1، تضمن رسوم وتصاميم شديدة الدقة وبالغة الوضوح في فهم طبيعة عمل كل قفل أو خزنة من تلك النماذج التي صوّرها بالألوان، ووضع عليها شروحاً وافية وكافية لإعادة إنتاج نسخ من نماذجها الأولى، ومن الطريف حقاً أن يقف القارئ لمخطوطة ابن الجزري على نماذج لخزنات تفتح بواسطة أرقام وحروف سرية تصنع خصِّيصى لها، ومما لا شك فيه أن هذه الخزنات كانت مطلوبة من لدن الأشخاص الأغنياء الذين يحتاطون على أموالهم الطائلة وبضائعهم النفيسة كالياقوت واللؤلؤ وباقي المعادن والأحجار الكريمة، كما تنفع أصحاب السلطان وخدّام الدولة العاملين في دواوين بلاطات الخلفاء والملوك والأمراء، حتى يحرزوا أموال بيت مال المسلمين وذخائر مخدوميهم ويحفظوها من الآفات، ويضمنوا سلامة علامات الطوابع والأختام السلطانية من الطمس والتزوير، أو من الضياع والسرقة.
ثانياً: أنواع الأقفال والضباب والمفاتيح في التراث الصناعي العربي
نستطيع القول إن صناعة الأقفال والخزنات شكلت مجالا واسعاً لإبداع الصانع العربي، بحيث تعددت أشكالها وأحجامها وتقنية غلقها وفتحها، فضلًا عن مواد التصنيع والعناصر الفنية والجمالية التي أضفت عليها رونقاً بديعاً، لم تعد معه بعض النماذج منها مجرد أدوات أو معدات للحفظ والحرز، بل قطعاً فنية حقيقية، فمن حيث الوظيفة كانت نسبة كبيرة من الأقفال، تستند إلى مبدأ جعلها وسيلة تستصعب إمكانية فتح الدور والخزنات والصناديق بشكل سهل ومباشر، بحيث يتوجب توفر مفتاح خاص بها، أو قن سري (Code) محدد سلفاً عند صناعتها، وكان يملكه صاحب الخزنة أو الصندوق، ورغم نمطية هذه الصنعة وصعوبة إيجاد نماذج فريدة كثيرة من المفاتيح، إلا أن الصنّاع كانوا ملزمين بتغيير القوالب وتبديل الأشكال المخصصة لصقل المفاتيح، حتى لا تتكرر نماذج لأشكال بعينها، يسهل بواسطتها حل عدد من الأقفال بمفتاح واحد.
لقد حرصت كتب التقانة العربية على توجيه عناية خاصة لتجاوز هذا المطبّ الصناعي، فنجدها تنصح الصناع بالإكثار من قوالب صب المفاتيح. وكانت بعض الخزنات النفيسة في قيمتها وفي صنف الودائع المحفوظة فيها، تتطلب أربعة مفاتيح لإغلاقها وفتحها، إضافة إلى ضرورة معرفة شفرة طويلة مكونة من ستة عشر حرفاً مرتبة بطريقة معقدة، يصعب على غير صاحبها فتحها.
![](https://arrafid.ae/ContentImages/1c02c7c2_الأقفال والمفاتيح في التراث العربي-4.jpg)
ثالثاً: مراكز صناعة الأقفال والمفاتيح في دار الإسلام
ازدهرت في المدن والحواضر الكبرى والحصون الممدّنة صناعة الأقفال بمختلف أحجامها، وكانت بعضها موجهة للاستعمال المحلي أو الداخلي، بينما تخصصت مدن بعينها في صناعة الأقفال والمزاليج لغرض التصدير إلى الأسواق الخارجية والأمصار البعيدة. وكانت هذه الحرفة التي اشتهرت في كل قطر من أقطار الإسلام باسم معين، فكان الشاميون يسمون أهل هذه الصنعة بنجارة الضباب، وكان أهل المغرب والأندلس يسمونها صنعة الأقفال، وكان أهل العراق يسمون صاحب هذه الحرفة بالقفال أو الأقفالي، وقد خصصت أسواق وممرات تجارية وأحياز صناعية لهذه الحرفة، واشتهرت من بينها جوبات الصفارين بالبصرة، في العصر العباسي الثاني، كما اكتسبت بعض المدن سمعة رفيعة في صناعتها للأقفال الوثيقة المستعصية على الفتح أو الكسر، وكانت حرفة القفالين يرأسها أمين عارف بصناعها، وعادة ما كان صاحب الشرطة أو رئيس العسس يلجأ إلى خبرة أمين صانعي الأقفال، عند استشكال أمر عليه، من باب طلب إجراء الخبرة على بعض الأقفال، التي تكون موضوع حادث سرقة أو اقتحام واعتداء، فبمجرد وقوع عين الأمين على القفل أو المفتاح أو الخزنة، عادة ما كان يعرف الصانع الذي يتخصص في صنعتها، بل يستطيع أحياناً أن يحصل على معلومات أكثر دقة في هذه النوازل، فقد يراجع صانع القفل ويستجوبه عن الأشخاص الذين اشتروا منه في الآونة الأخيرة نوعاً معيناً من الأقفال أو الخزنات، فإن كان يعرفهم بأعيانهم، دلّ عليهم الأمين رجال الشرطة والعسس، وإن غابت عنه ملامحهم أو هوياتهم، اكتفى الصانع بذكر بعض التفاصيل الأخرى كهيئتهم في اللباس والشارة، وهل هم من الساكنين في ذات المصر أم من الطارئين والغرباء، وكذا قاماتهم من حيث الطول والقصر، وأبدانهم من حيث النحافة والغلظ، وسحنة البشرة ولون الشعر، ونوع الجنس من ذكر أو أنثى، ومقدار العمر هل كان المشتري شيخاً أم شاباً يافعاً أم كهلًا، وهل هو ممن تلوح عليه سمة الوجاهة وحسن الخلق، أم من الشطّار والعيارين والسوقة والسفلة، وغير ذلك مما قد يعين في التحري ويكشف هوية الفاعل.
رابعاً: الحسبة على صانعي الأقفال والمفاتيح
كانت الحسبة في الإسلام تشمل مختلف أوجه الأنشطة الاقتصادية، كما كانت تسهر على صيانة المرافق العامّة كالطرق والقناطر والمجازات والأودية والمصاطب، وقد شملت مراقبتهم صانعي الأقفال والمفاتيح، فببلاد الشام، كانت خطة الحسبة تشدد مراقبتها على صانعي الأقفال والمفاتيح، وكانوا يعرفون بنجاري الضباب، ويذكر ابن بسام أنّ المحتسب عن هذه الحرفة "ينبغي أن يعرّف عليهم عريفاً ثقة عارفاً بمعيشتهم، بصيراً بهذه الصناعة، وينشر جواسيسها، وهو باب جليل يحتاج إلى ضبطه؛ لأن فيه حفظ أموال الناس، وصيانة حريمهم، فينبغي أن يراعى، ويحلفون بحضرة عريفهم، بما لا كفارة لهم منه، أن لا يعملوا لرجل ولا لامرأة، مفتاحاً على مفتاح، إلا أن يكونا شريكين مشهورين، ويؤمرون أن لا يثقبوا رأس الأبيات لطرح الأسنان، بل ينقروا لها في رؤوس الأبيات لحفظ الأسنان، وتكون الأسنان التي فيها مربعة الرؤوس، مدوّرة الأسافل، مبرودة، مجلّسة، وكذلك أسنان المفتاح مبردة، مجلسة، حتى لا يخرب ذكر الغلق، لا من فوقه، ولا من تحته، ويؤمرون أن يضموا الأغلاق بالجواسيس المختلفة، حتى لا يعمل مفتاح على مفتاح، ومن خالف ذلك أدّب"2. ونجد تأكيداً على هذه التوجيهات لدى محتسبين متأخرين عن ابن بسام، كابن الإخوة، وهي ظاهرة تثبت شمولية الضوابط الشرعية والتعليمات الصناعية المقترنة بهذه الحرفة في الحضارة العربية الإسلامية3.
كما عمّت معظم القطاعات الأخرى التي تتوقف جودة منتجاتها وبضائعها على المراقبة الصارمة لجميع مراحل عملها، فكان المحتسب بالأندلس مثلًا يفرض على طباخي اللحوم وضع أقفال محكمة على قدورهم وتسليمها له حتى لا يغشوا في تحضيرها، وفي هذا الصدد قال أحد أشهر محتسبة الأندلس: "شأن المحتسب أن يأخذهم بتنظيف أبدانهم بسبب الحك وشعورهم لكثرة الحك وتنظيف الأواني والقدور، ويتخذوا للقدور أغطية على ترابيع كأمثال أغطية التوابيت عليها أقفال، ومن تحتها أغطية أخر فإذا وضعوا سدس القدح من القمح المقشور بالدرس بعد النفض والغسل ويوضع معه من ثلاثة أرطال لحم بقري إلى أربعة أرطال جزارية، والرطل أربع وستون أوقية، ويطبعون أغطيتها بالبناء ويؤون عليها الأغطية البرانية ويقفل عليها وتبيت المفاتيح عنده أو عند عريفهم، فإذا كان وقت فتحها حضر معهم العريف وفتحت واحدة واحدة ونثر اللحم وخدم بمحضره"4.
خامساً: من طرائف حكايات صانعي الأقفال وأخبارهم
يشتمل التراث العربي في ذخائره على طرائف من أخبار عجيبة وغريبة، تدور أحداثها حول صانعي الأقفال والمفاتيح في تاريخ الشعوب العربية مشرقاً ومغرباً، ومنها ما كانت فيها تدابير تحتاج إلى قدر كبير من التخطيط المقترن بالاحتيال والترصد، لاستخراج نسخ مطابقة للمفاتيح التي تفتح بها الخزائن المالية الجسيمة والمحلات التجارية المشتملة على أنفس البضائع وأسنى المتاجر، بل كانت بعض هذه الأخبار تتعلق بدور الأعيان وحتى قصور السلاطين والوزراء والأمناء.
ويروي القاضي التنوخي عن حيل اللصوص الذين كانوا يستخرجون نسخا من المفاتيح لسرقة أموال التجار بالعراق، قال: "حدثني رجل من أهل دار الزبير بالبصرة، دقّاق، قال: أورد علي رجل غريب، سفتجة بأجل، فكان يتردد إلى أن حلت، ثم قال: دعها عندك، وآخذها متفرقة. فكان يجيء في كل يوم، فيأخذ بقدر نفقته، إلى أن نفدت. وصارت بيننا معرفة، وألف الجلوس عندي، وأنست به، وكان يراني أخرج كيسي من صندوق لي، فأعطي منه النقدات التي تحل علي. فقال لي يوماً: إن قفل الرجل، صاحبه في سفره، وأمينه في حضره، وخليفته على حفظ ماله، والذي ينفي الظنة عنده عن عياله، فإن لم يكن وثيقاً، تطرقت الحيلة عليه، وأرى قفلك هذا وثيقاً، فقل لي ممن ابتعته، لأبتاع مثله. فقلت: من فلان القفّال، في جوبات الصفارين. قال: فما شعرت، إلا وقد جئت وطلبت صندوقي، لأخرج منه شيئاً من الدراهم، فحمل إلي، ففتحته، فإذا ليس فيه شيء من الدراهم. فقلت لغلامي - وكان غير متهم عندي -: هل أنكرت من الدرابات شيئاً؟ فقال: لا. فقلت: ففتش، هل ترى في الدكان نقباً؟ ففتش، فقال: لا. فقلت: فمن السقف حيلة؟ فقال: لا. فقلت: اعلم أن دراهمي قد ذهبت؟ فقلق الغلام، فسكنته، وأقمت في دكاني، لا أدري ما أعمل، فتأخر عني الرجل، فلما تأخر، اتهمته، وتذكرت مسألته لي عن القفل. فقلت للغلام: أخبرني كيف تفتح الدكان وتغلقه؟ فقال: رسمي، إذا أغلقت الدكان، أغلقه درابتين، درابتين، والدرابات في المسجد، أحملها دفعات، اثنتين وثلاثاً، في كل دفعة، فأشرجها، ثم أقفل، وكذا أفتحها. فقلت: البارحة، واليوم كذا فعلت؟ فقال: نعم. فقلت: فإذا مضيت لترد الدرابات، أو تحضرها، على من تدع الدكان؟ قال: خالياً. فقلت: فمن هاهنا وقع الشر.
وذهبت ومضيت إلى الصانع الذي ابتعت منه القفل، فقلت له: جاءك إنسان منذ أيام، اشترى منك مثل هذا القفل؟ قال: نعم، وحكى من صفته كيت وكيت، فأعطاني صفة صاحبي. فعلمت أنه جاء، واختبأ للغلام وقت المساء، حتى إذا انصرفت أنا، ومضى وهو يحمل الدرابات، دخل الدكان فاختبأ فيه، ومعه مفتاح القفل الذي اشتراه، الذي يقع على قفلي، وأنه أخذ الدراهم، وجلس طول ليلته، خلف الدرابات، فلما جاء الغلام، وفتح درابتين أو ثلاثاً، وحملها ليرفعها، خرج هو، وأنه ما فعل ذلك، إلا وقد خرج إلى بغداد. قال: فسلمت الدكان إلى الغلام، وقلت له، من سأل عني، فعرفه أني خرجت إلى ضيعتي5. قال: وخرجت، ومعي قفلي ومفتاحه. فقلت: أبتدئ بطلب الرجل بواسط، فلما صعدت من السميرية، طلبت خاناً في الجسر، أنزله، فأرشدت إليه، فصعدت، وإذا بقفل مثل قفلي، سواء، على بيت. فقلت لقيم الخان: هذا البيت من ينزله؟ فقال: رجل قدم من البصرة، أول أمس. فقلت: أي شيء صفته؟ فوصف صفة صاحبي، فلم أشك أنه هو، وأن الدراهم في بيته. فاكتريت بيتاً إلى جنبه، ورصدت البيت حتى انصرف القيم، وقمت، ففتحت القفل بمفتاحي. فحين دخلت البيت، وجدت كيسي بعينه، ملقى فيه، فأخذته، وخرجت وقفلت البيت، وتركته. ونزلت إلى السفينة التي جئت فيها، وأرغبت الملاح في زيادة أجره، حتى حملني، وانحدرت في الحال، وما أقمت بواسط إلا ساعتين من النهار. ورجعت إلى البصرة بمالي".
ومن حيل اللصوص المحتالين على التجار والمياسير، ما يحمل في طياته عوامل التطور الهائل الذي شهدته صناعة الأقفال في الحضارة الإسلامية، إذْ كان مطلباً ملحاً استدعته أساليب الخداع والمكر التي اتبعها المحتالون للوصول إلى ذخائر الناس بطرق معقدة.
نخلص إلى القول؛ إن مكانة صناعة الأقفال أو الضباب مثلما كانت تعرف لدى أهل الحسبة، هي صناعة خطيرة القدر و"باب جليل يحتاج إلى ضبطه"، كما وصفها ابن الإخوة وابن بسام المحتسب، إذ كانت حرزاً لأموال الناس وأعراضهم، ووقاية للتجار والمياسير من اللصوص والصعاليك، في الآن نفسه الذي عدت أحيانا ثغرة للمس بحقوق الناس وأعراضهم في حالات الإخلال بضوابط هذه الصناعة الشديدة الخطورة. كما نستنتج من خلال هذه الدراسة أن العرب كانوا أهل خبرة عالية وعناية فائقة بالأقفال والخزنات، ماهرين في التفنن في صنعة نماذج فريدة منها، كالخزنات ذات الأرقام والحروف السرية أو الشفرات، وأوجدوا أساليب مبتكرة في استخداماتها المختلفة، فكانت بعضها تتطلب دراية خاصة لإحكام غلقها وفتحها، كما كانت بعضها في غاية من الصغر والدقة بحيث يتطلب صنعها أدوات وتقنيات مناسبة، ومن المثير للإعجاب في هذا الفن العربي، أنّه من الفنون النادرة التي ظلت مؤلفات التراث العربي تختزن نماذج تفصيلية لعدد منها، كما تحتفظ بعض متاحف العالم ومحلات عرض التحف الأثرية الكبرى بمقتنيات للأقفال والخزنات وصناديق حفظ المجوهرات العربية، من قبيل متحف إسطنبول الذي ما زال يحتضن من بين هذه التحف صندوقاً عربياً بديعاً يفتح بأربعة مفاتيح، ومتحف نيويورك الذي يحتفظ بصناديق منحوتة من العاج كانت تخصص للحلي، وهي تعود لعصر الخلافة الأموية بالأندلس.
الهوامش: 1. مخطوط المكتبة البريطانية بلندن، (رقم: Ms. Or. 116)┇2. ابن بسام، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، تحقيق محمد حسن محمد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي، الطبعة الأولى، بيروت: دار الكتب العلمية، 1424ﮬ/2003م، ص: 355-356.┇3. ذكر ابن الإخوة في نفس الصدد نصائح تكاد تكون مطابقة لما سلف، غير أنه استبدل بعض الألفاظ التقنية الخاصة بصناعة الأقفال، حيث يقول: "وأما نجارو الضباب، فيجعل عليهم رجل له دين وبصيرة بهذه الصناعة، فهو باب جليل يحتاج إلى ضبطه، لأنّ فيه حفظاً للأموال وصيانة الحريم، فينبغي أن يراعي في ذلك ألا يعملوا لأحد مفتاحا على مفتاح إلا أن يكونا شريكين مشهورين بالعفة، وألا يثقبوا رأس الإنبات لطرح الأسنان، بل ينقروها في رؤوس الإنبات لحفظ الأسنان التي فيها، مربعة الرؤوس مدورة الأسافل مبردة مجلسه، حتى لا يخرب ذكر الغلق، لا من فوقه ولا من بطنه، ويؤمروا أن يغيروا الإغلاق بالجواسيس المختلفة، حتى لا يعمل مفتاح على مفتاح، فمن خالف ذلك أدِّب"؛ ضياء الدين محمد بن محمد بن الإخوة، معالم القربة في أحكام الحسبة، تحقيق إبراهيم شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلمية، 2001، ص: 247-248.┇4. أبو عبد الله محمد بن أبي محمد السقطي المالقي الأندلسي، كتاب في آداب الحسبة، تحقيق ليفي بروفنسال وجورج كولان، باريس: مطبعة إرنست لورو، 1931، ص: 34-35.┇5. أبو علي المحسن بن علي بن محمد بن أبي الفهم داود التنوخي البصري، نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، تحقيق عبود الشالجي، بيروت: دار صادر، ج. 8، ص: 88-90.