في التجنيس: قصة أم قراءة تخييلية
تستند المادة السردية في القصة القصيرة عموماً إلى الواقع عبر اقتناص تفصيل من تفصيلاته الدقيقة، والتبئير عليها، وإدماجه في حبكة كلاسية أو تجريبية، من خلال التركيز على ذات سردية وأخرى ساردة، الأولى تنجز أفعالاً ولها أحوالٌ نفسية وجسدية، تتغير من وضعية البدء حتى لحظة التنوير، الذي يفصح عن رهان ما، يتوزع بين رهان القصة نفسها، ورهان الكاتب، ورهان القارئ. أو إلى قراءة نصوص سردية، يستلهم منها القاص عوالمه السّردية، مع إحداث تغيير عميق في بنياتها وأنساقها، بما يحقق خصوصية النص القصصي الجديد، أو الاستناد إليهما معاً، الواقع والقراءات، مع حبك مختلف وجديد يدمجهما في القصة القصيرة، التي من المفترض أنها تقوم على الحدث الواحد، والذات السردية والساردة الواحدة.
وإن خصوصية نصوص "الواو" لمحمد اشويكة هو انبناء مادة حبكاتها، استناداً إلى صور فوتوغرافية لفنانين راسخين في اقتناص لحظات من الحياة، ومن الوجود، ذلك الذي تقتنصه العين ولا تستنزفه. غير أنه في المجموعة اقتناص مزدوج ضمن ثنائية كبرى: النص البصري، الذي يغري بقراءة خاصة، تختلف من قارئ إلى آخر، والنص السردي الذي يقرأُ تخييلياً، وباقتصاد مكثف ومؤَوِّل، النصَّ البصري وفق سيناريوهات جمالية وفكرية تعني الكاتب وسارِديه الذين يوظفون ضمير المتكلم، كما لو أنهم يرسخون النزعة التذويتية في قراءة النص البصري.
إننا أمام اشتغال مختلف على المادة القصصية، فليس الأمر يتعلق باستثمار الواقع: مفارقاته، وتحولاته، ولا على قراءات سابقة؛ بل على ما يمكن تسميته "بالقراءة التخييلية"، التي تقع على التخوم بين القصة القصيرة وبين النص (النقدي) التخييلي، فخصوصية تجربة إضمامة (الواو) أنها تقترح قراءة للنصوص البصرية (لفن الفوتوغرافيا)، وتحويلها من صيغتها العلامية والأيقونية إلى نصوص سردية (مكتوبة). وهنا فإن النصوص تستلهم من جهة المادة السردية (البصرية)، ثم توظفها لصالح الكتابة القصصية. لكن هذا الاستثمار له أثره على بنيات خِطاب القصة القصيرة، فهذه العلاقة الناشئة بين النص البَصري والنّص السّردي لها أثرها الأكيد على الخصائص الفنية والثقافية لنصوص المجموعة.

إن أول معالم الخصوصية هي التي يتضمنها عنوان المجموعة نفسه، (الواو). وهو عنوان مخالف للمألوف من العناوين التي تحوز وظيفتها المرجعية عبر كلمة أو مركب لغوي يكتفي بذاته ويدل بنفسه، فحرف (الواو) تتعدد استعمالاته اللغوية بما يقارب الخمس عشرة حالة (العطف، المعية، الإشباع، بحسب ما قبلها، الاستئناف، الفصل...)، لكنها في كل الحالات لا تكتفي بذاتها؛ بل تحتاج إلى ما يعضدها حتى يتم تحديد وظيفتها اللغوية. لكن العودة إلى المُناصات، وخاصة منها العناوين الداخلية للنصوص الساكنة في الإضمامة، يكشف أن (الواو) للعطف، مع مطلق الجمع والاشتراك، باستثناء واحدة للاستئناف، في كسر للنمط والتلقي ونوع الكتابة. ومن هذه العناوين:
◂ التفاحة والامتداد/ الدراجة والشرخ/ النافذة واللطخة/ البيضة والخط/ الحجاب والجمجمة/ المرأة والظل/ البحر والجرف/ الوردة والقناع.
◂ ... والثلاثة.
إن اختيار (واو) العطف يدل على ثنائية نصية، فالمعطوف هو جزءٌ من العلامة البصرية، كأنْ تكون الدّراجة، أو النافذة، أو البيضة، أو الوردة، موجودة في الصورة المقروءة؛ أما المعطوف عليه، فهو العلامةُ اللغويةُ التي تحيل على رهان القراءة التخييلية، أي النص السردي، ومثاله النص الافتتاحي (التفاحة والامتداد)، الذي يتوزع إلى نصين: الأول نص بصريٌّ هو عمل فوتوغرافي للفنان خالد الجعفري، يتضمن صورة لتفاحة مفتوحة على قراءات مختلفة، والثاني قصة قصيرة مستوحاة منه وتقدم قراءة تخييلية مخصوصة من بين عدد كبير من القراءات الممكنة، يبئر فيها السّارد على الجانب المغيّب في قراءة رمزية التفاحة، (فآدم لم يأكل التفاحة، بل قطفها، تذوقها، أعجبته، أكلها ثم هضمها كبقية الأحياء.../ ولم تسقط التفاحة على نيوتن، بل آلمته في أعلى رأسه، أحس بما يشبه الألم، حملها إلى مختبره، غسلها ببعض المحاليل المضادة للباكتيريا، ثم هضمها كبقية الأحياء/ ها نحن نعيش عصر القضم الإليكتروني دون أن نختار تفاحة الاختلاف، تلك التفاحة الأسطورية التي رمتها كالنرد الإلهة "إيزيس"..) [محمد اشويكة: الواو، ص: 9-10].
إن القراءة التخييلية، عبر نص (التفاحة والامتداد)، تقرأ التفاحة بعيداً عن رمزيّتها الوجودية المألوفة، فإن كانت تفاحة آدم رمزاً للخطيئة الكبرى، التي أدت إلى مغادرته الجنة؛ فإنها في القصة تصير فعلاً بشرياًّ عاديّاً، فالوجه الآخر للمعصية، هو الغريزة البشرية التي تميل إلى استهلاك ما يعجبها، والأمر نفسه ينسحب على تفاحة (نيوتن) التي تُقدَّم في بعض المرجعيات الإبستمولوجية على كونها السبب الذي أدى إلى اكتشاف (الجاذبية)، ورمزاً للثورة العلمية في مجال الفيزياء، بينما هي في هذه القراءة لم تكن إلا جزءاً من فعل يقدم عليه الأحياء جميعاً من أكل يعجبُ؛ فالقراءة التخييلية تمنح تصوراً مختلفاً عن الرمزيّ، الذي صار بسبب استهلاكه المكثف أمراً اعتيادياً، بينما صار الفعل البشري (أكل التفاحة اللذيذة) سلوكاً مُفارقاً وغير متوقع. وهكذا فإن القصة القصيرة، هنا، تمنح القارئ امتداداً وجودياً يعيد "التفاحة" إلى حياتها الطبيعية ووظيفتها الوجودية الأصيلة، ويخففها من فائض الرمزية التي تقترن بها قسراً، ولكن، وفي مفارقة، هي من صميم الكتابة القصصية، يحول السارد قفلة القصة نحو الدلالة الثقافة المضاعفة، حينما يربط التفاحة برمزيتها الإليكترونية، وعبر تناص مع أسطورة الإلهة إيزيس، يمنح المروي له، فكرة التأمل في الصراع الناجم عن توظيف وسائل التواصل الاجتماعي، فالتفاحة المقضومة التي تحيل أيقونيا على الإمبراطورية العلامية "آبل"، وكناية ثقافية عن سطوة وسائط التواصل في حياتنا، صارت تناقض وظيفتها (التواصل) لصالح تفاحة الصراع، التي يقضم منها كل طالب صيد أو مصلحة أو تصفية حساب أو تقويض صرح، لكن رمزية التفاحة المقضومة نفسها، التي تحيل على عدم اكتمال الإنسان أو الشيء، وحاجته إلى غيره، غير واردة في هذا الصراع "المصطنع".
ولنتأمل كيف أن صورة فوتوغرافية للتفاحة، قد صارت عبر القراءة التخييلية كوناً قصصياً متّسعاً ومنفتحاً على لعبة المرايا اللانهائية، ومن هنا فإن خصوصية الكتابة القصصية، عبر القراءة التخييلية للنص البصري، تفتح إمكانات لتثوير البناء الفني والرؤى الثقافية للنص القصصي، ففكرة قراءة الصور تضمن تلبية حاجة جمالية مزدوجة مُسترفدة من النّصين البصري والسردي، لكنها أيضاً لا تهادن في استفزاز التأمل المستغور، فالنص البصري يحتاج إلى قارئ ذي ثقافة خاصة.
تذويت القراءة: وسلطة السّارد المفكر
تتميز غالبية نصوص إضمامة (الواو) باقتصاد محكيّها، فهي لا تغرق في التفاصيل السّردية، وتتخفف من النسق الكلاسيكي في كتابة القصة، فنحن لا نجد في حبكاتها، ذواتاً وشخصياتٍ لها حالاتها وتحولاتها، التي تنطلق من البحث عن موضوع (هدف) تروم الوصول إليه؛ ولذلك سيسجل القارئ غياب أسماء أعلام للشخصيات، ولا يقبض على تحولات بعينها، أي حركية الأفعال السردية في تقدمها نحو موضوعها، في مقابل حضور مكثف للسّارد الناظم، الذي يسرد الأحداث/ الأفكار بضمير المتكلم، بطريقة "استبطانية" تروم التعبير عن الأفكار والرؤى والمواقف، وهنا فسلطة السارد تهيمن في مختلف نصوص المجموعة، فالسّاردون جميعهم يحكون بضمير المتكلم، ويعبرون عن أفكار تتصل بكثير من التناغم، ومحملة بمرجعية فلسفية وفكرية واضحة. [رأسي امتداد للحمرة، ص: 10/ تهتُ عن دراجتي أم تاهت عنيّ، ص: 13/ عيني نافذة مشرعة عليك، ص: 17/ بصمتي لا ترتسم على شيء، ولا تحس بالأشياء، ص: 21].
وهذا معناه أن القراءة التخييلية، ولو اتشحت بخصائص فن القصة، فإنها تنهل من الفكر النقدي اتساقه وانسجام أفكاره وتصوراته، واقترانه ببراديغمات مُوجِّهة، وأن تعدد الساردين ومستوى حضور ضمير المتكلم في كل قصة من قصص المجموعة، يعلن عن انتظام على صعيد واحد، ويمكن إجمال هذا الانتظام على النحو الآتي:
◂ جميع الساردين لهم وعيٌ فنيٌّ، فهم ملمون بالموسيقى وأدواتها، كما في نص (اليد والوتر) المستلهم من عمل فوتوغرافي للفنان ميلود ستيرة، أو نص (العازف والراقصة)، أو الفن التشكيلي كما في نص (المرأة والظل) المستلهم من عمل فوتوغرافي للفنان نورالدين تلسغاني، أو المسرح كما في نص (... والثلاثة) المستلهم من عمل فوتوغرافي للفنان داود ولاد سيد.
◂ جميع الساردين لهم وعي نقدي إزاء الظواهر والوقائع، ويوظفون السّند البصري، قصد إعادة بناء صورة متكاملة عن العالم: الوحدة واللجوء إلى البحر طلباً للوحدة، انتباذاً للناس، واتقاءً لشرهم في نصّي (الغول والمَدينة) و(الوَردة والقناع)، الرغبة في نهاية مختارة لفناء الجسد في نص (الرِّجْلُ والتَّفاوض)، أو صناعة الحقيقة الشخصية بعيداً عن سلطة الوهم في نص (الجذر والجدع). أو التصالح مع الجسد، طلباً للتناغم بين المادة والروح في نصوص (اليد والظلام)، (الفتاة والماء)، (الرأس والقناع)، (الحلمة والانطواء).
إن القصص القصيرة، بوصفها قراءة تخييلية للسند البصري، تنهل من الذات الناقدة في دخيلة القاص، أكثر مما تنهل من تخييليته، فمادام يستند إلى مرجع ثابت هو "الصورة الفوتوغرافية"؛ فإنه يكون مرتبطاً بعلاماتها، يفكك عناصرها، ويركب دلالتها المرجعية، قبل أن يخضعها لبنيات خطاب القصة عبر جناح التخييل. ولكن في كل الأحوال فإن القصة تظل ذات خصوصية، تجعلها مختلفة عن قصص حرة المرجع، ولهذا السبب نسجل حضور هذا "السارد المفكر" في غالبية قصص المجموعة، فهو يحضر بوعي نافذ وحاد تجاه الظواهر والوقائع والعلامات، ويمسك بزمام سلطة السرد، فلا يسلمها إلى غيره.
إن إضمامة (الواو) هي تجربة فريدة، وتمنح للقراءة وجهاً مضاعفاً، ذلك أن القارئ، وهو أمام نصّين بصريٌّ ولغويّ، تتاح له فرصة كبيرة لتجريب قراءته النقدية أو التذوقية أو التخييلية الخاصة، ما يضاعف ممكنات الاستجابة لحاجته الجمالية في تجاور مع إعمال الفكر الناقد.