الإطار

محمد عباس علي داود

القفز من الحلم ليس هوايتي، لكنني وجدتني لا أمتلك خياراً غيره وأنا أرى المرحومة وفاء تلاحقني وتصر على مواجهتي قائلة: إنني لا أستحق ما تكنه لي من مشاعر وما تحفظه لي من وُدٍ قديم.

عيناها تحملان لوماً لم أكن -في حياتها- أستطيع مقاومته، دوماً كنت أقدم الاعتذار راجياً ألا تغضب مني، فهي عيون ذات قدرات خاصة تمتلك طاقة تعبيرية هائلة، إذا ضحكت دفعتك دفعاً للضحك معها، وإذا غضبت فالويل لك من لومها وتقريعها لك ولو لم ينطق لسانها بحرف.

كانت في لحظات الصفاء بيننا تطلب أن نتفق على الارتباط بعد الموت أيضاً، فتكون زوجتي في الجنة إن شاء الله، وكنت أرحب بهذا، وتأكيداً لهذا الارتباط بعد موتها وجدتني أضع صورها بكل حجرة من الشقة، فهي في حجرة النوم تنظر باسمة العينين ولا تنسي أن تهمس لي قبل إغلاق عيني بتحية المساء، وحينما أفتح عيني صباحاً تبادرني ببسمة يشرق لها يومي كله، وهي أيضاً بالردهة تودعني عند خروجي وتستقبلني عند عودتي، وإذا تأخرت لسبب ما أجد وجهها متغيراً ونظرة اللوم بانتظاري فأحني رأسي وأحاول الإفلات من بريق نظراتها.

كل هذا كان شيئاً عادياً فهي معي ولا أعترف نفسياً برحيلها إلى أن دخلت سعاد حياتي، الحقيقة أن دخول سعاد حياتي لم يكن مرة واحدة، بل كان مثل الشروق انسل رويداً
فامتلكني ولم يدع لي فرصة للسؤال كيف أو لماذا.

سعاد زميلة العمل، تعرف ظروف مرضي، تسألني كثيراً كيف أواجه الصمت وبرودة الجدران وحدي، تذكر المرحومة وفاء دوماً بالخير، تحادثني عن زوجها الراحل، عن أيامها بعده.

فكرة الزواج بها لم تخطر لي على بال، وفاء حولي بالشقة تلازمني باليقظة، ولا تتركني أرتاد وادي الأحلام وحدي.

فترة مرضي الأخير اضطرتني للانقطاع عن العمل أياماً، علمت بمرضي من بعض الزملاء، أتت ومعها الطبيب الذي أوصاها برعايتي فلم تتأخر، صارت تحفظ أوقات الدواء وموعد إعطاء الحقن وتجهز الطعام، وحينما استطعت الوقوف على قدمي سألتني:
- ماذا ستفعل إذا عاودك المرض من جديد؟

قلت لها الحل الذي خطر على بالي لحظتها:
- أتزوجك.

فتزوجنا.

..

حينما تحدثنا أنا وسعاد عن الزواج أول مرة كان أول ما تبادر إلى ذهني ماذا ستقول وفاء؟

فكرت أن أبوح لسعاد بمخاوفي، لكنني لم أجرؤ على هذا فالتزمت الصمت، قبل دخول سعاد البيت لم أستطع نقل صور وفاء من مكانها، لكنني لم أستطع ترك صورتها في غرفة النوم، قمت بنقلها وأنا أتحاشى النظر في عينيها وظننتني نجحت كثيراً في هذا، واسترحت أكثر حينما وجهت وجه الإطار للحائط، بعدها بدأت رحلتي الجديدة مع سُعاد، كان هذا في اليقظة، لكنني لم أسلم من وفاء في عالم الأحلام، فقد وجدتني كلما ولجت باب الحلم أجدها بانتظاري، مرة تبتسم لي وتحدثني عن عهدنا وتطلب مني ألا أنساه، وأنا بطبيعة الحال أسايرها وأقسم لها أنني أحفظ العهد، ومرة أخرى تجابهني بنظراتها اللائمة معاتبة لي على خيانتي لها قائلة:
- الرجال جميعهم هكذا بلا أمان.

ولا أجد ما أقوله أمامها، وأشعر بحرج شديد لارتباطي بغيرها، أحاول أن أحدثها عن برودة الجدران وأغلال المرض، وعن ظلال الصمت المترامية حولي ليل نهار، وعن أيامي التي أصبح لها لون واحد لا يتغير هو لون التعاسة، فلا تسمع لي، هي فقط تنظر بلوم لا يغيب، أهرول مضطرباً هارباً من الحلم هابطاً إلى اليقظة لاهث الأنفاس، تستيقظ سُعاد فتسألني عما بي، أتمتم ببعض الكلمات وأعود للنوم محاولاً ألا أطرق باب الأحلام من جديد.

اليوم هرولت هارباً من الحلم كعادتي إلى اليقظة وقد ظننت أنني هربت منها.

فتحت عيني.

وجدتها أمامي

ازددت اضطراباً ودرت حول نفسي تائهاً بين الحلم واليقظة وهي تملأ المكان حولي، تحادثني وتضحك لي كما لم تفعل من قبل.

لم تكن عيناها تحملان لوماً ولم تكن كما رأيتها في الحلم عاتبة على شيء، تابعتها وهي تتجه إلى الإطار الذي يحمل صورتها وتعيده إلى غرفة النوم من جديد، لم أستطع أن أسألها لماذا، بعدها خرجت من باب الحجرة بهدوء فاسترحت وعدت للنوم.

في الصباح لم أصدق ما أرى.

الإطار معلق في حجرة النوم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها