
يتضمن كتاب مقهي ريش.. عين على مصر، أحدث مؤلفات الأديبة الإماراتية المقيمة في مصر ميسون صقر القاسمي الصادر عن دار نهضة مصر بالقاهرة دراسة شيقة في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، لم تكتف فيه الباحثة بتناول المقاهي، لكن جهدها امتد لمعالم كثيرة في مدينة القاهرة.
تصحبنا الكاتبة ميسون صقر في رحلة رائعة في القاهرة الخديوية، حيث عبق التاريخ وسحر الماضي وكفاح شعب وآمال مثقفين بين ميادينها وشوارعها ومبانيها من قصور وسرايات وتماثيل وفنادق، بل وتتناول أبرز المعماريين الذين أبدعوا وتركوا بصماتهم التي أضافت سحراً وجمالاً لأجمل وأعرق عاصمة في الشرق الأوسط.
لم تكن معالم القاهرة التي تناولتها الكاتبة من الحجارة والحديد والإسمنت، لكنها مشاعر وعشق وتأمل وإبداع لتاج الشرق وأيقونته، وهي حين تطوف تصل إلى مقاهي مصر التاريخية التي تنقسم بين أفرنجي وشعبي ومقاهٍ للخرس أو البكم! ثم تمر على هذه المقاهي مثل: الفيشاوي، وقشتمر، والبوستة، ونوبار والتجارة، والكتب خانة، والمضحكخانة، وعرابي واللواء والبورصة، وغيرها من المقاهي الشعبية ذات التاريخ، ثم تتناول المقاهي الأفرنجية مثل: متاتيا والأمريكين والجريون، وعلي بابا ووندسور، واستوريل وجروبي، حين تمر الكاتبة على هذه المقاهي فهي تربطها بأحداث تاريخية وأدبية وفنية، كما تربطها برموز ترددوا عليها أو تناولوها في كتاباتهم مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، ومصطفى كامل، وسعد زغلول وقاسم أمين والعقاد، ونجيب محفوظ، الذي ارتاد الكثير من هذه المقاهي، وإبراهيم المازني وخيري شلبي، ولينين الرمللي، وكثيرين من زعماء ومفكرين وأدباء وفنانين كان المقهى هو وسيلة التواصل الاجتماعي السائدة في ذلك الوقت.
ويركز الكتاب على مقهى ريش كأحد نقاط السحر في وسط المدينة، منذ أن اختار مالكه الأول ميشيل بولتيس اليوناني المغامر محب الفن والثقافة، هذا المسار، وصولا لعائلة عبد الملاك التي لا تزال تديره وتحافظ عليه كإرث ثقافي يتجاوز الخاص إلى العام.
ويكشف الكتاب كذلك عن الدور الذي لعبه في إنتاج الأفكار وبلورة صيغ فريدة للحوار اقترنت بمحطات التحول الرئيسة وبصورة جعلته أحد المعالم الثقافية الرئيسة في عمارة المدينة التي تقاطعت مع الشأن العام. وهي تفتتح كتابها بعبارة تقول فيها: للأماكن روح تتنفس، وحضور يتجسد، وحنين يطاردنا.
أسس المقهى وأطلق عليه اسم ريش رجل الأعمال الفرنسي هنري ريسنييه، وحرص على أن تكون به لمسة من المقاهي الفرنسية، ثم تعاقب على ملكيته أربعة أجانب آخرون، معظمهم من اليونان، حتى اشتراه في عام 1962 المحاسب عبد الملاك ميخائيل وكان أول مصري تؤول إليه ملكية المقهى.
استطاع المقهى عبر ملاكه ومستأجريه الستة أن يكون مرآة تعكس ما استقر في الوجدان العام باسم الروح المصرية، وهو ما ميز فترة مالكه الثالث ميشيل بوليتس، اليوناني المغامر محب الفن والثقافة، الذي يعد مؤسس نهضة ريش، فقد وعى دوره، وخاض حرباً إدارية مع البوليس من أجل أن يلحق بحديقة المقهى كشكاً للموسيقى، ثم مسرحاً، استقطب نجوم الطرب والغناء في تلك الفترة، وبعد مماطلة البوليس في إعطائه الترخيص بحجة إزعاج السكان، تضامن السكان مع الفكرة ووقعوا على عريضة شعبية بقبولها، فشقت طريقها إلى الوجود قبل أن يحصل بوليتس على التصريح بذلك رسمياً. لقد تشبع بوليتس بالروح المصرية، وكانت الحافز وراء نظرته لتوسيع أنشطة ريش، ليصبح بمثابة ملتقى متنوع للثقافة والفن، ثم يأتي لقاء نجيب محفوظ أو ما عرف بقعدة الجمعة، التي أصبحت بمثابة دفتر أحوال الحالة المزاجية المصرية المفتوحة على هموم السياسة والثقافة والنضال.
يجسد الكتاب هذه الحالة بعمق وينفتح على تخومها بمخيلة خصبة، كما يرسم صوراً وبورتريهات لها، تنبض بملامح أزمنة وأمكنة وخطوات بشر معظمهم رحل لكن لا تزال أرواحهم تسكن المكان.
تقول ميسون صقر: "يمثل الكتاب رحلة بحث، بدأت من الشغف الشخصي بتاريخ المكان الذي يظهر كأيقونة في حكايات المثقفين، واستمرت الرحلة لما يقرب من عشر سنوات".
وأضافت: "بدأت من توثيق صور ووثائق تظهر في الكتاب للمرة الأولى بعد أن أتاحتها عائلة ملاك المقهى، وكشفت عن أزهى لحظات التاريخ المصري الحديث منذ ثورة 1919، وحتى ثورتي يناير 2011 و30 يونيو 2013.
واعتبرت القاسمي أن الكتاب يمثل مدخلاً فريداً لتناول تاريخ القاهرة ورحلتها من منظور اجتماعي/ ثقافي، واستهدف بناء سردية جديدة لهذا التاريخ تأسست على التفاصيل الصغيرة، وما يسميه المؤرخون التاريخ من أسفل.
يظهر المقهى في الكتاب كحاضن اجتماعي ووثيقة انتماء تعتمد إلى جانب المرئي والمكتوب على الكثير من المرويات الشفاهية، وتعمل على التحقق منها بمختلف آليات التحقيق والبحث التاريخي العميق.
تنظر لها المؤلفة بعين الشك أحياناً، وفي أحيان أخرى بعين الاختلاف لكنها لا تحرم القارئ من لحظات تبثت هذا الماضي وتستدعيه، لتبدو الحكايات حوله كما لو كانت أساطير، تتجدد مع تعدد طرق سردها.
تعاملت المؤلفة مع متنوعة تضمنت الصور، والمكاتبات الرسمية والمراسلات التي قدمها فاعلون في تاريخ مصر، فضلاً عن الطوابع البريدية، والإعلانات التي كشفت عن الدور الحيوي الذي لعبته المقاهي في الحياة الفنية سواء في المسرح أو عالم الموسيقى والغناء، كما وثق الكتاب لقصص الحب التي نمت في فضاء ريش وأشهرها تجربة الشاعر أمل دنقل، مع الناقدة عبلة الرويني، وعبد الرحمن الأبنودي وزوجته الأولى المخرجة عطيات الأبنودي.
جاء الكتاب في 650 صفحةً، وأربعة فصول، تناولت فيها ميسون القاهرة الخديوية، والمقاهي في حاضرة القاهرة، ودفتر أحوال مقهى ريش، وأخيراً مقهى ريش.

مؤلفة الكتاب ميسون صقر القاسمي ولدت في الإمارات العربية المتحدة سنة 1958. تخرجت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قسم علوم السياسة عام جامعة القاهرة 1982. أقامت في القاهرة بين عامي 1964، عملت من سنة 1989 وحتى 1995 في المجمع الثقافي في أبو ظبي رئيسة للقسم الثقافي ثم لقسم الفنون، ثم لقسم الفنون والنشر، ولها تسع مجموعات شعرية، هي: هكذا أسمي الأشياء، والريهقان وجريان في مادة الجسد، والبيت في عام، والآخر في عتمته ومكان آخر، والسرد على هيئته، وتشكيل الأذى، وأخيراً رجل مجنون لا يحبني، كما أصدرت ديوانين باللهجة العامية المصرية هما: عامل نفسه ماشي، ومخبية في هدومها الدلع.
وأقامت ميسون صقر القاسمي تسعة معارض تشكيلية في القاهرة والإمارات العربية المتحدة، والأردن، والبحرين، كما شاركت في معرض الفنانات العربيات في الولايات المتحدة الأميركية.