تأثيرات أندلسيّة .. في قصور مصريّة

رامي ربيع عبد الجواد راشد

للعمارة الإسلامية بمصر أهمية كبرى بين عمائر بلاد المشرق والمغرب، لِمَا حظي به هذا القطر من مكانة سياسية، دينية، وثقافية، أسهمت بشكل رئيس في تطور وبلورة طرز العمارة بها، على مر عصور الدول الإسلامية التي تعاقبت عليها في الحكم، والتي حافظت فيها على تلك الوحدة الإسلامية العامة التي طَغَت كُلِّياً وجزئياً على سِمَاتها، وعناصرها المعمارية والفنية، منذ العهد الإسلامي المبكر إلى بداية عهد محمد علي.
 

كان عهد محمد علي باشا بمصر (1220– 1265هـ/ 1805– 1848م)، نقطة تَحَوّل جذرية في مسار العمارة الإسلامية، بما أدخله من طرز معمارية وفنية أوروبية وافدة، تَجَلَّت بصماتها واضحة على شتى العمائر التي ترجع إلى عهده، وعهد من جاء بعده من الحكام والأمراء، بل والعامة من مختلف طبقات المجتمع المصري، وعن ذلك يقول علي باشا مبارك: (وأول من أدخل المباني الرومية في الديار المصرية هو العزيز محمد علي، فأحضر معَلِّمين من الروم فبنوا له سراية القلعة وسراية شبرى... وحذا حذوه في إنشاء العمائر على هذا الأسلوب بنوه وأمراؤه... وحذا الأهالي حذو الأمراء، فكثرت المباني الرومية في داخل القاهرة وضواحيها)1.

على الرغم من ذلك، فلم يكن هذا إيذاناً بنهاية وجود الطراز العربي الإسلامي في العمارة المصرية خلال تلك المرحلة، لِمَا له من تَأصُّل وتَجَذُّر بعيد المدى طيلة قرون عديدة، والذي لم يكن من السهل مَحْوه أو التخلِّي عنه بالكُلِّية، ومن جانب آخر، فرغم سيطرة تلك الطرز الأوروبية الوافدة على جُل العمائر، لانفراد الساحة أمام المعماريين الأوروبيين، إلا أن هذا لم يمنع من ظهور طائفة من هؤلاء المعماريين الأجانب، الذين استهوتهم عناصر ومفردات الطراز الإسلامي في العمارة، فراحوا يستلهمونها لتزيين وزخرفة منشآتهم، كما اتجه آخرون منهم إلى استخدام تلك العناصر والمفردات ذات الطابع الإسلامي، وقوفاً على رغبة بعض الأعيان والأثرياء في بناء منشآت مُصَمَّمة على الطراز العربي الإسلامي، الذي يتسم بجماليته وثرائه الزخرفي، كما كان لعمل بعضهم في ديوان الأوقاف، وفي لجنة حفظ الآثار دور في تأثرهم بذلك الطراز الإسلامي2.

من ناحية أخرى، فقد ارتبطت محاولات إحياء الطراز الإسلامي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين (13– 14هـ)، بظهور الاتجاهات الثقافية التي دَعَت إلى إحياء التراث المحلي والحضارة الإسلامية3، ومن ثم ظهرت مُسَمَّيات مثل: "طراز النهضة الإسلامي"، "الطراز الإسلامي المُستحدَث"4.

كان من بين الطرز الإسلامية التي لاقت قبولاً وانتشاراً بالعمارة الإسلامية في مصر بوجه عام، ومدينة القاهرة على وجه التحديد، خلال القرنين (13– 14هـ/ 19– 20م)، ذلك الطراز الوافد المعروف بـ"الطراز الأندلسي المغربي"5. والواقع أن لهذا الطراز بالعمارة الإسلامية المصرية أصول ضاربة في القدم منذ العصر الفاطمي (358– 567هـ/ 968– 1171م)، على أقل تقدير، ومروراً بكل من العصرين الأيوبي (567– 648هـ/ 1171- 1250م)، والمملوكي (648– 923هـ/ 1250– 1517م). وقد ساعد على انتشاره خلال تلك العصور الثلاثة عديدٌ من العوامل السياسية، والدينية، والثقافية، الأمر الذي جعله لم يكن ليتوقف عند هذا الحد، بل استمر بقاؤه إبان العصر العثماني (923– 1220هـ/ 1517– 1805م)، وما تلاه خلال عهد محمد علي وخلفائه (1220– 1372هـ/ 1805– 1952م).

تعكس بعض قصور مدينة القاهرة في القرنين (13– 14هـ/ 19– 20م)، عدداً من مظاهر التأثيرات الفنية الأندلسية، ولعل من أبرزها: قصر الأمير محمد علي بالمَنْيَل، قصر الجزيرة في الزمالك، القصر المعروف بـ"قصر بنت السلطان" بالزمالك، فضلاً عن قصر الأمير عمرو إبراهيم (1342هـ/ 1923م)، المعروف اليوم بـ"متحف الخَزَف" في حي الزمالك أيضاً، وبهذا الأخير، لوحة (1)، يمكن استجلاء بعض التأثيرات الفنية الأندلسية الصريحة، وذلك على النحو الآتي:

زخرفة الشبكة المعينية

 هي من أهم العناصر الزخرفية في العمارة الأندلسية والمغربية منذ العصر المرابطي (462– 540هـ/ 1069– 1145م)، وخلال العصور الإسلامية المتعاقبة، حيث لعبت دوراً بارزاً في زخرفة واجهات المآذن خلال العصرين الموحدي (540– 668هـ/ 1145– 1269م)، والمريني (668– 869هـ/ 1269– 1464م)، كما أضحت إطارات هندسية تحوي بداخلها توليفات رائعة من التوريقات النباتية، لِتُزَيّن حوائط وواجهات القاعات، الأبهاء، والقباب في قصور الحمراء بغَرناطة، لوحة (2)، وتلك السِّمَة هي ما نجده بتمامه في بعض قاعات قصر الأمير عمرو إبراهيم بالزمالك (3).

النقوش الكتابية

للنقوش الكتابية مكانة مهمة في العمارة الإسلامية، سواء فيما يخص أنواع الخطوط المستخدمة، أو فيما يتعلق بمضامينها المتعددة، ولعل من أبرز النقوش الكتابية بالأندلس خلال عصر بني نصر (635– 897هـ/ 1237– 1492م)، تلك العبارة الدعائية الشهيرة: "ولا غالب إلا الله"، إذ كانت شعارهم في حاضرتهم مملكة غَرناطة، ولذا عَمَّ تداولها على كافة مآثرهم المعمارية والفنية، بحيث لا يكاد يخلو منها موضع من قصورهم بالحمراء، ممتدة في تكرار دائم إلى ما لا نهاية، وبصور وأشكال فنية غنيّة متنوعة، لِمَا لها من دلالة مهمة مرتبطة كل الارتباط بالأحداث السياسية المؤلمة التي كانت تتوالى على مملكة غَرناطة، آخر معاقل الوجود العربي الإسلامي بالأندلس.

 حظيت تلك العبارة بأهمية كبرى ضمن النقوش الكتابية في قصر الأمير عمرو إبراهيم، بل يمكن اعتبارها السمة الفنية المميزة لهذا القصر، إذ نجدها مُنَفَّذة بصورة واسعة الانتشار، وبطرق وأساليب فنية متعددة، حسبما نراها منقوشة بالخط الكوفي الأندلسي المُزْهِر، مكررة مرتين على يمين ويسار المدخل الرئيس للقصر، كما تُزَيّن أعلى المدافئ الثلاث الملحقة بالقصر، لوحة (4)، ومرة ثالثة منفذة بخط الثلث في تكرار دائم بالإفريز الذي يعلو إزار البلاطات الخزفية –ذات الطراز التركي– بقاعة الطراز الفاطمي، على أن أهم النماذج التي يتجلى فيها مظاهر التأثير الأندلسي الغرناطي، تلك المنقوشة بقاعة الطراز التركي والقاعة المتصلة بها، لوحتان (5، 6).

إلى جانب تلك العبارة الدعائية، فهناك أخرى سُجِّلت بالمدفئتين الملحقتين بالقاعتين الجانبيتين، انتشر تداولها أيضاً على عمائر عصر بني نصر بغرناطة، ألا وهي عبارة: "بَرَكة كاملة نعمة شاملة"، لوحتان (7، 8)، إذ نجدها ضمن النقوش الكتابية المسجلة بقصور الحمراء6. وأخيراً، فإن من بين العبارات الدعائية التي شاع استعمالها على العمارة والفنون الأندلسية، عبارة "يُمْن"، والتي نراها منقوشة كذلك في قصر الأمير عمرو إبراهيم بالخط الكوفي المرآتي، بصورة شديدة المحاكاة لنظائرها في قصور حمراء غرناطة، لوحة (9)، الأمر الذي يتضح من خلاله أهمية الحضور الفني الأندلسي بمصر في تلك الفترة المتأخرة، على يدي بعض المعماريين والفنانين الأوروبيين، بما يؤكد في النهاية مدى ما تمتع به "الطراز الأندلسي المغربي" من مكانة رفيعة، لم تكن لتتوقف عند حدوده الجغرافية وحسب، بل تردد صداها بقوة، شاهدة على عظيم فضل تلك الحضارة الأندلسية على بلاد الشرق الإسلامي، والغرب المسيحي سواء.


الهوامش: 1. مبارك (علي): الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة. المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر، ط1، 1306هـ، جـ1، ص: 83– 84. | 2. عبد الحفيظ (محمد علي): دور الجاليات الأجنبية والعربية في الحياة الفنية في مصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر: دراسة أثرية حضارية وثائقية. مخطوط رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، كلية الآثار، قسم الآثار الإسلامية، 1421هـ/ 2000م، جـ1، ص: 158. | 3. مما يشهد لذلك، ما ورد بالنقش التسجيلي الذي يعلو المدخل الرئيس لقصر محمد علي الصغير بالمنيل (1348هـ/ 1929م)، وفيه: (أنشأ هذا القصر الأمير محمد علي نجل المغفور له الخديوي محمد توفيق إحياء للفنون الإسلامية وإجلالا لها). فرغلي (شيرين فوزي): قصر الأمير محمد علي وملحقاته بجزيرة الروضة: دراسة أثرية معمارية. مخطوط رسالة ماجستير، جامعة القاهرة، كلية الآثار، قسم الآثار الإسلامية، 1430هـ/ 2009م، مج1، ص: 222. | 4. عبد الحفيظ: دور الجاليات الأجنبية والعربية. ص: 158. | 5. للمزيد حول أصول وخصائص هذا الطراز المعماري الفني ببلاد الأندلس والمغرب، انظر: مارسيه (جورج): الفن الإسلامي. ترجمة: عبلة عبد الرازق. منشورات المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2016م، ص: 141– 169، 217– 241.
Terrasse (Henri): L´ Art Hispano – Mauresqe des origins au XIII ͤ siecle . Paris, 1932.
 .1Puerta ( José Migule ) : Lire L´ Alhambra : Guide visuel du Monument à Travers ses Inscriptions . Fondation Ibn Tufayl d´ Etudes Arabes , Granada , 2011 , P. 121 , 157 , 194 , 199 , 209 , 221 , 222 , 232 , 320 .

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها