الاستطيقا أو ما وراء الجمال

قراءة في كتاب: معنى الجميل في الفن

عبد البر العلمي


معنى الجميل في الفن (مداخل إلى موضوع علم الجمال) د. سعيد توفيق
الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015 (عدد الصفحات: 119)


نشأ الفكر الجمالي قديماً مع البدايات الأولى للتفلسف مختلطاً وممتزجاً بالفكر الميتافيزيقي تارة، وبالفكر الأخلاقي تارة أخرى، وكان يمتزج بهما معاً في أحيان كثيرة. فكان البحث في الفن والجمال جزءاً من مباحث فلسفية واسعة في الإنسان والطبيعة والكون بوجه عام. فالحقيقة أن اليونانيين لم تكن لديهم معرفة بالفن في ذاته ولذاته؛ وإنما كان اهتمامهم بالفن من حيث علاقته بالخير أو دلالته على الحقيقة. وربما يكون هذا هو السبب أيضاً في أنهم لم يعرفوا شيئاً عن الجمال الفني الذي أصبح الآن يشكل الموضوع الأساسي في علم الجمال أو البحث الاستيطيقي المعاصر.

يقول سعيد توفيق: "ليس القصد من وراء هذا الكلام التقليل من شأن إسهام اليونان في مجال الفكر الجمالي، فليس هناك شك لدينا في أن أخصب مرحلة من مراحل الفكر الجمالي فيما قبل نشأة علم الجمال، إنما تُلتمس بوضوح عند اليونان؛ نحن يمكن أن نلتمس عند اليونان- وخاصة عند أفلاطون- تأملات واستبصارات عميقة تتعلق بالدلالة الأنطولوجية للجمال باعتبارها تربط بين العالم الواقعي الذي نحيا فيه والعالم المثالي الذي نتطلع إليه، وبين العالم المحسوس والعالم المعقول أو عالم الحقيقة، وبين عالم الفوضى وعالم النظام، كما لو أن الجمال بذلك يكون تجلياً أو تجسيداً لصور مثالية –أي صور من الحقيقة والخير والنظام- في عالم من الزيف والفوضى مليء بالقبح والآثام".

كذلك –يضيف سعيد توفيق- يمكن أن نتلمس عند اليونان تأملات وتساؤلات عميقة حول الفن أسهمت في تأسيس نماذج عديدة للقضايا والمشكلات الأساسية في علم الجمال، وذلك من قبيل تساؤلاتهم حول ماهية الفن وطبيعة الإبداع الفني والتذوق الجمالي، وكل هذه الملاحظات حول إسهام اليونان حقائق لا شك فيها ولا في قيمتها، ولكنها لا تغير شيئاً من التوصيف السالف الذكر.

ومن هنا يمكن التأكيد على أن اهتمام اليونان بالجمال كان اهتماماً بفكرة الجمال من حيث هي فكرة ميتافيزيقية. وعلى النحو نفسه؛ فإن اهتمامهم بالفن وأسلوب تناولهم للقضايا التي أثاروها حوله كان يتخذ دائماً وجهة ميتافيزيقية وأخلاقية. ومع ذلك -وإن كنا يمكن أن نستفيد كثيراً من تأملاتهم حول مفهومي الجمال والفن في علاقتهما بالميتافيزيقا والأخلاق- فإننا لن نجد عندهم شيئاً يُذكر إذا ما تعلق الأمر بالجمال الفني في ذاته؛ فهذا المبحث الأخير كان يتم إهماله دائماً وتجاوزه لمصلحة المبحثين الأخيرين، أعني أننا نجد عندهم دائماً قفزات من الفن إلى ما وراء الفن، أي إلى ما ليس بفن.

ولقد جاءت نقطة التحول الحاسمة في تاريخ الفكر الجمالي سنة 1975 على يد ألكسندر بومجارتن مؤسس علم الجمال أو الاستطيقا الفلسفية، والذي أطلق مصطلح "استطيقا" عنواناً لكتابه الذي أصبح ينظر إليه الآن باعتباره علامة بارزة في تاريخ الفكر الجمالي. فمنذ ذلك الحين أصبح هذا المصطلح مرادفاً لمصطلح علم الجمال.

إن أهمية إسهام بومجارتن لا ينبغي فهمها على أنها تكمن في اختراع اسم جديد؛ فالحقيقة أن الاسم الذي أطلقه بومجارتن له أصوله اليونانية في كلمات من قبيل Aisthetikos وAisthesis، والتي تشير إلى خبرة الإدراك الحسي أو المعرفة الحسية، ولا تعني أهمية إسهامه أنه ابتكر موضوعاً جديداً للتأمل والبحث؛ فكثير من قضايا ومباحث الفن والجمال قد عرفها السابقون منذ اليونان. فالحقيقة أن قيمة إسهام بومجارتن تكمن على وجه التحديد في أنه أطلق هذا الاسم ليميز المعرفة الجمالية باعتبارها نمطاً خاصاً من المعرفة الحسية التي تستند إلى الخيال والشعور وتميز إدراكنا للفنون الجميلة.
 

تمييز موضوع علم الجمال عن موضوعات العلوم المتداخلة معه:

يرى سعيد توفيق أن أول ما يميز علم الجمال من حيث هو علم فلسفي أنه يختص بتناول المبادئ العامة لظواهر الفن، أما في العلوم الأخرى فإن بحثها يكون دائماً جزئياً؛ فعالم النفس قد يبحث في تصنيف استجابة فئة من الناس لأشكال فنية معينة، أو في تحليل بعض السمات السيكولوجية التي تدخل في إطار العملية الإبداعية. وعلم الاجتماع قد يبحث في ارتباط ظواهر فنية معينة بظواهر اجتماعية معينة، أو يقوم بتحليل ظاهرة أو بعض من الظواهر الاجتماعية كما تتجلى في أعمال فنية بعينها أو لدى أديب معين، كما هو الحال في علم الاجتماع الأدبي.
وعلاوة على ذلك؛ فإن ما يميز علم الجمال عن غيره من العلوم التي تدرس الفن أن البعد الجمالي للفن هو ما يشكل محور اهتمام علم الجمال، في حين أنه يكون غائباً –على أفضل تقدير- يكون في الدراسات الأخرى للفن: فالكلام عن الفن في هذه الدراسات يكون غريباً -أي من الخارج- من حيث نسبته أو علاقته أو دلالته على موضوع آخر. وليس من حيث هو موضوع يدرس في ذاته ويطلب لذاته باعتباره موضوعاً لخبرة جمالية لا تهدف إلى معرفة شيء وراءه؛ أي أن علم الجمال يجعل الجانب الجمالي للفن بؤرة اهتمامه، ويحول الجوانب الأخرى من الفن التي تدرسها العلوم الأخرى إلى الخلفية.

مثل هذا التركيز على الجانب الجمالي ووضعه في بؤرة الرؤية والبحث أمر حتمي وضروري، ولا يحدث كمصادفة أو مسألة عابرة مثلما يحدث لنا غالباً عند تركيز الانتباه على موضوع ما يصادفنا أثناء انشغالنا بأمور عديدة، فالكلام عن البعد الجمالي للفن هو كلام عن ماهية الفن. هذا يعني أن مهمة الناقد تتعلق دائماً بعمل فني جزئي ما. وفي مقابل ذلك، فإن فيلسوف الجمال لا يكون مشغولا في المقام الأول بعمل فني ما، بل بالعمل الفني على وجه العموم، وبقضايا عامة حول الفن وتذوقه وإبداعه، بل ونقده أيضاً.
وليس معنى ذلك أن الصلة مقطوعة بين الناقد وفيلسوف الجمال، بل إن العكس هو الصحيح؛ فالعلاقة بينهما وثيقة: فالفيلسوف يمارس أحياناً مهمة الناقد حينما يرجع إلى أمثلة أو حالات جزئية من الأعمال الفنية لفحص ومراجعة مقولاته العامة عن الفن. والحقيقة أن ممارسة الفيلسوف لمهمة الناقد لا ينبغي النظر إليها باعتبارها أمراً اختيارياً أو ترفاً فكرياً؛ وإنما يجب النظر إليها باعتبارها أمراً لازماً لزوماً منطقياً، وإلا فإن النظريات الجمالية حول الفن تصبح مقطوعة الصلة بالفن، ولذلك تقول آن شبرد في ملاحظة عابرة: "لا شك أن علم الجمال الفلسفي يعرض نفسه لأن يصبح عقيماً، إذا ما قطع صلته بوقائع الخبرة الجمالية وبنقد الأعمال الفنية الجزئية". فعلم الجمال إذاً يجب أن يبقى دائماً على صلة لا تنقطع بمجال وقائع الفن أو النقد التطبيقي، حتى عندما يتعرض لمسائل بالغة التجريد.

الاستطيقي أو الجميل في الفن

إن علم الجمال ليس هو العلم الذي يبحث في الجمال بإطلاق؛ وإنما هو بحث في نمط أو قطاع خاص من الجمال: هو الجمال المعطى من خلال خبرتنا بالعمل الفني؛ فالاستطيقي أو الجمال الفني ليس هو ما تعارفنا على تسميته بكلمة الجمال، وإنما هو نمط خاص متميز من الجمال قد يكون مضاداً لمفهوم الجمال بمعناه الدارج، وقد يكون مختلفاً عنه، وقد يكون غير متعلق به بأي علاقة. وهذه الحقيقة نبرهن عليها بثلاث طرائق مختلفة:
الطريقة الأولى: البرهنة بطريق السلب
والمقصود بها هنا تمييز الاستطيقي عن الجميل بمعناه المألوف، بأن نبين كيف يمكن التعبير عن الاستطيقي في العمل الفني من خلال موضوع من الموضوعات التي نعتبرها "غير جميلة" بالمعنى الذي نستخدم به هذه "الصفة السلبية" في سياق حياتنا اليومية، لنصف بها الموضوعات القبيحة أو الشريرة أو الموضوعات التي تثير نفورنا واشمئزازنا بوجه عام.
فصفة الجمال التي ننسبها إلى الاستطيقي هي تسمية له، ولكنها لا تكشف عن طبيعته، فهي أشبه بأمارة أو علامة على أن الموضوع الفني الاستطيقي يعد عملا حقيقياً قادراً على أن ينال إعجابنا ويثير متعتنا.
الطريقة الثانية: البرهنة عن طريق الإيجاب
ويقصد بهذه الطريقة أن الاستطيقي ليس مرادفاً للجميل عن طريق إثبات أن الاستطيقي يكون متميزاً عن الجميل حتى حينما يكون هذا الأخير موضوعاً له. ولا شك أن هذه الطريقة في البرهنة تعد أكثر صعوبة من الطريقة السابقة؛ لأن برهاننا السابق كان يحاول إثبات أن الموضوعات التي نعدها غير جميلة يمكن أن تتحول من خلال الفن إلى موضوعات استطيقية.
وبذلك فإننا كنا نميز بين موضوعين مختلفين في الأصل، وكأن جهدنا ينحصر فقط في بيان كيف يتحول أحدهما (القبيح مثلا) إلى الآخر (الجمال الفني)؛ أما برهاننا هنا فيحاول إثبات أن الموضوعات التي نعدها في الطبيعة موضوعات جميلة يمكن أن تتحول إلى موضوعات استطيقية مغايرة لها، أي أننا نحاول إثبات أن الجمال الفني يكون شيئاً آخر غير الجمال الطبيعي حتى حينما يكون الجمال الطبيعي هو الموضوع الذي يتمثله الفن، وبذلك فإننا نميز بين موضوعين ننسب إلى كل منهما صفة الجمال، بل إننا قد نظنهما موضوعاً واحداً حينما نتأمل عملا فنياً ما يصور موضوعاً جميلاً.
الطريقة الثالثة: البرهنة عن طريق التحييد
يقول توفيق سعيد يمكن أن نبرهن على قضيتنا بطريقة ثالثة، وهي أن الجمال الفني قد لا يصور أو يتمثل أي موضوع على الإطلاق. وهنا يصبح الاستطيقي أو الجمال الفني موضوعاً محايداً، فإذا كان الموضوع الطبيعي يعد محايداً من الناحية الاستطيقية؛ فإن الاستطيقي بدوره يمكن أن يكون موضوعاً محايداً بالنسبة للطبيعة، أي لا يشير إليها لا سلباً ولا إيجاباً.
ولكن من الضروري أن نلاحظ هنا أننا عندما نقول إن الاستطيقي قد يكون محايداً لا يصور أو يتمثل أي موضوع على الإطلاق؛ فإننا لا نعي بذلك أن الاستطيقي يمكن أن يكون بلا مضمون أو بلا تعبير، فالاستطيقي هو دائماً موضوع جمالي يُقدم لنا من خلال عمل فني يعبر عن مضمون ما؛ فليس هناك عمل فني بلا مضمون، وهذا المضمون قد يكون شعورياً وجدانياً أو تخيلياً... فما نقصده هنا إذًا هو أن الاستطيقي حينما يكون موضوعاً محايداً، يصبح حينئذ موضوعاً لا يشير إلى شيء خارجه من موضوعات العالم الخارجي، أي يصبح تعبيراً مجرداً أو صورة خالصة تعبر عن أي شيء دون أن تشير إلى أي شيء.

الخلاصة هي أن البحث الجمالي يمكن أن يمتد – متأسساً على المباحث الأخرى في العمل الفني والخبرة الجمالية- إلى دراسة التعبير الجمالي عن الوظائف والدلالات المتنوعة التي يضطلع بها الفن، أي الكشف عن الكيفية أو الأسلوب الذي يعبر به الفن عن هذه الوظائف والدلالات في سياق جمالي؛ فالبحث الجمالي يمكن أن يكشف -على سبيل المثال- عن أسلوب تعبير الفن عن البعد الميتافيزيقي للفن أو دلالته بالنسبة للحياة والوجود، أي يكشف عن هذه الدلالات كما يتم التعبير عنها بلغة الفن. فلغة الفن، لغة التعبير الجمالي، هي ما ينبغي أن يكون حاضراً على الدوام أمام وعي الباحث في علم الجمال، حتى عندما يكون موضوع بحثه هو المضامين الدالة على أشياء وموضوعات وعوالم تقع خارج الفن.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها